logo

الأمثال الدعوية في السنة النبوية


بتاريخ : الأربعاء ، 21 محرّم ، 1439 الموافق 11 أكتوبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الأمثال الدعوية في السنة النبوية

إن ضرب المثال يقرّب صورة الشيء من ذهن المتلقي، وبالتالي يكون له الوقع الحسن والفهم والإدراك، ويعد ضرب المثال نوعًا من أنواع الحجج التي تستخدم للإقناع.

وضرب المثل هو نوع من أنواع الأدب العربي والقرآني، والأمثال وضربها هي ثقافة موجودة عند معظم شعوب العالم، وفي مختلف لغاتهم، وربما يشترك شعوب العالم بمثل، فيكون مثلًا عالميًا.

من أساليب التربية الأخلاقية والاجتماعية في الإسلام ضرب المثل، ذلك الأسلوب التربوي الأمثل في حمل النفس على الخير أو تحذيرها من الوقوع في الشر، عن طريق تقريب المعنى الذي ربما يغيب عن الذهن في صورة قريبة من الحس، تستحضرها العقول فتتصورها الأفهام، كل ذلك في قوالب أدبية وأساليب بلاغية، تخاطب الوجدان والعقل والعاطفة على حد السواء(1) .

والأمثال، كطريقة تربوية، من أشهر طرق التربية والتعليم على وجه العموم، وذات أثر عميق في تنمية القيم الأخلاقية والاجتماعية لدى النشء على وجه الخصوص، لما لها من تأثير إيجابي في العواطف والمشاعر، وفي تحريك نوازع الخير في النفس البشرية(2).

وقد عرّف المثل بأنه: تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر(3).

ولقد أولى الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة ضرب المثل والتشبيه أهمية كبرى؛ باعتباره أسلوبًا فعالًا ومؤثرًا في عملية تعليم القيم الأخلاقية والاجتماعية وتنميتها، فقد استعان، لتوضيح مواعظه، بضرب المثل مما يشاهده الناس بأم أعينهم، ويقع تحت حواسهم، وفي متناول أيديهم؛ ليكون وقع الموعظة في النفس أشد، وفي الذهن أرسخ.

وقد تميزت الأمثال النبوية الشريفة بالقوة البلاغية والإقناعية، وروعة الوضوح في تجسيد المعنى المقصود، وتصويره في صورة حسية تجعله أمرًا ماثلًا أمام السامع، ويتضح ذلك من خلال ما ورد في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(4).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يغرس في أصحابه وأمّته من بعده بعض القيم الأخلاقية والاجتماعية الهامة، التي تساهم في تحقيق التكافل الاجتماعي؛ كالتراحم والتعاطف والتواد، عن طريق ضربه للمثل البليغ، مستخدمًا في ذلك قوة الإقناع العاطفي والعقلي، من خلال تشبيهه أفراد المجتمع المسلم في تعاملهم على أساس تلك القيم، وهي أمور معنوية، بأمر حسي مشاهد؛ وهو الجسد القوي الذي إذا اعتل فيه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وضرب الأمثال، في البيان النبوي، لم يأت لغاية فنية بحتة؛ كغاية الأدباء في تزيين الكلام وتحسينه، وإنما جاء لهدف أسمى؛ وهو إبراز المعاني في صورة مجسمة لتوضيح الغامض، وتقريب البعيد, وإظهار المعقول في صورة المحسوس، كما أن ضرب الأمثال أسلوب من أساليب التربية, يحث النفوس على فعل الخير، ويحضها على البر, ويدفعها إلى الفضيلة، ويمنعها عن المعصية والإثم، وهو في نفس الوقت يربي العقل على التفكير الصحيح والقياس المنطقي السليم, لأجل ذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الأمثال في قضايا مختلفة، وفي مواطن متعددة.

