logo

بعثنا عليكم عبادًا لنا


بتاريخ : السبت ، 4 جمادى الأول ، 1445 الموافق 18 نوفمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
بعثنا عليكم عبادًا لنا

القضية الفلسطينية قضية عقائدية، حين نجد هؤلاء الممسوخين ممن يذلون أنفسهم يومًا بعد يوم ولا يرجعون بطائل، واليهود يمعنون في إذلالهم فزادوهم رهقًا؛ لأن عنصر العقيدة ألغي من القضية.

فلن تعود فلسطين إلا بالإسلام، هذا لا شك فيه على الإطلاق، ومن يظن غير ذلك فهو واهم، قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10].

يقول ابن باز رحمه الله: ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولًا وأخيرًا، ولكن أعداء الإسلام بذلوا جهودًا جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهام المسلمين من غير العرب، أنها قضية عربية، لا شأن لغير العرب بها، ويبدو أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك، ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل لتلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهادًا إسلاميًا، حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم التي جاءوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم، تحت حكم الإسلام لا حكم الشيوعية ولا العلمانية، وبذلك ينتصر الحق، ويخذل الباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم على حكم الإسلام، لا على حكم غيره (1).

والنصر لا يكون إلا بالأيدي المتوضئة وبالجباه الساجدة، والأنفس الزكية، والأجساد المتطهرة، والألسنة المحفوظة، بذلك يقع النصر والتمكين إن شاء الله، ويشعر كل مسلم أن عليه واجبًا نحو النصر، نحو القدس، نحو دماء المسلمين، نحو ديار المسلمين.

إن الوقوف مع أهل فلسطين واجب شرعي يفرضه علينا الإسلام، قال الله ‏تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بألسنتكم، وأنفسكم، وأموالكم، وأيديكم» (2)، وقال: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3)، وقال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (4).

ومما لا شك فيه أن واجب المسلمين هو تحرير الأقصى الأسير، وكل شبر محتل من أرض المسلمين وإعادته إلى ‏مجده الإسلامي وإلى المسلمين لإعلاء كلمة الله فيها، ويتحمَّل كلُّ مسلم من التبعة والمسؤولية بحسب قدرته وموقعه.

وكل من الحكومات والشعوب والعلماء يتحمَّلُ ما يستطيع من الوسائل والسبل التي تؤدي إلى امتثال هذا الواجب العظيم، على كافة الأصعدة والمستويات؛ سياسيًا، وإعلاميًا، وعسكريًا.

إن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس فيه المتنافسون، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين، وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين.

لقد وضع السابع من أكتوبر حدًا فاصلًا بين تاريخ وتاريخ، وخطًا فاصلًا بين مسارين؛ فإما مسار المقاومة والجهاد؛ وهذا ثبت نجاحه وتأثيره وجدواه، وإلا فمسار الاستسلام والانبطاح والتطبيع فلم ولن يكون حلًا، وشتان بين ما كان وما سيكون.

فالكيان الصهيوني الآن مجرد وجوده، وليس أمنه فقط، أصبح مثار جدل ونقاش، وجاء «طوفان الأقصى» ليقدم لنا الدليل والبرهان على ذلك، وقد نطق وصدق رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت حين قال: نمر الآن بمفترق طريق نادر في تاريخ «إسرائيل».

والعودة إلى القرآن يؤكد لنا هذا، فقد حدثتنا سورة الإسراء أن الله سبحانه وتعالى قضى على بني إسرائيل أنهم سيفسدوا في الأرض مرتين، وأنه سيسلط عليهم عقب كل إفساد من يسومهم سوء العذاب؛ فقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8)} [الإسراء: ٤- ٨].

والمعنى: فإذا حان وقت عقابكم- يا بنى إسرائيل- على أولى مرتي إفسادكم بعثنا عليكم ووجهنا إليكم {عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أصحاب بطش شديد في الحروب والقتال، فأذلوكم وقهروكم، وفتشوا عنكم بين المساكن والديار، لقتل من بقي منكم على قيد الحياة، وكان البعث المذكور وما ترتب عليه من قتلكم وسلب أموالكم، وهتك أعراضكم، وتخريب دياركم ... وعدًا نافذًا لا مرد له، ولا مفر لكم منه.

