logo

دعاة من الصحابة


بتاريخ : الخميس ، 5 ذو القعدة ، 1436 الموافق 20 أغسطس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
دعاة من الصحابة

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].

فالصحابة أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، كما قاله ابن مسعود رضي الله عنه، فحبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة(1).

وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام،فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، قال:أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم(2).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتِلون على دينه(3).

وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].

وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].

ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»(4).

والدعوة إلى الله تعالى سبيل سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وسبيل أتباعه إلى يوم الدين{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:108]، والدنيا مظلمة إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة المحمدية التي فتح الله بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.

والدعوة إلى الله من الواجبات الشرعية، والفروض الكفائية؛ كما حرّره ابن تيمية قائلًا: »الدعوة إلى الله واجبة على من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أمته؛ يدعون إلى الله كما دعا إلى الله، وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عمّا ينهى عنه، وإخبارهم بما أخبرهم به، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر، فالدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعيّن من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره«(5).

لقد رغّب نبينا صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله والنصح للخلق، فقال: «فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم»(6).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(7).

ولما كان الصحابة خير القرون، وهم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى؛ فقد استجابوا لهذه الوصية النبوية العظيمة؛ كما جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلينا وصمنا، وعملنا خيرًا كثيرًا، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك(8).

مصعب بن عمير:

فها هو مصعب بن عمير رضي الله عنه يفتح المدينة بالقرآن، ويعدها ليوم الهجرة العظيم، ويتحمل أخطر قضية، ويقوم بأصعب مهمة، حين اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أول سفير له إلى أهل المدينة، تحمل ابن العشرين المسئولية، وحمل الأمانة على أكمل وجه، فانتاب نور الإيمان على يديه إلى سادات الأنصار؛ فأسلم على يديه أسيد بن حضير رضي الله عنه، الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وأسلم على يديه سعد بن معاذ رضي الله عنه، الذي اهتز لموته عرش الرحمن.

جاء مصعب رضي الله عنه إلى المدينة وما فيها سوى اثني عشر مسلمًا، وما مضت أشهر حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة، لقد أثبت مصعب رضي الله عنه، الذي غزا قلوب أهل المدينة بزهده وصدقه وإخلاصه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن الاختيار.

ونزل مصعب على أحد المبايعين، أبي أمامة أسعد بن زرارة، وصار يدعو بقية الأوس والخزرج للإسلام، وبينما هو في بستان مع أسعد بن زرارة إذ قال سعد بن معاذ، رئيس قبيلة الأوس، لأسيد بن حضير، ابن عم سعد: ألا تقوم إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفّهان ضعفاءنا لتزجرهما، فقام لهما أسيد بحربته، فلما راه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، فلما وقف عليهما قال: ما جاء بكما، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وان كرهته كففنا عنك ما تكره، فقرأ عليه مصعب القرآن فاستحسن دين الإسلام، وهداه الله له فتشهد ورجع إلى سعد، فسأله عما فعل فقال: والله، ما رأيت بالرجلين بأسًا، فغضب سعد وقام لهما متغيظًا، ففعل معه مصعب كسابقه فهداه الله للإسلام، ورجع لرجال بني عبد الأشهل (وهم بطن من الأوس)، فقال لهم: ما تعدّونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، قال: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا، فلم يبق بيت من بيوت بني عبد الأشهل إلا أجابه، وقد انتشر الإسلام في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث إلا أمر الإسلام(9).

سرى النبأ في المدينة كالبرق، فجاء سعد بن معاذ رضي الله عنه، وتلاه سعد بن عبادة رضي الله عنه، وتلاهم عدد من أشراف الأوس والخزرج، وارتجت أرجاء المدينة من فرط التكبير، وفى موسم الحج التالي لبيعة العقبة قدم من يثرب سبعون مسلمًا، من بينهم امرأتان، وكان ذلك فاتحة مباركة لهجرة الرسول إلى المدينة.

وهكـذا أتيح له هو الوحيد أن يسلم على يده هذا العدد من الأنصار، حتى كادت المدينة كلها تدين بإسلامها لمصعب رضي الله عنه.

عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهأُتِيَ بطعام وكان صائمًا فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني, كفن في بردة إن غُطِّيَ رأسُه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه, وأراه قال: وقتل حمزة رضي الله عنه وهو خير مني, ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بسط, أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا, وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا, ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام(10).

المعالم الدعوية عند مصعب بن عمير رضي الله عنه:

إن الآداب اللفظية ينبغي أن تتوافر في الداعية؛ ليضمن سلامة دعوته وسيرها باتزان, ويضفي عليها الهدوء والاطمئنان, فيقودها ذلك إلى تحقيق الأهداف بكل يسر وسهولة.

أولًا: الكلمة الطيبة والعبارة المناسبة:

إذا تتبع القارئ حوارات مصعب بن عمير رضي الله عنه يجد حرصه على الكلمة الطيبة, وانتقاء العبارات المناسبة, رغم الذي يلاقيه من فحش القول، فهذا أسيد بن حضير رضي الله عنه وقف على مصعب بن عمير رضي الله عنه يشتمه ويهدده, فما كان من مصعب رضي الله عنه، بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله وبنصر الله لهذه الدعوة، إلا أن قال له في كلمات هادئة: أوتجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ قال: لقد أنصفت، وكان عاقلًا لبيبًا، فكلمه مصعب رضي الله عنه عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فتهلَّل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، وقال: كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في هذا الدين؟ جاء ليقتله، والآن يريد أن ينهل مما نهل منه مصعب! قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية، يقول: إن ورائي رجلًا إن ات