والمتأمل للأمثال النبوية يجد التنويع صفة ظاهرة فيها, فقد نوّع صلى الله عليه وسلم في الممثِّل وضارب المثل نفسه, فتارة يسند ضرب المثل إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البخاري الذي مثل فيه حاله مع الأنبياء قبله, وتارة يسند ضرب المثل لله عز وجل؛ كما في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «إن الله ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا» الحديث(5), وتارة يسند ضربه للملائكة؛ كما في قصة الملائكة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، والشاهد فيه أنهم قالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فضربوا مثلًا لحاله مع أمته.

ونوّع صلى الله عليه وسلم كذلك في موضوع المثل, والغرض الذي سيق لأجله, فضرب الأمثال في مواضيع متعددة، ولأغراض شتى من أمور العقيدة والعبادة, والأخلاق والزهد, والعلم والدعوة, وفضائل الأعمال والترغيب والترهيب, وغير ذلك .

ونوّع صلى الله عليه وسلم في أسلوب العرض وطريقة ضرب المثل, فاتخذ لضربه طرقًا متعددة, وأساليب مختلفة، وسلك في ذلك كل ما من شأنه إيضاح المراد، وإبرازه ماثلًا أمام الأعين.

فمن تلك الأساليب استخدامه للإشارة، التي تلفت أنظار السامعين، وتعينهم على الفهم، وفيها تشترك أكثر من حاسة في العملية التعليمية، فالناظر يرى الإشارة، ويسمع العبارة، فيكون ذلك أدعى للتذكر, كما في البخاري في الحديث الذي أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه، عندما أراد أن يقرر أن بعثته مقاربة لقيام الساعة, ومن ذلك أيضًا استعانته بالرسم التوضيحي كوسيلة من وسائل التعليم والإيضاح, عندما تحدث عن قضية اتباع سبيل الله وصراطه المستقيم، والتحذير من سبل الشيطان الأخرى(6) .

وقد حرص صلى الله عليه وسلم على ضرب المثل في الأحداث والمواقف المتعددة لأهداف تربوية, ففي بعض المواقف كان يكفيه صلى الله عليه وسلم أن يرد ردًا مباشرًا؛ لكنه آثر ضرب المثل لما يحمله من توجيه تربوي، وسرعة في إيصال المعنى المراد، وقد لا يؤدي غيره دوره في هذا المقام, فيراه الصحابة مرة نائمًا على حصير وقد أثر الحصير في جنبه، فيقولون له: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً، فيقول: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»(7).

حتى المَشاهد التي تمر في حياة الناس فلا يلتفتون إليها، ولا يلقون لها بالًا، يجد فيها صلى الله عليه وسلم أداة مناسبة للتوجيه والتعليم وضرب الأمثال بها, يمر ومعه الصحابة على سخلة منبوذة، فيقول لهم: «أترون هذه هانت على أهلها»، فيقولون: يا رسول الله، من هوانها ألقوها، فيقول صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها»(8) .

هذه الشواهد، وغيرها كثير، تؤكد مكانة الأمثال في السنة النبوية، واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بها, وضرورة الاعتناء بالأمثال النبوية جمعًا وتحليلًا ودراسة, والاستفادة المثلى منها في مناهجنا التعليمية، وبرامجنا التربوية والدعوية.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة, والأنبياء إخوةٌ لعلّات, أمهاتهم شتى ودينهم واحد»(9)، فهذا الحديث يوضح أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالإخوة لأب؛ أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد, فقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقهم في التوحيد والإسلام وأصول الإيمان باشتراك الإخوة لأب في أب واحد, ومثل اختلافهم في فروع الشرائع باختلاف هؤلاء الإخوة في أمهاتهم, إذًا فدين الأنبياء عليهم السلام واحد, ودعوتهم واحدة, وهي الإسلام بمعناه العام, الذي يعني الاستسلام لله عز وجل وتوحيده وإفراده بالعبادة دون ما سواه, قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19].