قال الألوسي: واختلف في تعيين هؤلاء العباد- الذين بعثهم الله لمعاقبة بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول- فعن ابن عباس وقتادة: هم جالوت وجنوده، وقال ابن جبير وابن إسحاق: هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، وقيل: هم العمالقة، وقيل: بختنصر (5).

قال ابن عباس رضى الله عنهما: عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين (6).

قال قتادة: عادوا فسلط الله عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون (7).

وقوله سبحانه: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي: وإن عدتم إلى المعاصي ومخالفة أمري، وانتهاك حرماتي، بعد أن تداركتكم رحمتي، عدنا عليكم بالقتل والتعذيب وخراب الديار.

ولقد عادوا إلى الكفر والفسوق والعصيان، حيث أعرضوا عن دعوة الحق التي جاءهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بهذا الإعراض بل هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وأيدوا كل متربص بالإسلام والمسلمين، فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما يستحقون من إجلاء وتشريد وقتل..

وقد اختلف العلماء في بيان معاني هذه الآيات والمقصود منها، فمنهم من قال: إن مرّتي الإفساد قد وقعتا، قبل الإسلام، وعوقب بنو إسرائيل أو اليهود عليهما من الله سبحانه وتعالى، وإن اختلفوا في نوع الإفساد الذي وقع منهم وفي زمنه، والغالب أنه: استحلالهم المحرمات، ونقضهم العهود، وانتهاكهم للحرمات بين بعضهم وبعض، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، وتمردهم على أنبيائهم، إلى حد القتل، كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، إلى آخر ما سجله القرآن عليهم من تجاوزات وانحرافات خطيره في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن.

 كما اختلف المفسرون في حقيقة العقوبة التي نزلت عليهم، ومن هم الذين سلطوا عليهم، جزاء ما صنعت أيديهم؟ وأكثر الأقوال أن أولى العقوبتين كانت تسليط البابلين عليهم، فهزموهم شر هزيمة، وأزالوا دولتهم، وخربوا ديارهم، وحرفوا توراتهم، وأخذوهم أسرى إلى بابل، فعاشوا في النفي المذل، والغربة الأليمة سبعين عامًا.

 وأما العقوبة الثانية، فكانت ضربة الرومان لهم، التي أنهت الوجود اليهودي، وفرقتهم في أنحاء الأرض، فلم تقم لهم قائمة بعدها، حتى جاءت الصهيونية الحديثة.

ومنهم من قال: إنما وقعت مرة واحدة من المرتين، عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعاهد بني إسرائيل في المدينة، ثم غدروا به وعادوه وحاربوه، فكانت هذه هي مرة الإفساد الأولى، وقد عاقبهم الله عليها بتسليط عباد له أولي بأس شديد عليهم، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة معه، فحاربوهم وانتصروا عليهم.

والمرة الثانية هي ما وقع من اليهود اليوم في فلسطين من تشريد أهل فلسطين وتذبيحهم، وتقتيلهم، وهتك حرماتهم، وتخريب ديارهم، التي أخرجوا منها بغير حق، وفرض وجودهم العدواني الدخيل بالحديد والدم والرصاص، وننتظر اليوم عقوبة الله تعالى لهم، بتسليط المسلمين مرة أخرى عليهم، كما سلط عليهم الصحابة أول مرة.

وسيتحقق وعد الله تعالى بتأديبهم وعقوبتهم وتسليط المسلمين عليهم كما سلطوا من قبل.

إلا أننا نحب أن نقرر ما يأتي:

1- أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل عقب مرتي إفسادهم، وإلا لذكره المفسرون.

2- أن الإفساد في الأرض قد حدث كثيرًا من بنى إسرائيل، وأن المقصود من قوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} إنما هو أظهر وأبرز مرتين حدث فيهما الإفساد منهم.

ومما يدل على أن هذا الإفساد قد تكرر منهم قوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، وقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ} [الأعراف: 167].

3- أن المقصود من سياق الآيات، إنما هو بيان سنة من سنن الله في الأمم حال صلاحها وفسادها.

وقد ساق القرآن الكريم هذا المعنى بأحكم عبارة، وذلك في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، ولا شك أن هذه السنة ماضية في الأمم دون تبديل أو تحويل في كل زمان ومكان.

