logo

دعاة ليسوا بشرًا(2): هدهد سليمان


بتاريخ : السبت ، 12 شعبان ، 1436 الموافق 30 مايو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
دعاة ليسوا بشرًا(2): هدهد سليمان

إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان، وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام، وإنها خاضعة، كحلقة مفردة، للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به(1).

وقصة الهدهد الداعية مع سليمان عليه السلام مليئة بالإشارات التربوية، وممزوجة باللمسات البيانية، ومطرزة باللمحات العلمية .

قال الحق سبحانه وتعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24(} [النمل:20-24].

 

قال ابن القيم: «الهدهد من أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، لا يراه غيره، ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان، وقد فقده وتوعده، فلما جاء بَدَره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابًا هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه، فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به، وهو خبر عظيم له شأن، ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفًا مؤكدًا بأدلة التأكيد، فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23]، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة، وأنها من أجلِّ الملوك، بحث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في عظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم، ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم، وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله، فقال: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} [النمل:24].

 

ثم أخبر عن المُغْوي لهم، الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم، حتى صدهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله، الذي لا ينبغي السجود إلا له.

ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخبء في السماوات والأرض، وهو المخبوء فيهما؛ من المطر والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض(2).

قال بعضهم: الهدهد مع أنه في نهاية الضعف، ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ}[النمل:22]، فلولا أن العلم أشرف الأشياء؛ وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام، ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين، وما ذاك إلا ببركة العلم(3).

 

وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد، لترغيبه في الإصغاء إلى العذر، واستمالة قلبه إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه، ليكون فيه الخير له ولمملكته، فهو ما كان إلا لكشف مملكة سبأ، ومعرفة أحوالها، ومعرفة من يسوس أمورها، ويدبر شئونها(4).

قال صاحب الكشاف: «ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة، والحكمة، والعلوم الجمة، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاءً له في علمه، وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة(5).

 

والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب، الذي لم يقض الملك في أمره بعد، فهو يلمح في ختام النبأ الذي يقصه، إلى الله الملك القهار، رب الجميع، صاحب العرش العظيم، الذي لا تقاس إليه عروش البشر؛ ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية:{اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، فيلمس قلب سليمان، في سياق التعقيب على صنع الملِكة وقومها، بهذه الإشارة الخفية!

 

ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه، وتلميح وإيماء أريب، فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية، ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله، ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو رب العرش العظيم، وما هكذا تدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف(6).

 

قال صاحب الكشاف: «وفي إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام مَنْ يخرج الخبء في السماوات والأرض، جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة، الناظر بنور الله، مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملًا إلا ألقى الله عليه رداء عمله»(7).

 

فوائد تربوية ومعالم دعوية:

 

لقد احتوت هذه القصة الرائعة على فوائد جمة، ونصائح غالية لكل داعية إلى الله رب العالمين.

1- التريث والتأني قبل الحكم:

 

فلعل للغائب عذرًا، أو للمقصر حجة تدفع الإثم، وترفع العقوبة، ولهذا قال سليمان عليه السلام بعدها: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:21]، أي: بحجة تبين عذره في غيبته، وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلًا، وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده، حتى عند النمل، لا ينتظر منه مع الهدهد، أو ما دونه أو ما فوقه، إلا أن يكون عادلًا لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة، ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.

 

2- التروي في تصديق الخبر:

 

فهذا الذي حكاه الهدهد أمر ليس بالسهل ولا باليسير، ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة، الطويلة، وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية، ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار، ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق، كما أنه لم يتعجل التكذيب؛ بل قال: {سَنَنظُرُ}وهو من النظر، أو التأمل والتحري، وقوله تعالى: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل:27]، يعني أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد(8).

 

3- في هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد، ويفصح عنها لنبي الله سليمان عليه السلام:

 

الأولى: إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان عليه السلام.

الثانية: معرفته لسبأ بعينها دون غيرها، ومجيئه منها بنبأ يقين لا شك فيه.

الثالثة: معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم.

الرابعة: إداركه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء.

الخامسة: أن لها عرشًا عظيمًا.

السادسة: إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله.

السابعة: إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى.

الثامنة: أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم.

التاسعة: أن هذا ضلال عن السبيل القويم.

العاشرة: أنهم لا يهتدون(9).

 

4- لكل مسمى من اسمه نصيب:

 

الهدهد مشتق من الهدهدة، وكما جاء في لسان العرب: تهدهد الأم وليدها، أي تلاعبه، وكأن الاسم يحمل معنى الملاطفة والرقة واللين، وكلها من أخص صفات الداعية إلى الله رب العالمين .

وكأن اسم الهدهد يقول لكل الدعاة إلى الله: كونوا جميعًا هداهد، تلاطفون المدعوين، وتأخذونهم بكل اللطف واللين، كما جاء في الكتاب العزيز: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:44].

 

فالداعية مطالب بالهدهدة، وليس التهديد الذي نراه في أساليب بعض الدعاة إلى الله، وهؤلاء يفسدون أكثر مما يصلحون، فهلا راجعوا أنفسهم ليكون لهم حظ ونصيب من اسم الهدهد، ويكونوا مثل الأم الرءوم التي تلاعب أطفالها، وتضمهم إلى صدرها بكل شفقة وحنان.