كما أن هناك أمورًا أخرى اتفقت عليها جميع الأديان والرسالات ودعت إليها, وهي الأخلاق والقيم التي فطر الله الناس عليها, فقد تضمنتها دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولا يمكن أن يعتريها تبديل أو تغيير أو نسخ, مثلها مثل التوحيد وأصول الإيمان, ومن أمثلة تلك الأخلاق والقيم بر الوالدين, وإقامة القسط بين الناس, وتحريم الفواحش والظلم وقتل النفس بغير حق, وغير ذلك من محاسن الأخلاق, وما عدا ذلك فقد جعل الله لكل رسول شريعة خاصة به لقومه, قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، حتى ختم الله جميع الرسالات والشرائع بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, من الرسالة الخالدة, والشريعة الكاملة الشاملة, التي كتب الله لها البقاء والخلود، والقيام بمصالح العباد، في كل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال على كمال هذه الرسالة, وكيف أن الله ختم بها جميع الرسالات.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»(10).

ففي هذا الحديث مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموكب الكريم، موكب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتعاقب إرسالهم إلى الناس، بالبيت الذي أسست قواعده، ورفع بنيانه, وقد اعتنى صاحبه عناية شديدة بعمارته وتزيينه، حتى بلغ الغاية في الحسن والجمال, ولم يبق له إلا موضع حجر في زاوية به يتم هذا البناء، ويكتمل حسنه وجماله, فشبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وما بعث به من الرسالة الخاتمة, بهذا الحجر الذي اكتمل به هذا البنيان, فبمبعثه عليه الصلاة والسلام ختمت الرسالات, وتمت الشرائع, وقامت الحجة على العباد, وجمع الله عز وجل في هذه الشريعة ما تفرق في الشرائع السابقة من الخير والهدى, فجاءت بجميع مصالح العباد الدنيوية والأخروية, منظمة لنواحي حياتهم المختلفة, مغنية لهم عما سواها في جميع شئونهم, ولو طال بهم الأمد, واختلفت الأحوال والظروف, حضارة وثقافة, وقوة وضعفًا(11).

ومن هذه الأمثال النبوية، التي بين فيها صلى الله عليه وسلم أقسام الخلق ومواقفهم بالنسبة إلى دعوته، وما بعث به من الهدى والعلم, ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قَبِلتِ الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان؛ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»(12) .

ففي هذا الحديث مَثّل الرسول صلى الله عليه وسلم الناس وتفاوتهم في قبول رسالته والعمل بها بالأرض في اختلاف تقبلها للماء وانتفاعها به, فشبه ما جاء به من الدين والعلم بالغيث الكثير الذي يعم البلاد والعباد، من غير أن يستثني بلدًا دون آخر، أو طائفة دون أخرى، وهو من الكثرة بحيث لا يحتاجون معه إلى طلب المزيد, ويأتي الناس وهم في أشد الحاجة إليه، وكذلك رسالته صلى الله عليه وسلم وما جاء به من العلم والهدى, فقد جاءت لعموم الناس، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وفيها من الخير والصلاح والكفاية للبشرية ما لا يحققه غيرها من الديانات المحرفة والمناهج الأرضية, وكانت الأوضاع قبل بعثته صلى الله عليه وسلم أشد ما تكون حاجة إلى الإصلاح والتغيير عن طريق رسالة سماوية، قال عليه الصلاة والسلام واصفًا تلك الحالة التي بعث والناس عليها: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»(13).

وكما أن الغيث سبب لحياة الأبدان, فإذا هبط على الأرض الميتة منحها الحياة والنضارة والانتعاش، فكذلك الوحي والعلم سبب لحياة القلوب واستنارتها, وإذا هبط الهدى الإلهي على القلوب والعقول بعث فيها روح الإيمان وأضاءها بنور العلم والحكمة .

وقد شبّه صلى الله عليه وسلم اختلاف مواقف الناس في قبول ما بعث به بأنواع الأرض المختلفة حين ينزل عليها المطر, فذكر لها ثلاثة أنواع :

النوع الأول: هي الأرض الخصبة الزكية، القابلة للشرب والإنبات, فإذا أصابها الغيث شربت وارتوت، فنفعت نفسها، وأنبتت الزروع والثمار فنفعت غيرها, وهذا مثل الطائفة الأولى من الناس، وهم الذين تلقوا هذا العلم فتعلموه وعملوا به، فانتفعوا في أنفسهم, ثم بلّغوه ونشروه بين الناس فنفعوا به غيرهم, وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأرض بالنقاء إشارة لطيفة إلى نقاء قلوبهم من كل هوى أو شبهة تحول بينها وبين الانتفاع بالوحي والعلم.

