الحرية الدعوية
لقد امتن الله على العالم عامة وعلى العرب خاصة ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبها انتقل الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الظلم إلى العدل، ولم يتذوق العالم طعم المدنية الصحيحة ولا الإنسانية الكاملة، ولا الحرية والعدالة الحقيقيتين إلا بعد البعثة المحمدية، التي غيرت مجرى تاريخ البشر وتفكير العالم، ووجَّهته أحسن توجيه.
البعثة المحمدية صححت العقول الفاسدة، والمفاهيم الخاطئة للناس، وسمت بهم، فأصبحوا لا يؤمنون إلا بالله ربًا، ولا يعبدون إلا الإله الواحد القوي العزيز الذي لا إله إلا هو.
فبهذه البعثة الميمونة تحرر الضعفاء من الاستبداد والاستعباد، والأفكار والعقائد من القيود والخرافات والأوهام.
نجحت الدعوة الإسلامية في مكة وربوعها، وعلى العرب المتعصبين الضالين، ومن بعد نجحت في العالم شرقًا وغربًا، وسر نجاحها وتغلبها على العقبات والصعاب يرجع إلى المسلمين الذين تمسكوا بالعقيدة تمسكًا قويًا، بالإخلاص لها والتفاني في سبيلها، فقد كانوا يقدمون على المعركة في سبيل الله وهم قلة في عددهم وعدتهم؛ يجابهون كثرة من الأعداء، وهم في صلفهم وغرورهم، بخلاف المؤمنين الذين يلقون أعداءهم مستبسلين يرجون رضا الله، ولا عليهم في ذلك أعادوا إلى الديار سالمين منصورين أم فاضت أرواحهم إلى ربها راضية مرضية(1).
وما تزال الدعوة إلى الإسلام حتَّى يومنا هذا تلاقي ما لاقاه المسلمون الأوائل من الأذى والمحاربة من أعداء الحرِّية والخير والسَّلام، والمؤمن الحقيقي يتتبَّع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في نشر الدعوة، ويدرس مراحلها بعناية ليحسن التأسي بها؛ فلا قتال ولا عنف؛ بل صبر وهجرة، ولا استئثار في عمل الدعوة لرجل دون امرأة، فالكل مكلف والكل مسئول، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195](2).
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحرارًا في اعتناق هذا الدين، لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة، فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها، وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان، وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان.
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يُفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة، لا بالأذى ولا بالإغراء، ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة(3).
وحين نطلق، نحن المسلمين، لفظ الحرية فإنا لا نعني بها ذلك المفهوم الغربي؛ بمعنى التجرد من الدين والمبادئ؛ بل التحرر من سلطان ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، ومن سلطان الإقطاعيين والفكر الأجوف والتقليد الأعمى، فتلك الحرية نتاج فكر لا وجود له في الإسلام، وبالتبع فليست تلك الحرية من مقاصد الإسلام.
فلقد بوأ الإسلام الحرية منزلة لا تدعوها إلى الهجوم عليه؛ لأنها نابعة منه وقائمة عليه، فكيف تثور الحرية على قاعدتها الراسخة(4).
جاء الإسلام معلنًا حرية التفكير، محررًا العقول من الأوهام والخرافات والتقاليد، داعيًا إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل، ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل، فالقرآن يعتمد في إثبات وجود الله، ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام على استثارة تفكيرهم، وإيقاظ عقولهم، فيدعوهم إلى التفكير في خلق السماوات والأرض، وفي خلق أنفسهم، ويدعوهم الى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم، وما تسمعه آذانهم؛ ليصلوا من وراء ذلك الى معرفة الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل.
ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد، دون تفكير فيما يأتون وما يدعون، ويصف من كانوا كذلك بأنهم كالأنعام؛ بل أضل سبيلًا من الأنعام.
ونصوص القرآن صريحة في تقرير هذه المعاني، واقرأ إن شئت قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8]، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] (5).
وكانت الشريعة الإسلامية عملية حين قررت حرية العقيدة، فلم تكتف بإعلان هذه الحرية، وإنما اتخذت طريقين:
أحدهما: إلزام الناس أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقًا لعقيدته، فإن كان ثمة معارضة فلتكن بالحسنى ولبيان وجه الخطأ؛ فإن قبل صاحب العقيدة أن يغيرها عن اقتناع فلا حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا تهديده، واقرأ هذا المعنى صريحًا في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99].
الثاني: إلزام صاحب العقيدة أن يعمل على حماية عقيدته، وألا يقف موقفًا سلبيًا، فإذا عجز عن حماية نفسه كان عليه أن يهاجر إلى بلد آخر يحترم أهله العقيدة ويتمكن فيه من إعلان ما يعتقد، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه وارتكب إثمًا عظيمًا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء:97-98].
وجعلت الشريعة الإسلامية حرية القول حقًا لكل إنسان؛ بل جعلت القول واجبًا على المسلم في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام، وفي كل ما أوجبت فيه الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق، ويدافع بلسانه وقلمه عما يعتقده، فإن حرية القول ليست خارجًا على نصوص الشريعة وروحها.
ولقد قررت الشريعة حرية القول من يوم نزولها، وقيدت في الوقت نفسه هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله الذي جاء مبشرًا بالحرية وداعيًا لها، ليكون قوله وعمله مثلًا يحتذى، وليعلم الناس ألا يمكن أن يعفى أحد من هذه القيود إذا كان رسول الله أول من قيد بها، على ما وصفه به ربه من قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
لقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته للناس، وأن يدعوهم جميعًا إلى الإيمان بالله، وأن يحاج الكفار والمكذبين، ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ولكن الله جَلَّ شَأْنُهُ لم يترك لرسوله حرية القول على إطلاقها، فرسم له طريق الدعوة، وبيَّن له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وأمره أن يعرض عن الجاهلين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وألا يجهر بالسوء من القول {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وألا يسب الذين يدعون من دون الله {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].