وما دام هذا هو المقصود، ففهمه لا يتوقف على تحديد مرتي إفسادهم، وتحديد المسلط عليهم عقب كل مرة (8).

والواضح أنهم اليوم يقعون تحت القانون الإلهي المتمثل في قوله تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]، وها هم قد عادوا إلى الإفساد والعلو والطغيان، وسنة الله تعالى أن يعود عليهم بالعقوبة التي تردعهم وتؤدبهم، وتعرفهم قدر أنفسهم، كما قال الشاعر:

إن عادت العقرب عدنا لها    بالنعل، والنعل لها حاضرة!

يؤكد ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] (9).

كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم وإياهم، أخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى.

عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم، وقال علي بن أبي طلحة، عنه: هي الجزية، والذين يسومهم سوء العذاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة (10).

فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب، والذي سيظل نافذًا في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب.

وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف.

ولقد يبدو أحيانًا أن اللعنة قد توقفت، وأن يهود قد عزت واستطالت! وإن هي إلا هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ.. ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها إلى يوم القيامة (11).

ولقد يبدو للبعض أن هذا الوعيد لليهود قد توقف بسبب ما نرى لهم الآن من دولة وصولة ولكن الذي نعتقده أن هذا الوعيد ما توقف مع ما لهم من دولة، فإنهم ما زالوا محل احتقار الناس وبغضهم، وحتى الدول التي تناصرهم إنما تناصرهم لأن السياسة تقتضي ذلك بينما شعوب هذه الدول تكره أولئك اليهود وتزدريهم وتنفر منهم.

وما قامت لليهود تلك الدولة إلا لأن المسلمين قد فرطوا في حق خالقهم، وفي حق أنفسهم، ولم يأخذوا بالأسباب التي شرعها الله لهم لحرب أعدائهم فكانت النتيجة أن أقام اليهود دولة لهم في قلب البلاد الإسلامية وعند ما يعود المسلمون إلى الأخذ التام الكامل بتعاليم دينهم وإلى مباشرة الأسباب التي شرعها الله مباشرة سليمة، عند ما يفعلون ذلك تعود إليهم عزتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة (12).

فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: {وَإِن عُدتُّم عُدْنَا}..

ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها، ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادًا آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر».. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات، وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقًا لوعد الله القاطع، وفاقًا لسنته التي لا تتخلف.. وإن غدا لناظره قريب (13).

وفي تحديد المسلطين عليهم في المرتين تعيين للإفسادين بما صدر من بني إسرائيل قبل كل عقاب يلحق بهم من أحد فريقي المسلطين.

ويرى الدكتور مصطفى مسلم أن لمستقبل الصراع سيناريو يتصل بظهور المسيح الدجال ملكًا لليهود في «إسرائيل»، ونزول عيسى عليه السلام للقضاء عليه وعلى أتباعه؛ ما يعني أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين سيستمر إلى أن تبدأ أشراط الساعة الكبرى في الظهور.

وبعد أن تحدث عن الطرف اليهودي تساءل عن الطرف الآخر في معادلة الصراع، أين هو؟ فقدم جوابًا مفاده أن أبناء الصحوة الإسلامية سيبتلون ابتلاء شديدًا وفقًا لسنة الله في ابتلاء من يدعي الإيمان، فإذا تمحصت صفوفهم مكن الله المخلصين منهم في رقعة من الأرض ليقيموا عليها حكم الله... ومن بين صفوف هؤلاء تنطلق كتائب جند الله إلى اليهود لتقع الملحمة الكبرى، وينزل نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام ليكون في طليعة هذه الكتائب وقائدها في المعركة الفاصلة في باب اللد (14).

وفي موضع آخر ذكر أن قدر الله الكوني سيقع لا محالة، وهو إفساد بني إسرائيل في الأرض للمرة الثانية ليأتي بعد ذلك جند الله الموحدون، وعلى رأسهم المنقذ المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، ليقضي على مملكة الباطل، وأهل الفساد والشر، فيقتل بحربته ملكهم المتوج من قبل المفسدين في الأرض المسيح الأعور الدجال، هذه نهاية الفساد... ليقوم بعد ذلك حكم الله في الأرض، ويعيش الناس بسلام في ظل الإسلام (15).