ثم إن التمثيل الوارد في الحديث يشير أيضًا إلى الأثر الظاهر لهذا العلم النافع, والمتمثل في الأعمال الصالحة التي تقتصر على العبد نفسه, والأعمال التي يتعدى نفعها وأثرها إلى الآخرين, وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «فأنبتت الكلأ والعشب الكثير» فكما أن خروج الكلأ والعشب من هذه الأرض الطيبة بعدما أمطرت هو نتيجة طبيعية, فكذلك صدور الأعمال الصالحة من المؤمن صاحب القلب النقي الذي لم يتلوث بالأهواء والأخلاط بعد سماعه الوحي وعلمه به هو أمر طبعي أيضًا, وهم مع ذلك لهم عناية بأعمال الخير المتعدية من تعليم العلم, والجهاد في سبيل الله, والدعوة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغيرها مما يتعدى نفعه للناس.

النوع الثاني: هي الأرض الصلبة الجافة التي يستقر فيها الماء لكنها لا تشربه ولا تنبت الزرع, فهذه الأرض غير قابلة للحياة والنماء والخصب, وإنما نفعها في حفظ الماء للناس لينتفعوا به في الشرب والسقي والزرع وغير ذلك, فهي لم تنتفع بالماء في نفسها؛ بل حبسته لينتفع به غيرها, وهذا مثل الطائفة الثانية من الناس التي انصرفت إلى حفظ الشريعة وإيصالها للناس أكثر من انصرافها إلى العمل, فمن الناس من يحمل المعرفة بالوحي والشرع، وليس لديه من الإيمان واليقين والشعور القلبي المتيقظ ما يتناسب مع هذه المعرفة, فلا يقوم بالأعمال الصالحة التي تنتظر من مثله, وإنما هو حافظ لعلم الشريعة، يؤديه كما سمعه من غير فقه ولا استنباط, ويبلغه لمن هو أفقه منه وأكثر انتفاعًا وتقبلًا وإيمانًا، وهذه الطائفة داخلة في المدح, وإن كانت دون الأولى في الدرجة والرتبة, ولذلك دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ له من سامع»(14).

النوع الثالث: هي الأرض المستوية الملساء التي لا تشرب الماء, ولا تمسكه فينتفع به غيرها, ولا تصلح كذلك للإنبات والزرع, وهذا مثل الطائفة الثالثة المذمومة التي لم تحمل الوحي والعلم ولم تعمل بهما، فلا هي انتفعت في نفسها ولا هي نفعت غيرها, وهذه الطائفة يلحقها من الذم بقدر ما فقدت من ذلك الخير, فإن كان صاحبها من الذين أعرضوا عن الدين ولم يدخلوا فيه أصلًا فهذا هو الكافر الذي يستحق الذم كله, وهو الذي لم يرفع بالإسلام رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كان له نصيب من الإسلام, لكنه لم يتعلم العلم، ولم يعمل به، ولم يبلغه لغيره، فيلحقه من الذم بقدر ما فرط فيه.

فهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على عظمة دعوة الإسلام ورسالته، وأنها اشتملت على كل خير ونفع للبشرية، وإن وجد من الناس من لم ينتفع بهذه الرسالة ولم يستجب لهذه الدعوة فإن العيب منه لا من الإسلام، فإن هذا الانتفاع مشروط بنقاء القلب من كل شبهة أو شهوة تعارضه، وفي الحديث أيضًا الحث على تعلم العلم وتعليمه للناس(15).

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها, وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم, فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا, فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»(16).

صنف النبي صلى الله عليه وسلم الناس في المجتمع من خلال هذا الحديث الشريف إلى ثلاثة أصناف، أولهم: المستقيم على حدود الله تعالى الذي لم يتجاوزها، وهو الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وثانيهم: التارك للمعروف المرتكب للمنكر، وثالثهم: المتباطئ عن دفع المنكر والنهي عنه.

