logo

الدعاء والدعاة


بتاريخ : الأربعاء ، 19 محرّم ، 1441 الموافق 18 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاء والدعاة

يعد الدعاء من أكثر العبادات سموًا في الدين الإسلامي، وهو من إحدى وسائل الخطاب والمناجاة بين العبد وربه، حيث يشعر الداعي لربه بعد الصلاة والدعاء بتغذية روحه، ونقاء وصفاء قلبه، وطهارة جوارحه، ودواء من الأمراض الروحية والنفسية، وبالدعاء يقوى الإيمان، ويزداد التفاؤل، ويتخلص الإنسان من كل آثار اليأس .

قال الإمام الخطابي رحمه الله: «معنى الدعاء استدعاء العبدِ ربه عز وجل العناية، واستمداده منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود والكرم إليه».

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة»(1).

يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية، التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس، ولا سيما عند الشدة، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي، يفعل بالتكلف والقدوة، وقد يكون في الغالب خاليًا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة، وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية، حتى إن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه، سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر.

إنما العبادة، جد العبادة، في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس، عند وقوع الخطب وشدة الكرب، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء، واستعصاء الوسائل إليه، وتقطع الأسباب دونه، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات، وذوي الكربات عند حدوث الملمات، وفي هياكل العبادات، ولدى قبور الأموات، ذلك الدعاء الخالص الذي يغشاه جلال الإخلاص، ويمثل كل حرف من حروفه معنى الخشوع التام، وناهيك بما يفجره هذا الخشوع من ينابيع الدموع، ذلك الدعاء الذي يستغله سدنة الهياكل، ويستثمره خَدَمة المقابر، ويضن به ويدافع عنه رؤساء الأديان; لأنه أشد أركان رياستهم على العوام، ومنهم من يضن به; لأنه لا يرى لجمهور الجاهلين غنى عنه، ولا يرى في حيز الإمكان استبدال التوحيد به، على أن الموحدين أعلى إخلاصًا، وأشد حبًا لله وخشوعًا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة:165](2).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:

1- أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه.

2- أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن يخففه وإن كان ضعيفًا.

3- أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه(3).

الدعاء إلى الله تعالى نوع من العبادة والخضوع والتذلل، فإن الداعي يشعر دائمًا بالحاجة الملحة إلى ربه، والاستعانة بعزته وقوته، وطلب المدد والعون في المحن والبلايا، أو الاستزادة من الخير والتوفيق في وقت الرخاء والنعمة.

والدعاء إلى الله أمر مباشر بين العبد وربه، يسمع صوت عبده مهما كثرت أدعية العباد، ومهما اختلفت الألسنة، وإن كان الوقت واحدًا واللحظة واحدة، وسواء أكان الدعاء سرًا أم جهرًا، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟»، فسكت عنه فأنزل الله: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

وسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم: «أين ربنا؟»، فأنزل الله الآية السابقة: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.

الله قريب من عباده، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، يعلم أعمالهم، ويراقب أحوالهم، يجيب دعوة من دعاه مخلصًا له، قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله سبحانه.

إن ارتباط الدعاء بالدعوة، إن تأملنا، ارتباط وثيق، أن تدعو الناس إلى الاستقامة، وأن تدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان وإلى الإحسان، ومن فُتح له منكم باب الدعاء فُتحت له أبواب الرحمة، فلتكن دعوتنا رحمة بالعباد، ولتكن دعوتنا للعباد مقرونة بالدعاء.

إذا استعصى علينا شخص أو أشخاص أو عمل دعوي نلجأ إلى الله عز وجل ونستفتح بالدعاء.

لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، وتوعد المتكبرين بنار جهنم، فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فالدعاء مهم في حياة الإنسان كلها، فكم نَفَّسَ الله به من كربة، وكشف به من غمة، ورفع به من بلاء، وكم أعطى به من خير الدنيا والآخرة.

ومن جانب آخر فإن الدعاء له أهمية كبرى في الدعوة إلى الله، فكم فتح الله به قلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًا، وكم بدل الله به القلوب، وحول الأحوال.

ولقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، ومن الحكمة في الدعوة استخدام أنجح الوسائل والأساليب في دعوة الناس، والحرص على كافة السبل المؤدية إلى استجابتهم إلى تلك الدعوة، ومن الحكمة في الدعوة لجوء الداعية إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه للناس، إما في الدخول في هذا الدين، أو تطهيرهم مما هم فيه من الذنوب والآثام، أو الدعاء لهم بالثبات وأسبابه، أو الدعاء لهم بما يعينهم على أداء العبادات من أمور الدنيا.

أهمية الدعاء للدعاة:

1- إن هداية الناس بيد الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، فهو مالك القلوب ومصرفها؛ لذا كان على الداعية ألَّا يغفل عن اللجوء إليه سبحانه وتعالى لاستجابة الدعوة وصلاح الناس.