وفي نبرة تفاؤلية يبشرنا الشيخ الشعراوي في تفسيره بأننا: الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم... فهو وعْد آتٍ لا شك في (16).

 هذا ويخشى أن يكون في الإقدام على التفسير المذكور توجيه للآيات القرآنية المدروسة نحو قصد يتناغم مع آمالنا في التحرر من الاحتلال الصهيوني، وإن لم نتحقق من كونه هو مراد الله سبحانه منها؛ وذلك ضرب من تأويل النص بالتشهي، وقد أوصى العلماء المتصدي للتفسير بـالتحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة، وأن يكون على بال من أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله؛ فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام؛ فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ (17).

من أجل ذلك لزم النظر في هذه الآيات -كما في غيرها- على ضوء أصول التفسير العلمية والشرعية لتبين المراد منها، والتحقق من أن ما جاء فيها من الإفساد الثاني لبني إسرائيل ينطبق حقًا على اليهود المعاصرين وإفسادهم الحالي في فلسطين.

يرى الشيخ عبد المعز عبد الستار من علماء الأزهر، في مقال له نشر بمجلة الأزهر، بعنوان «سورة الإسراء تقص نهاية إسرائيل»، قال في مقدمة المقال: «أطبق المفسرون على أن ذلك الفساد والإفساد وقع منهم مرتين في الماضي قبل الإسلام... والذي يعنيني أن أكشف عنه وأن أثبته في هذا البحث أمران: الأول أن هاتين المرتين لم تكونا قبل البعثة، وإنما هما في الإسلام، الثاني أن المرة الأولى كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والآخرة هي التي نحن فيها الآن، والتي سنسوء فيها وجوههم، وندخل المسجد كما دخلناه، وندمر فيها ما علوا تدميرًا (18).

وبه جزم عبد الكريم الخطيب في تفسيره المسمى «التفسير القرآني للقرآن»، فقال: إننا لنقطع عن يقين أن بني إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧].. وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بني إسرائيل، هي لنا، وسندخل المسجد إن شاء اللّه كما دخلناه أول مرة، وسنخزي القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضي على هذه الدولة المولودة سفاحًا.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة (19).

وبسبب علو اليهود في أرض فلسطين بما لم يبلغوا قط مثله خلال عشرين قرنًا قبل قيام «إسرائيل»، إذ أصبح لهم كيان مزود بكل وسائل التدمير والإرهاب والاستعلاء، مال الدكتور محمد المجذوب إلى اعتبار الآخرة من المرتين هي التي نعاصرها اليوم ونعيش مآسيها (20).

وبهذا التفسير جزم صلاح الخالدي حيث قال: إن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو ما يقوم به اليهود الآن، وأننا نحن الذين نعيش إفسادهم الثاني، وأن هذا الإفساد يتمثل في كيانهم الذي أقاموه في فلسطين، وفي تحكمهم وسلطانهم وعلوهم وتجبرهم الذي يبدو أوضح ما يكون في هذه الأيام (21).

ودافع عن هذا الرأي الأستاذ بسام جرار ليبني عليه ما انتهى إليه في القسم الثاني من الدراسة بعد حسابات رياضية من أن عمر الكيان الصهيوني سينتهي عام 2022م (22).

هكذا تواردت أقوال هؤلاء الباحثين المعاصرين على أن الإفساد الثاني لبني إسرائيل هو ما نعيشه الآن من الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، مع علمهم بإجماع المفسرين على خلافه.

 وليسلم لهم توجيه الآيات الوجهة المطلوبة، عمل بعضهم على إزاحة إجماع المفسرين هذا عن الطريق، بتعليله بأن هؤلاء المفسرين -كما يرى بسام جرار- لم يكن يدور بخلد أحدهم «أن يعود لليهود دولة في الأرض المباركة؟ لأن الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، كانت كل واحدة منها أعظم دولة في عصرها، فأي مفسر هو هذا الذي سيخطر بباله أن المرة الثانية لم تأت بعد؟ وإن خطر ذلك بباله، فهل ستقبل عاطفته أن يخط قلمه مثل هذه النبوءة التي تتحدث عن سقوط القدس في أيدي اليهود الضائعين المشردين والمستضعفين؟  (23).