وهذه الأصناف الثلاث حالها كحال ركاب سفينة أخذ كل منهم مكانه عليها بالقرعة، فكان من في الأسفل يرغبون بالصعود إلى أعلى السفينة ليأخذوا منها الماء، حيث إن هذا التصرف من وجهة نظرهم يسبب ضررًا لغيرهم؛ لذا أرادوا أن يفتحوا فتحة في نصيبهم تمكنهم من أخذ حاجتهم من الماء دون إيذاء غيرهم، فإن تركوهم وما أرادوا من تخريب السفينة بالخرق، فإنهم سيهلكون جميعًا، سواء من سكن في الأعلى أو من سكن في الأسفل، وذلك لأنه بخرق السفينة تغرق هي ومن فيها.

وفي ذلك دلالة على أن الناس إن منعوا الفاسق عن فسقه نجا ونجوا معه، وإن تركوه يفعل المعصية ولم يردعوه نزل بهم عذاب الله تعالى وهلكوا جميعًا، يقول سبحانه: {وَاتّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبث»(17).

كما أن هذا الحديث الشريف يُقرر سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون، وأصلًا من الأصول العظيمة، وهو تكافل أفراد الأمة وتضامنهم، وتعاونهم في سبيل تثبيت دعائم الحق والخير والفضائل، والقيام على حراسة هذه الأصول، والقضاء على أهل الباطل والشرور والرذائل، وإلا فلا قيام لحق، ولا استقرار لفضيلة، ولا دوام لعزة وسلطان.

تضمن هذا الحديث الشريف تشبيهاتٍ ثلاثًا:

الأول: شُبِّهَت فيه أحكام الشريعة الغراء، في حفظها لسلامة المجتمع وكفالتها لأمنه وطمأنينته، بالسفينة التي تمخر عباب اليم، وتقطع براكبيها أجواز البحار في أمن ودعة وسلامة من المخاطر، متى سددوا قيادها، وأحسنوا تصريفها.

فكذلك الشريعة السمحة؛ يخوض القائمون على حدودها معترك الحياة، ويجتازون مضايقها، وهم في أمن من الأخطار، ومَنجاة من الزلق والعثار.

الثاني: تشبيهُ القائمين على حدود الله، وهم الذين يُحلُّون الحلال ويُحرِّمون الحرام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتولَّون قيادة الأمة وتوجيهها، بمن يركبون أعلى السفينة، وفي ذلك إشارة إلى علو مراتبهم، وعظيم مكانتهم؛ كما أن الراكبين في أعلى السفينة لهم العلو الحسي والمكان الرفيع.

الثالث: تشبيه الواقعين في الحدود والمنتهكين لها بِـمَن أصابوا أسفل السفينة؛ إشارة إلى انحطاطهم بهذه الفعال.

ومن روعة التمثيل تمثيل المجتمع بالسفينة العائمة في خِضَمٍّ واسع عميق، عرضَة للأعاصير الهوجاء، والأمواج المتلاطمة المتدافعة.

وما أدق التمثيل وأروعه!! فالمجتمع في الحقيقة عرضة للتأثر باختلاف الأهواء والأغراض، وتباين النزعات والاتجاهات، واصطراع الأفكار والآراء، وأي تفريط من أهلها يؤدي بالسفينة إلى الغرق، والغوص في متاهات الأعماق، وكذلك المجتمع؛ أي خطأ في الحساب والتقدير أو إفراط أو تفريط في التصرُّف؛ قد يؤدي به إلى الهلاك والانحطاط والذل والتخلف أحقابًا من الزمان.

هذا إلى ما في التمثيل بالسفينة من بيان الحساسية البالغة، وحتمية التأثر بما يجري حولها، وفوقها، وفيها.

