logo

الموقف الشرعي عند نزول الوباء


بتاريخ : الأحد ، 20 رجب ، 1441 الموافق 15 مارس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الموقف الشرعي عند نزول الوباء

عالم اليوم يمر بأزمات ومحن ومصائب كثيرة، لعل منها أزمة انتشار الأوبئة والأمراض والطواعين الفتاكة التي تفتك بالبشر ولم تكن على سالف عهدهم؛ بل وتفتك بالحيوانات العجماوات التي يعتمد عليها الناس في طعامهم وشرابهم، فقد سمعنا بوباء جنون البقر، وحمى الوادي المتصدع، وانفلونزا الطيور والخنازير، والآن وباء كورونا الذي ضرب في الصين أولًا وبدأ ينتشر في أنحاء العالم، وقد حار العلماء في معالجته، وخلف عددًا كبيرًا من الوفيات، وخسائر اقتصادية، ما جعل العالم يدق أجراس الخطر، وتتوالي الجهود لمحاربته ووقف انتشاره، ناهيكم عن الرعب والخوف من نتائجه ومآلاته.

ونقف اليوم هذه الوقفات لنبين الموقف الشرعي في التعامل مع الأوبئة، فإن الناس مع ضعف عقائدهم وقلة علمهم بالشرع يتخبطون ويتعلقون بالأسباب المادية البحتة، وينسون الأسباب الشرعية التي تحميهم من الوباء والبلاء.

إن الله تبارك وتعالى قد يبتلي العباد ويمتحنهم ليعلموا فقرهم وحاجتهم إليه، وأنه لا غنى لهم عنه، رغم ما تقدموا فيه من العلم، ورغم ما وصلوا إليه من الطب، ورغم ما عندهم من المال، إلا أنه يبقى حائلًا دون كشف الكربات وقضاء الحاجات، فلا يكشف الضر إلا الله، ولا يدفع البلاء إلا الله، ولا يشفي من المرض إلا الله، القائل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

وقد عالج الإسلام موضوع الأوبئة وذلك قبل وقوع الوباء وبعد وقوعه وانتشاره؛ فقبل وقوع الوباء لا بد على المسلم أن يعلم أن القضاء قد يكون خيرًا وقد يكون شرًا، ومن أركان الإيمان الإيمانُ بالقدر خيره وشره، فالمرض من الله، والشفاء من الله، والموت من الله، والحياة من الله، فهذا من الثوابت التي لا ينازع عليه مسلم في اعتقاده، وأن الله تعالى إذا أنزل المرض فهو الذي أنزل الشفاء منه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دواءُ الداء، بَرَأَ بإذن الله عزَّ وجل» (1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء» (2).

فعلاج كل الأوبئة والأمراض الفتاكة وغيرها هو عند الله، وقد يعلمه من يشاء من عباده ويخفيه عمن يشاء امتحانًا منه وابتلاءً؛ حتى يرجع العباد إلى خالقهم ومولاهم ويسألونه ذلك العلاج والشفاء.

هدي الإسلام في التعامل مع الوباء:

ومن هدي الإسلام في التعامل مع الوباء عدم الذهاب إلى الأرض التي ينتشر فيها، وعدم الخروج منها، يدل لذلك ما جاء عن سعد بن أبي وقاص، أنه سأل أسامة بن زيد، ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارًا منه» قال أبو النضر: «لا يخرجكم إلا فرارًا منه» (3).

وعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني «أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» (4).

قال المهلب وغيره: لا يجوز الفرار من الطاعون، ولا يجوز أن يتحيل بالخروج في تجارة أو شبهها وهو ينوى بذلك الفرار من الطاعون (5).

وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم، حكاه ابن المدائني.

ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]، ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده.

وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد؛ ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بحلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانًا للبلاد ومعونة للمستضعفين.

وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذًا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعًا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه؛ فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم.

وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار، فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت (6).

ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله الحكم فيما ينبغي على الناس في مرض الطاعون وما شابهه من الأوبئة، وهو أن من كان خارج نطاق المرض والوباء فإنه ممنوع من القدوم على المكان الموبوء ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 95]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

والمشروع لمن كان داخل البلد ونطاق البقعة الموبوءة ألا يخرج من مكانه ذلك، لما في الخروج من المفاسد العديدة؛ فقد يؤدي إلى اتساع نطاق الوباء فيضر بالمسلمين انتقاله، ولهذا قال أهل العلم: إن المرض ليس مختصًا بالبقعة، ولكنه متعلق بالأشخاص، فالخروج لا يغني عن المرء شيئًا؛ بل إنه يفاقم الحالة.