 

5- الجرأة في الحق:

 

لقد صدع الهدهد بكلمة الحق، ولم يخش في الله لومة لائم، وصرخ بها عالية مدوية، {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، ولا يتعارض الجهر بالحق مع جميل العبارة وجمال الأسلوب، فالحق مر ويحتاج إلى حلاوة الكلمة وعذوبة اللفظ لكسر مرارته.

فالقائد القوي الظالم يخشاه من حوله؛ فيداهنونه ويزينون له سوء صنيعه، فيراه حسنًا؛ حتى تفاجئه الأقدار بما لم يكن في الحسبان، ويسحب البساط من تحته دون أن يشعر؛ لأنه يعيش في واد والرعية في واد آخر.

أما القائد القوى العادل فعدله يغري من حوله بإسداء النصيحة إليه، كما فعل الهدهد بلا مواربة ولا مداهنة، فيضع القائد الأمور في نصابها الصحيح، فيتخذ القرار الصحيح، فيسلم وتسلم رعيته.

6- من يتحر الدعوة يعطها:

 

إن الداعية إلى الله رب العالمين لا ينتظر الإذن من أحد حتى يبلغ دعوة الله رب العالمين؛ لأن أبواب الدعوة مفتوحة على مصراعيها، وإن غلق منها باب فتح دونه ألف باب، ولنا الأسوة في الهدهد الذي انطلق بدون استئذان من نبي الله سليمان، معتمدًا على العلي القدير الذي أعطاه الإذن والتكليف.

فالدعوة إلى الله ليست فوق المنابر فحسب؛ فها هو الهدهد دعا إلى الله على غير منبر ارتقاه، ولكنه استخدم الوسيلة المناسبة في الجهر بدعوته وتبليغ رسالته، حتى كان له ما أراد، وأسلمت بلقيس وأسلم قومها أجمعون، بفضل البذرة الطيبة التي غرسها الهدهد الداعية.

فعلى الدعاة إلى الله ألا يختلقوا المعاذير الواهية والحجج الداحضة، حتى يغلقوا على أنفسهم البيوت، ويغطون في نوم عميق، بينما الباطل يخترع كل يوم ألف طريقة وطريقة للترويج لباطله.

7- من يتقدم يقدمه الله:

 

لقد تقدم الهدهد حين تأخر غيره، وتعب حين ارتاح سواه، وطوي الآفاق طيًا، وضرب أكباد السماء، ولاقى في ذلك الأهوال والمصاعب.

فالمسافة بين بيت المقدس، موطن نبي الله سليمان، وبين سبأ، مملكة بلقيس، تشد إليها الرحال، وتضرب إليها أكباد الإبل، ولكن ذلك كله لم يقف عقبة في وجه طائر صغير، لا يملك سوى جناحين صغيرين كُسِيا ريشًا رقيقًا، ولكنه نال الثمن، وحصد ثمار عناءه؛ لقد خلد الله ذكره في العالمين.

فهلا تقدم الدعاة إلى الله حتى يقدمهم الله، ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة، ولقد حكى التاريخ عن أناس قعدت بهم هممهم عن الدعوة إلى الله فصاروا نسيًا منسيًا.

فلا يحقر العبد نفسه في نشر التوحيد، فهذه أمة أسلمت بسبب طير، فأنكر هذا الشركَ، وأوصل الأمر إلى من يستطيع تغييره، فلا تحقر نفسك، وعليك بالدعوة إلى التوحيد بكل ما تستطيع، ونحن نحتاج إلى مثل هذا الهدهد، خصوصًا في هذا الزمن الذي ينشط فيه أهل الباطل(10).

 

8- المبادرة الذاتية في الدعوة إلى الله تعالى:

 

إذ سار الهدهد بمفرده، دون تكليفٍ مسبق أو تنفيذ لأمر صادر، وجلب خبرًا للقيادة المؤمنة أدى إلى دخول أمة كاملة في الإسلام، فالداعية أولى من الهدهد بالعمل الإيجابي، والسعي وراء المصالح، والبحث عن الخير.

فالداعية لا ينتظر الأوامر بالدعوة، أيدعو فلانًا أم فلانًا؟ بل إن الذي أدى لفشل الكثير منا هو انتظاره للأوامر، حتى إنك قلّ أن تجد، من الشباب خصوصًا، من يحمل همّ الدعوة إلى الله تعالى، ويبذل الوقت والجهد والمال من أجل دين الله تعالى(11).

 

______________________

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (5/2635).

(2)شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، ص71.

(3) مفاتيح الغيب، للرازي (2/407).

(4) تفسير المراغي (19/131).

(5) الكشاف، للزمخشري (3/359).

(6) في ظلال القرآن (5/2639).

(7) الكشاف (3/362).

(8) تفسير ابن كثير (3/349).

(9) أضواء البيان، للشنقيطي (8/8).

(10) الهدهد الداعية، موقع الجماعة الإسلامية.

(11) الهدهد الداعية، ميمونة العتيبي، مجلة المتميزة، العدد: 105.