وكذلك مثّل أفراد المجتمع برُكَّاب السفينة، وربط حياتهم ببقائها، وهلاكهم بهلاكها؛ ولِـهَذا من التأثير النفسي ما له في الحفاظ عليها، والتضحية بكل شيء في سبيلها، ومن ذا الذي لا يرغب في الحياة ولا يكره الهلاك؟! فكما أن ركاب السفينة يحرصون على سلامتها؛ لارتباط حياتهم بحياتها وسيرها؛ فكذلك أفراد المجتمع يجب أن يحرصوا على مجتمعهم حرصَهم على حياتِهم(18).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للهُ أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَويّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فاللهُ أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده»(19).

وجاء في رواية أخرى: «فسعى شرفًا فلم ير شيئًا، ثم سعى شرفًا ثانيًا فلم ير شيئًا، ثم سعى شرفًا ثالثًا فلم ير شيئًا، فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه»(20)، وفي حديث النعمان بن بشير زيادة: «ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»(21).

مع كثرة الذنوب وتوالي الخطايا، ومع الانسياق نحو الموبقات رغم تكرار الوعود وقطع العهود، يتنامى سؤال كبير يدور في نفوس العصاة من بني آدم: أبعد كلّ هذا يغفر الله لي؟ وهل عساني أظفر بالعفو وقبول التوبة .

وقبل أن تنقطع حبال الأمل من النفوس، ويخيّم على أرجائها القنوط، تأتي الإجابة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلٍ مضروب، يفتح للمذنبين أبواب الرجاء، ويخرجهم من دائرة اليأس .

ويسرد النبي صلى الله عليه وسلم المثل الذي تدور أحداثه في صحراء مقفرة، شديدة القيظ، لا ماء فيها ولا كلأ، وفي هذا المشهد يظهر رجلٌ تبدو على قسماته ملامح الإجهاد والتعب، في سفرٍ طويل لا مؤنس له فيه سوى ما يسمعه من صدى خطواته، وما يبصره من ظلّ ناقته، والتي جعل عليها طعامه وشرابه .

ولم تزُل الشمس عن كبد السماء حتى كان الإرهاق قد بلغ به أيما مبلغ، فطاف ببصره يبحث عن شجرة تظلّه، حتى وجد واحدة على قارعة الطريق، فاتّجه نحوها، وأناخ ناقته ثم استلقى تحتها، وأغفى قليلًا ليستعيد نشاطه ويستردّ قواه، إلى حين تنكسر حدّة الشمس وتخفّ حرارة الجو، ولأن الرجل لم يُحْكِم وثاق ناقته انسلّت عنه ومضت في سبيلها، فلما استيقظ من نومه لم يجدها، ففزع فزعًا شديدًا، وانطلق يجري بين الشعاب وفوق التلال دون جدوى.

ولما استيأس الرجل وأيقن بالهلاك عاد إلى موضعه تحت الشجرة جائعًا عطشًا، مرهق الجسد قانط النفس، فنام في مكانه ينتظر الموت، ولكن يا للعجب، لقد أيقظه صوت ناقته! فوجدها فوق رأسه، ففارقه اليأس، وحلّ بدلًا منه فرحٌ شديدٌ كاد يفقده صوابه، إنه فرح من عادت له الحياة بعد أن أيقن بالموت والهلاك، حتى إنه أخطأ من شدة الفرح فأبدل الألفاظ: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»!

ثم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حوله أن فرح الله بتوبة عباده، وإقبالهم عليهم أشد وأعظم من هذه الفرحة التي طغت على مشاعر الرجل: «فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده».

إن الغاية من المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي دعوة المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة، حتى يطهّروا أنفسهم من أرجاس المعاصي والذنوب، كما قال الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].

وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن ربنا عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن أبواب التوبة مفتوحة، لا تُغلق إلى قرب قيام الساعة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تبيّن ذلك وتفصّله .

وإذا كان المثل الذي بين أيدينا يعطينا لمحةً عن الرحمة الإلهية، فهو يوقفنا كذلك على صفة من صفاته سبحانه، وهي المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام: «فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن»، وذلك إثباتُ أن الله تعالى يفرح فرحًا يليق بجلاله وكماله، ولا يشبه فرح المخلوقين.