والحكمة في النهي عن الخروج من بلد الوباء هو حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر على أقضيته والرضا بها.

وهذا الحديث يدل على أن الإسلام سبق إلى ما يسمى بالحجر الصحي، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الاختلاط بأهل المرض المعدي فقال: «لا يورِدنَّ مُمْرِضٌ على مُصِح» (7).

نهى منه الممرض أن يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحيحة؛ لئلا يتوهم المصح إن مرضت ماشيته الصحيحة أن مرضها حدث من أجل ورود المرضى عليها؛ فيكون داخلًا بتوهمه ذلك في تصحيح ما قد أبطله النبي عليه السلام من أمر العدوى.

والممرض: ذو الماشية المريضة، والمصح: ذو الماشية الصحيحة.

وقد تأول يحيى بن يحيى الأندلسي في قوله: «لا يحل الممرض على المصح» تأويلًا آخر، قال: لا يحل من أصابه جذام محله الأصحاء فيؤذيهم برائحته وإن كان لا يعدو، والأنفس تكره ذلك، قال: وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغي له أن يحل مورده الأصحاء إلا ألا يجد عنها غناء فيرد (8).

وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخبر أن الوباء والطاعون قد وقع بالشام، واستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بعضهم بالمضي قدمًا، وأشار عليه البعض الآخر بعدم الدخول حفاظًا على أنفس من معه من الصحابة؛ فقرر عدم الدخول، فاعترض عليه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بقوله: يا أمير المؤمنين أفرارًا من قدر الله تعالى؟ فقال له: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؛ نعم نفرّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله (9).

فقد بين رضي الله عنه أن أخذ الحيطة والحذر من الوباء والمرض من قدر الله تعالى ولا ينافي التوكل عليه.

أما عن كيفية معالجة الوباء والمرض بعد الوقوع فيه فيكون بعدة أمور أيضًا منها:

أن يوقن المصاب أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن يسلم بقضاء الله وقدره، ويعلم أن القضاء والقدر منه خير ومنه شر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيرًا له» (10).

فقد يكون إصابته بالمرض رفعة لدرجاته وتكفيرًا لسيئاته حتى يلقى الله وما به من الذنوب شيء، وأن إصابته تلك إن أدت إلى وفاته كان سببًا في استشهاده ولحوقه بالشهداء، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم» (11)، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بالمصابين بالأوبئة.

وكذلك نشر الوعي الصحي المكثف ببيان مسببات المرض وكيفية تجنبه وأهم أعراضه لمداواته، وفي الحين نفسه ينبغي أن يُقوي عند الناس جانب التوكل وتفويض الأمر لله والثقة به جل وعلا تعالى، فيقترن الأمران ببعضهما، قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، والمعنى أننا والخلق جميعًا تحت مشيئة الله وقدره وهو سبحانه مولانا أي: ملجؤنا ومتولي تصريف أمورنا، فعلينا الرضا بأقداره وتفويض الأمور إليه.

إن الطاعون قد يكون ابتلاء من الله تعالى وعذابًا من عنده كما أرسله على بني إسرائيل.

عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم» (12).

فهذا وباء استنفرت لأجله وزارات الصحة في العالم و‏أغلقت بسببه مدارس وجامعات وعطلت مصالح و‏هز اقتصاد العالم وهو ‏فيروس لا يرى بالعين المجردة، فما أضعف الإنسان أمام قدرة الله؛ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].

مخلوق ركب الطائرات بلا تذاكر، وتجاوز نقاط التفتيش بلا تحايل، ودخل الدول بلا جوازات، وعبر القارّات مع شدّة التدابير والاحترازات، ذلك ليعلم العالَم أن أمر الله نافذ، وأنه على كل شيء قدير: {وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ} [الرعد: 11].

وإذا كانت الدول والشعوب تقلق وتخاف من انتشار الأوبئة والأمراض، وتتخذ كافة السبل وتجند كل الطاقات، وتشتري كل الأدوية مهما غلا ثمنها؛ وهذا أمر مطلوب وواجب، ولكن أما تنبه الناس إلى مرض خطير وفتاك يفتك بالأمم والشعوب وضرره على الناس أشد ضررًا من السموم على الأبدان؛ ألا وهو داء الذنوب والمعاصي؟ والشرك بالله ومخالفة أمره من أعظم أسباب البلاء وحلول الآفات واندثار الخيرات وقلة البركات، وإن من الوقاية من الذنوب والمعاصي الأمر بالمعروف والنهي من المنكر فهو صمام الأمان من هلاك الأمم والجماعات قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

فالواجب أن تتكاتف الجهود في القضاء على وباء المعاصي والمنكرات حتى لا تغرق السفينة، فالذنوب والمعاصي هي سبب البلاء والنقمة ونزول الآفات، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة (13).