وحرية القول في هذه الحدود تعود على الأفراد والأمم بالنفع، وتؤدي إلى نمو الإخاء والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع الكلمة على الحق، وتجعل الجماعة في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية، وهذا كله ينقص العالم اليوم أو يبحث عنه العالم فلا يهتدي إليه(6).
وجاهد الإسلام لتقرير حرية الدعوة، بعد تقرير حرية العقيدة، فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة، جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها، فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا إكراه في الدين، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا، ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض، تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتفتن المهتدين أيضًا، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظامًا عادلًا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة، وما يزال هذا الهدف قائمًا، وما يزال الجهاد مفروضًا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين.
وجاهد الإسلام ثالثًا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر، في جميع أشكالها وصورها، فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، إنما هنالك رب واحد للناس جميعًا، هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء، فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذًا لشريعة الله، موكلًا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ؛ حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداءً؛ لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد.
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام، وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيًا كانت عقيدته.
ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين، إنما هو البلاغ.
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه، وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية، ويزاولون فيها وظيفة الألوهية، بغير حق، ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء، ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقًا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض، ثم يدع الناس في ظله أحرارًا في عقائدهم الخاصة، لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية، أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار، وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة، ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم، في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضًا على المسلمين: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ}، فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض، ولا دينونة لغير الله(7).
وانظر إلى قول النجاشي: «ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العُودَ»، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: «وإِن نَخَرْتُم والله! اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي [والسُّيُوم: الآمنون] مَن سَبَّكُم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أُحب أن لي دبْرًا ذهبًا وإني آذيت رجلًا منكم [والدّبر بلسان الحبشة: الجبل] رُدّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله، ما أخذ الله مني الرِّشْوة حين رد علي ملكي فآخُذَ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه»، وأقام المسلمون عنده بخير دار مع خير جار(8).
إن دعوة التوحيد تصر، أول ما تصر، على التحرر من الدينونة لغير الله؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر، يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارًا، لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم، فهذا مناط تكريمهم، فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة، وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير الله من عباده، والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين، فهم كثرة، والمتجبرون قلة، ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين، من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال(9).
فرسالة الإسلام إذًا لم تحمل الناس على ظبا السيوف، ولم يعتنقها بعضهم تحت ظلال الحراب، وإنما كان طريق الإسلام دائمًا دعوة رقيقة وموعظة حسنة، مع دعم الرأي بالحجة والبرهان الناصع، فمن قبل الدعوة الإسلامية كان من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والناس سواء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ومن أبى الدخول في الإسلام فُرِضت عليه الجزية، دليلًا على إذعانه، وبرهانًا على حسن نيته للمسلمين، وتمهيدًا لهدايته، فعسى أن يشرح الله صدره للحق والخير، ويدخل في الإسلام هو أو ابنه من بعده، ومساهمة منه في جيش الدولة التي تحميه، ومن لم يقبل الدعوة ورفض أن يدفع الجزية وجب قتاله، وليس ذلك اعتداءً؛ بل ردًا لخطر لا شك في وقوعه، وتأمينًا للدعوة.
فالإسلام لا يطالبنا بأن نقاتل أهل الكتاب أو الوثنيين أو المجوس مثلًا من غير سبب، وإنما يطالبنا بأن ندعوهم إلى الإسلام، فإن تركونا أحرارًا في بث الدعوة وإقامة البراهين عليها فلا نقاتلهم، وإن قاوموا الدعوة أو اعتدوا على الدعاة قاتلناهم، تقريرًا لمبدأ الحرية الدينية، وحماية للدعوة، وكفًا لأذاهم، وقد طبق الإسلام هذا المبدأ مع المخالفين جميعًا كتابيين ووثنيين، فكان يعرض عليهم أولًا الدخول في الإسلام، فإن قبلوا ذلك كانوا كالمسلمين، وإن رفضوا هذا العرض وتمسكوا بمعتقداتهم مع ترك الدعاة أحرارًا وجب على المسلمين ألا يقاتلوهم أو يعترضوهم في شيء {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90].
فإن لم يقبلوا الإسلام واعترضوا دعوته وآذوا دعاته ونقضوا عهودهم كان ذلك إعلانًا منهم بالمناوأة، وهؤلاء نطالبهم بالجزية دليلًا على الخضوع وكف الأذى، فإن دفعوها أصبحوا رعية للدولة الإسلامية، عليها حمايتهم ورعايتهم وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، وكانت الجزية مقدار ما يتحملون من تكاليف الجيش الإسلامي المدافع عنهم، وإن رفضوا دفع الجزية قاتلناهم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [التوبة:29]؛ أي: عن قوة والحال أنهم خاضعون للحكم الإسلامي(10).
_______________
(1) كتاب التوحيد، المسمى: التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد، ص125.
(2) القرآن منهاج حياة (3/ 204).
(3) في ظلال القرآن (1/ 186).
(4) اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/ 779).
(5) الإسلام وأوضاعنا السياسية، ص268.
(6) المصدر السابق، ص271.
(7) في ظلال القرآن (1/ 295).
(8) الجامع الصحيح للسيرة النبوية (4/ 1273).
(9) التفسير القرآني للقرآن (5/ 758).
(10) التفسير الواضح (3/ 459).