كما يشير الحديث إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد على الألفاظ والأقوال التي تصدر منه دون قصد، فالرجل قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، فظاهر العبارة كفرٌ، لكنّ العبرة بما وقر في قلبه وما أراده في نفسه(22).

{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «فإن في ضرب الأمثال تقريبًا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسومة، ويتبين المعنى الذي أراده الله غاية البيان ويتضح غاية الوضوح، وهذا من رحمته وحسن تعليمه»(23).

الأمثال في السنة ثلاثة أنواع:

1- الأمثال المصَرَّحة: وهي ما صرِّح فيها بلفظ المثل، أو ما يدل على التشبيه، كما جاء في الحديث الصحيح: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا...»، والأمثلة عليها كثيرة.

2- الأمثال الكامنة: وهي التي لم يُصَرَّحْ فيها بلفظ التمثيل، ولكنها تدل على معانٍ رائعةٍ في إيجازٍ، يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها، مثاله: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين»(24).

3- الأمثال المرسلة: وهي جمل أرسلت إرسالًا من غير تصريح بلفظ التشبيه، مثاله: «سبقك بها عكاشة»(25).

فوائد الأمثال:

للأمثال فوائد وثمرات يجنيها متدبرها والمتمعن في دلالاتها؛ حيث تأتي الأمثال مراعية لجوانب عديدة حسب الجانب الذي جاءت لأجله، فإن الأمثال تؤثر أكثر من الكلام المجرد لأنها تقرب الصورة، وتجلب الانتباه، وتسخر الوهم للعقل، وترفع الحجاب عن القلوب الغافلة، وتؤلف المطلوب وتقربه، ومن هنا يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني، إمام البلاغة والإعجاز رحمه الله: «اعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقسر الطباع على أن تُعطيها محبة وشغفًا.

 فإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخارًا كان شأوه أمدّ، وشرفه أجد، ولسانه ألد.

وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغَرْب الغضب أفلّ، وفي عُقد العقود أنفث، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظًا: كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلى الغياية ويُبصّـر الغاية، ويبريَ العليل، ويشفي الغليل»(26).

1- الأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس، فيتقبله العقل؛ لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة حسية قريبة الفهم.

2- تكشف الأمثال عن الحقائق، وتعرض الغائب في معرض الحاضر.

3- تجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة.

4- يضرب المثل للترغيب في الممثَّل به مما ترغب فيه النفوس.

5- يضرب المثل للتنكير؛ حيث يكون الممثَّل به مما تكرهه النفوس.

6- يضرب المثل لمدح الممثَّل به.

7- تبكيت الخصم.

8- الأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال في السنة للتذكرة والعبرة.

9- استعان بها الداعون إلى الله في كل عصر لنصرة الحق وإقامة الحجة، ويستعين بها المربون ويتخذونها من وسائل الإيضاح والتشويق، ووسائل التربية في الترغيب أو التنفير، وفي المدح أو الذم.

10- قال الزمخشري: «التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء المتوهم من المُشاهَد، فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلا بأمر استدعته حال الممثل له، ألا ترى أن الحق لما كان واضحًا جليًا تمثل له بالضياء والنور، وأن الباطل لما كان بضده تمثل له بالظلمة، وكذلك جعل بيت العنكبوت مثلًا في الوهن والضعف»(27).

وقال الأصبهاني: «لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق، تريك المتخيل في صورة المتحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسورة الجامح الأبي؛ فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر في وصف الشيء في نفسه؛ ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال، وفشت في كلام النبي وكلام الأنبياء والحكماء(28).

وقال البيضاوي: «يضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب، وأقمع للخصم الألد، ولأنه يريك المتخيل محققًا والمعقول محسوسًا، وَلِأَمْرٍ ما أكثر الله في كتبه الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء»(29).

والخلاصة: أن ضرب الأمثال يستفاد منه أمور كثيرة، منها: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص؛ لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد(30).