وقدم صلاح الخالدي لهم عذرًا قريبًا من هذا؛ إذ أرجع ذلك إلى كون المفسرين قديمًا كانوا يعيشون في نظام إسلامي قائم... وقد نظروا في اليهود.. فإذا هم مجموعات من الأفراد المشتتين الأذلاء الضعاف، لا يتصور أن يكون لهم كيان في المستقبل، ولا أن يقع منهم علو وإفساد في الأرض... ولهذا توجه هؤلاء إلى التاريخ اليهودي القديم، فاستقرءوه، وبحثوا فيه عن الإفسادين المذكورين، فقالوا ما قالوا (24).

هذا وللدكتور طارق السويدان اجتهاد آخر في تعيين مرتي الإفساد في الآيات، لم يأخذ فيه بإجماع الأقدمين، ولا برأي المعاصرين، ولكن رأيه يفضي إلى نفس النتيجة من الآثار المتوقعة لتفسير المعاصرين، خاصة وأنه قرر بدوره بناء على قوله تعالى: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٨]، وأحاديث ظهور الدجال، ومقاتلة المسلمين لليهود أن الحرب ستستمر سجالًا بين المسلمين واليهود في فلسطين إلى أن ينزل عيسى عليه السلام.

وقد لخص رأيه هذا في قوله: «لكنني أرى -والله تعالى أعلم- أن المرة الأولى هي التي نعيشها اليوم، وهي العلو الأول، وسيأتي على دولة اليهود هذه عباد لله يخرجونهم من فلسطين، غير أن اليهود سيتجمعون وينصرهم العالم ويمدهم بالأموال، وينصرهم اليهود المنتشرون في باقي العالم، فيكونون أكثر نفيرًا بالنصرة العالمية لهم، فينتصرون علينا... وبعدها يأتي وعد الآخرة أي المرة الثانية، والتي سنتغلب فيها نهائيًا على اليهود ونخرجهم إلى غير رجعة من أرض المقدس... ويظل الأمر كذلك إلى حين خروج المسيح الدجال الذي يؤيده اليهود آنذاك، فيسيطر على الأرض ومنها فلسطين، وتكون نهايته على يد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام في مدينة اللد في فلسطين قبيل قيام الساعة، والله أعلم (25).

وهذا الرأي وإن تجاوز به الدكتور السويدان الاعتراض الأول من الاعتراضين الواردين على تفسير المعاصرين، فإن الاعتراض الثاني يبقى قائمًا، وهو أن اليهود المحتلين فلسطين اليوم ليسوا من سلالة إسرائيل، والآيات إنما تتحدث عن بني إسرائيل (26).

قال ابن كثير: وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم.

وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا، سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقًا من الأنبياء والعلماء (27).

---------

(1) القضية الفلسطينية/ موقع ابن باز.

(2) أخرجه أبو داود (2504).

(3) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).

(4) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

(5) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 291).

(6) المصدر السابق (8/ 296).

(7) الهداية الى بلوغ النهاية (6/ 4150).

(8) التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 301).

(9) آيات إفساد بني إسرائيل وتفسيرها/ موقع القرضاوي.

(10) تفسير ابن كثير (3/ 497).

(11) في ظلال القرآن (3/ 1386).

(12) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 414).

(13) في ظلال القرآن (4/ 2214).

(14) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (ص: 210).

(15) المصدر السابق.

(16) تفسير الشعراوي (14/ 8366).

(17) انظر: الموافقات للشاطبي (4/ 283- 285).

(18) بنو إسرائيل في القرآن والسنة (ص: 673).

(19) التفسير القرآني للقرآن (8/ 455).

(20) دروس من الإسراء (ص: 29).

(21) الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ وسمات ومصير (ص: 341).

(22) زوال إسرائيل 2022 نبوءة قرآنية أم صدف رقمية؟ (ص: 91).

(23) زوال إسرائيل 2022 نبوءة قرآنية أم صدف رقمية؟ (ص: 20- 21).

(24) الشخصية اليهودية من خلال القرآن (ص: 330).

(25) فلسطين: التاريخ المصور (ص: 421- 422).

(26) هل في القرآن تنبؤ بنهاية الكيان الصهيوني؟ مجلة البيان (العدد: 361).

(27) تفسير ابن كثير (5/ 44).