2- إن الدعاء هو نهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد كثير، ودعاء إبراهيم عليه السلام العظيم لهذه الأمة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129]، وقد ورد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه: «إني عبد الله لَخَاتَم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت»(4).

3- أمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم به، ومن ذلك قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، وهذا دعاء لهم بتطهيرهم من الذنوب.

4- غفلة بعض القائمين بالدعوة عن الدعاء في هذا الجانب، أو الجهل ببعض أحكامه، كحكم الدعاء بالهداية للمشركين، أو حكم الاستغفار لهم، والتفريق بين ما يجوز وما لا يجوز من الأدعية للكفار.

لذا فإن الداعية إلى الله سبحانه أمام عناد المدعوين، وإصرارهم على ما هم فيه من الأديان، يشعر أنه قد استنفد ما لديه من جهد ووسائل وأساليب، فما عليه إلا أن يلجأ إلى المولى سبحانه وتعالى، ويتضرع إليه أن يهدي أولئك الأقوام، ويدخلهم في دين الإسلام.

وقد دلت سيرة الأنبياء الدعوية، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على ذلك في مواقف، منها ما يلي:

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له قبل إسلامه نصيب من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب»، فكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب(5).

فكان الإسلام من نصيب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أعز الله به الإسلام، وخرج المسلمون بعد أن كانوا يختفون بإسلامهم في مكة، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه»(6).

دعوته صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة:

ومن ناحية أخرى، فإن أبا هريرة رضي الله عنه بذل كل ما في وسعه لدعوة أمه إلى الإسلام، إلا أنها رغم تلك الجهود لم تسلم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تكلمت في رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أبكى ابنها الداعي لها، عندئذ توجه أبو هريرة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الدعاء لأمه، فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم مفتاحَ قلبها لهذا الدين، يروي لنا أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الحدث فيقول: «كنت أدعو أمي إلى الإسلام، وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة»، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمِعَتْ أمي خشفَ قدميَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء، فاغْتَسَلَتْ، ولبِسَتْ درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر؛ قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا»(7).

دعوته صلى الله عليه وسلم لدوس:

ربما اجتهد الداعية، وبذل جهدًا كبيرًا في دعوة غير المسلم إلى الإسلام، ووجد القلوب أمام دعوته مغلقة، فهنا يجد مفتاحًا للقلوب، وهو اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه لهم بالهدى، فإن القلوب بيدي الله سبحانه وتعالى يصرفها حيث يشاء، ومعرفة هذا الأسلوب الدعوي من الأشياء المهمة في الدعوة إلى تعالى.

نجد إمام الدعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين امتنعت قبيلة دوس عن الدخول في الإسلام، توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى داعيًا لهم بالهداية، بدلًا من الدعاء عليهم، كما طُلب منه ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسًا، وأت بهم»(8).

دعوته صلى الله عليه وسلم لثقيف:

ونعرج أيضًا على قبيلة ثقيف؛ فقد كان لهم نصيب من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالهداية، فقد دعا لهم بدلًا من الدعاء عليهم، مع ما نال المسلمين من سهامهم آنذاك، فقد اشتكى الصحابة رضي الله عنهم.

فعن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أخرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، قال: اللهم اهد ثقيفًا، وجاء في بعض الروايات: «اللهم أهد ثقيفًا إلى الإسلام، وأت بهم مسلمين»(9).

وقد وفدت ثقيف بعد ذلك في شهر رمضان سنة تسع من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لهم كتابًا، وبعث معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية اللات(10).

الدعاء لأهل الكتاب:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لليهود بالهداية حيث كانوا يتعاطسون عنده، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم، يرجون أن يقول لهم يرحمكم الله، فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم»(11)، قال المباركفوي: «لا يقول لهم: يرحمكم الله؛ لأن الرحمة مختصة بالمؤمنين؛ بل يدعو لهم بما يصلح لهم من الهداية والتوفيق والإيمان»(12).

وسئل الإمام أحمد عن الرجل المسلم يقول للنصراني: «أكرمك الله»، قال: «نعم، يقول: أكرمك الله، يعني بالإسلام»، قال ابن مفلح: «وأما الدعاء بالهداية ونحوها فهذا جوازه واضح»، وقال أيضًا: «لو قال لذمي: أرشدك الله وهداك فحسن»، وقال كذلك: «ويتوجه فيه الدعاء بالبقاء، وأنه كالدعاء بالهداية، ويشبه هذا: أعزك الله»(13).

دعوة نبي لقومه:

ولقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته رضي الله عنهم خبر ذلك النبي الذي يؤذيه قومه وهو يدعو لهم، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(14)، ويحتمل أن يكون هذا النبي هو نوح عليه السلام، وإن صح ذلك فإن هذا الدعاء منه كان في بداية الأمر، ثم لما يئس منهم قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26](15).

قال ابن حجر في الفتح: «إنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم، ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم، ويرجى تألفهم، كما في قصة دوس»(16).