وينبغي لمن بلغته مصيبة، أيَّاً كانت هذه المصيبة أمور:

أ- الصبر؛ فيسن الصبر على المصيبة، ويجب منه ما يمنعه عن المحرم (14).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والصبر واجب باتفاق العلماء (15).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والصبر واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر (16).

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اتقي الله واصبري»، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه! فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (17).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الصبر عند الصّدمَة الأولى» المعنى: إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتَب عليه الأَجر؛ قال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأَة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه مع الأيام يسلو؛ وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يُؤجر على المصيبة لأنّها ليست من صنعه، وإنَما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره؛ وقال ابن بطّال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأَجر (18).

قال الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويَتَنَجَّز ما وعد الله الصابرين، قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157]، ويسترجع (19).

 ب- الرضا بالقضاء والقدر والتسليم التام لله عز وجل، وهذه الصفة هي من أعظم صفات المؤمن المتوكل على الله، المصدق بموعود الله، الراضي بحكم الله، وبما قضاه الله تعالى وقدره، بل الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، الواردة في حديث أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الطويل وفيه قال: «فأخبرني عن الإيمان»، قال صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (20).

ج- أن تعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان؛ لذا فهي مليئة بالمصائب، والأكدار، والأحزان، كما قال ربنا الرحمن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وقال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].

د- تذكر ثواب المصائب، والصبر عليها، وإليك شيئًا منه:

1-  دخول الجنة: قال الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23- 24].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» (21)، وصفيه هو حبيبه المصافي كالولد، والأخ، وكل من يحبه الإنسان، والمراد بقوله عز وجل (ثم احتسبه): أي صبر على فقده راجيًا الأجر من الله تعالى على ذلك (22).

2- الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا)23).

3- معية الله للصابرين، وهي المعية الخاصة المقتضية للمعونة والنصرة والتوفيق، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

4- محبة الله للصابرين، قال تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

 5- تكفير السيئات لمن صبر على ما يصيبه في حال الدنيا، كبر المصاب أم صغر؛ قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا همٍ، ولا حزن، ولا أذىً، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه»)24)، والنصب التعب، والوصب: المرض، وقيل هو المرض اللازم.

قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: المصائب كفارات جزمًا سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقتران بها الرضا عظم التكفير وإلا قل )25).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (26).

 6- حصول الصلوات، والرحمة، والهداية من الله تعالى للعبد الصابر؛ قال الله عز وجل: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّنس رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].

7- رفع منزلة المصاب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى» (27)، (28).

وقد ذكر ابن القيم أمورًا؛ منها:

1- أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

2- أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متَّعت قليلًا منعت طويلًا، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما مليء بيت فرحًا إلا مليء ترحًا.

وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.

3- أن يعلم أن الجزع لا يردها –أي: المصيبة- بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.

4- أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.

5- أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.

6- أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك «بيت الحمد» الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد، وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس .

7- أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.

8- أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يفتقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل :

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت      ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

9- أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه، كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (29) (30).

قال ابن القيم: وقال لي مرة –يعني شيخ الإسلام- ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إنّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها (31).

________________

(1) أخرجه مسلم (2204).

(2) أخرجه النسائي (7513).

(3) أخرجه البخاري (3473).

(4) أخرجه البخاري (3474).

(5) شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 326).

(6) تفسير القرطبي (3/ 234).

(7) أخرجه البخاري (5771).

(8) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 450).

(9) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).

(10) أخرجه مسلم (2999).

(11) أخرجه البخاري (2830)، ومسلم (1916).

(12) أخرجه ابن ماجه (4019).

(13) وباء كورونا دروس ووقفات/ موقع مداد.

(14) الفروع (2/223).

(15) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:265).

(16) مدارج السالكين (2/ 158).

(17) أخرجه البخاري (1283)، ومسلم (926).

(18) فتح الباري (3/ 494- 495).

(19) المغني (3/ 495).

(20) أخرجه مسلم (9).

(21) أخرجه البخاري (6424).

(22) فتح الباري (13/20).

(23) تفسير ابن كثير (4/ 52).

(24) أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2572).

(25) فتح الباري (11/242- 243).

(26) أخرجه الترمذي (2399).

(27) أخرجه أبو داود (3090).

(28) حال الإنسان عند حلول المصيبة/ صيد الفوائد.

(29) أخرجه مسلم (2822).

(30) زاد المعاد (4/189–195).

(31) الوابل الصيب (ص: 110).