أسلوب ضرب الأمثال في الدعوة:

يحتاج الداعية إلى استخدام أسلوب ضرب الأمثال والتشبيه لتقريب المعاني للناس ولإيقاظ حسهم، حيث يربط بين الطبيعة الحية الماثلة أمامهم وبين الأحكام الشرعية التي يوجهها لهم، وقد أخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها والتفكير فيها والاعتبار بها؛ وهذا هو المقصود بها(31)، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].

أهمية أسلوب ضرب الأمثال:

يستثمر الداعية الحكيم الناصح أسلوب ضرب الأمثال في دعوته، في الحث على التمسك بالإسلام وطيب الأخلاق، حيث إن ضرب الأمثال يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر وتحقيره(32).

ولضرب الأمثال تأثير عظيم في الإقناع، حيث تصاغ لهم الأمور المعنوية في صور محسوسة، كأنها رأي عين، فإن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في العقول ما لا يؤثره وصف الشيء ذاته، ذلك بأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فترغيب المعلم الداعية للمدعو في الإيمان إذا كان مجردًا عن ضرب المثل له؛ لا يتأكد تأثيره فيها، كما يتأكد إذا مثلته بالنور وبالشجرة الطيبة، وكذلك إذا نفرتها من الكفر بمجرد الذكر، لم يتأكد قبحه كما يتأكد إذا مثلته بالظلمة أو بالشجرة الخبيثة(33).

متطلبات نجاح أسلوب ضرب الأمثال:

من الأمور المهمة لنجاح الداعية في استخدام أسلوب ضرب الأمثال ما يأتي:

1- معرفة الأمثال الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة واستعمالها، لبلاغتها ولعظم العبر والعظات التي جاءت بها.

2- مراعاة مستوى فهم المدعو، وأن يكون ضرب المثل محققًا للهدف المراد منه، والاستعانة لذلك بضرب الأمثال بأمور محسوسة مشاهدة من بيئة المدعو.

3- التأكد من فهم المدعو للمثل المضروب، مع حسن الانتقاء للأمثال التي تساعد في عملية التبليغ وتقريب المعلومة وتثبيتها في ذهن المدعو.

ويوضّح عبد القاهر الجرجاني فيقول: «واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو أبرزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وأكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب وللقلوب أخلب، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر وأدعى إلى الفكر»(34).

***

______________

(1) التربية الوقائية في الاسلام، ص227.

(2) أسس التربية الإسلامية في السيرة النبوية، ص210.

(3) الأمثال في القرآن، ص173.

(4) أخرجه مسلم (2586).

(5) أخرجه الترمذي (2859).

(6) الحكمة من ضرب الأمثال، موقع: إمام المسجد.

(7) أخرجه الترمذي (2377).

(8) أخرجه أحمد (3046).

(9) أخرجه البخاري (3443).

(10) أخرجه البخاري (3535).

(11) أمثال النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، موقع: الشبكة الإسلامية.

(12) أخرجه البخاري (79).

(13) أخرجه مسلم (2865).

(14) أخرجه أحمد (4157).

(15) من أمثال الدعوة الإسلامية في الحديث الشريف، موقع: الشبكة الإسلامية.

(16) أخرجه البخاري (2493).

(17) أخرجه البخاري (3346).

(18) مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها، موقع: الشبكة الإسلامية.

(19) أخرجه مسلم (2744).

(20) أخرجه مسلم (2745).

(21) أخرجه مسلم (2747).

(22) رجلٌ أضلّ ناقته، موقع: الشبكة الإسلامية.

(23) تفسير السعدي، ص425.

(24) أخرجه مسلم (2998).

(25) أخرجه البخاري (5705).

(26) أسرار البلاغة، ص101–102.

(27) البرهان في علوم القرآن (1/ 488).

(28) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (2/ 344).

(29) تفسير البيضاوي (1/ 186).

(30) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (2/ 344).

(31) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 195).

(32) البرهان في علوم القرآن (1/ 487).

(33) هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، ص175.

(34) أسرار البلاغة، ص115.