وقال القسطلاني في إرشاد الساري: «وأما دعاؤه عليه الصلاة والسلام على بعضهم، فذلك حين لا يرجو، ويخشى ضررهم وشوكتهم»(17).

وقال ابن حجر: «إنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم، ودخولهم في الإسلام، ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم.

والتقييد بالهداية يرشد إلى أن المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر: «اغفر لقومي فإنهم لا يعملون»، العفو عما جنوه عليه في نفسه، لا محو ذنوبهم كلها؛ لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله اغفر لهم: اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى: اغفر لهم إن أسلموا والله أعلم»(18).

ومن دعائه في هذا الشأن ما رواه أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي، وجهلي، وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»(19).

فإذا كانت هذه حال الأنبياء مع عصمتهم عليهم الصلاة والسلام، فللدعاة فيهم أسوة، والدعاة ليسوا معصومين كالأنبياء، فهم معرضون للذنب والخطيئة، فجدير بهم الحرص على سلامة أنفسهم وتطهيرها، مع حرصهم على سلامة الناس في دينهم بما يدعون لهم به من المغفرة والتوبة والتجاوز عن السيئات، فليكن لأنفسهم النصيب الأكبر من هذا الدعاء.

وحينما يقع الذنب من الإنسان، أو يهم به، فإن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى لا يترك الفرصة تفوت دون الدعاء له بالتطهير من ذلك الذنب، بالبعد عنه قبل الوقوع، أو بالمغفرة والتوبة بعد الوقوع.

ويدل على ذلك قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ذلك الفتى الشاب الذي استأذن في الزنا، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، ائذن لي بالزنا»، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: «مه مه»، فقال: «ادنه»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟»، قال: «لا والله، جعلني الله فداءك»، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟»، قال: «لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك»، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال أفتحبه لأختك؟»، قال: «لا والله، جعلني الله فداءك»، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟»، قال: «لا والله، جعلني الله فداءك»، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟»، قال: «لا والله، جعلني الله فداءك»، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(20).

وهذا الموقف الدعوي الحكيم يجب ألَّا يغفل عنه الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لذلك الشاب بين الحوار العقلي الهادئ، وبين الدعوة الخالصة، المصحوبة باللمسة الحانية، فكانت النتيجة أن تَخَلَّص ذلك الشاب من الذنب الذي كاد أن يقع فيه، وليس هذا فحسب؛ بل إن اللفظ يدل على أنه بعد ذلك ما كان يلتفت إلى شيء من الذنب.

إذًا ما أحوج شباب هذه الأمة إلى تلك المواقف الدعوية الحكيمة، التي لا تغفل الدعاء لهم من قلب صادق بالخلاص مما هم فيه من الذنوب، أو السلامة مما قد يعرض لهم منه.

ومن الأمور المهمة المتعلقة بالمذنب عدم الدعاء عليه، كما في قصة الذي شرب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب، قال: «اضربوه»، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا، ولا تعينوا عليه الشيطان»(21)، وفي رواية: «ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه»(22).

من هذه الروايات يتجلى موقف الداعية الحكيم بشأن المذنب الذي أقيم عليه الحد، والمتمثل بالنقاط الآتية:

1- نهي الناس عن الدعاء عليه، وتعليل ذلك بأن هذا الفعل هو إعانة للشيطان عليه.

 فإن المذنب إذا رأى موقف الناس منه موقف المعادي ربما تأخذه العزة بالإثم، فيتمادى في الذنب، وربما زاد عليه، فإن الشيطان يريد ذلك من الإنسان.

2- تعليم الناس ما يقولونه بحق ذلك المذنب، من الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا إرغام للشيطان، وإعانة للإنسان المذنب على الإقلاع عن ذنبه، والتوبة منه.

3- الشفقة عليه من الذنوب، وذلك يتمثل بالدعاء له بالمغفرة والرحمة(23).

***

_________________

(1) أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969).

(2) تفسير المنار (5/ 345).

(3) الجواب الكافي، ص7.

(4) أخرجه أحمد (17163).

(5) أخرجه الترمذي (3681).

(6) السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 342).

(7) أخرجه مسلم (2491).

(8) أخرجه البخاري (2937)، ومسلم (2524).

(9) عون المعبود (8/ 266).

(10) السيرة النبوية، لابن هشام (2/ 537).

(11) أخرجه الترمذي (2739).

(12) تحفة الأحوذي (8/ 10).

(13) الآداب الشرعية (1/ 416).

(14) أخرجه البخاري (3477).

(15) فتح الباري (6/ 521).

(16) فتح الباري (6/ 108).

(17) إرشاد الساري (5/ 110).

(18) فتح الباري (11/ 196).

(19) أخرجه البخاري (6398).

(20) أخرجه أحمد (22211).

(21) أخرجه البخاري (6777).

(22) أخرجه أبو داود (4477).

(23) الدعاء وأهميته في الدعوة إلى الله في ضوء القرآن والسنة، سليمان بن قاسم العيد.