الداعية بين الشدة واللين
من الدعاة من هو صاحب شدة وصرامة وإفراط في الحزم، ومنهم من هو متساهل مُفَرِّط، مُغَلِّبٌ جانبَ اللين في شتى أموره؛ وكلا طرفي الأمور ذميم.
ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها، حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] الآية، فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين الغلظة على الكفار والمنافقين حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين.
والآيات، وإن كانت في معاملة الكفار والمنافقين، دالات على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه، أما إذا لم ينفع، واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله، ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه، ومعاملته بالشدة، وإجراء ما يستحقه من إقامة حد أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حده، وينزجر عن باطله.
وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسـيف صـلت بكـفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
إن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضًا أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أيضًا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط؛ بل هي شريعة حكيمة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح جميع الأمة، ولذلك جاءت بالأمرين معًا، واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة، فهي شريعة سمحة في أحكامها، وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة، وعاملته بما يردعه، ويُعرِّفه سوء عمله.
ومما ورد في اللين قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] الآية، وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] الآية.
عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(1).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم»(2).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويهتدون بأمره، ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(3).
وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر معلومة لدى أهل العلم، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة، حتى تابوا فتاب الله عليهم، وأنزل في ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:117-118] الآية.
عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(4).
إن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في محلها، وإن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق والحلم والصبر؛ لأن ذلك أكمل في نفع دعوته، والتأثر بها، كما أمره الله بذلك، وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة إلا عند الحاجة والضرورة، وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى، وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما، وتَرَسَّم هدي الشريعة في الجانبين(5).
فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} اذهبا إليه غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر ويخشى، فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار.
قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية، فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان، وهو مع الكفار، أو في الدعوة إلى الطاعة، وهو مع الفاسق، أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون، مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] الآية، وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]...، فإن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيرًا في القلب، أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول.
إنه لما قال لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق، وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة، ولهذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويدل على أن الذين يخاشنون الناس، ويبالغون في التعصب، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله(6).
فكان موسى يقول لهم قولًا لينًا ابتداءً، فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول، وعارض قول فرعون: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»(7).
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] الآية، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن(8).
وقالوا: النصح ثقيل، فلا ترسله جبلًا، ولا تجعله جدلًا، ولا تجمع على المنصوح شدتين: أن تخرجه مما ألف بما يكره؛ بل تخرجه مما ألف بما يحب؛ لأنك تخلعه مما اعتاد وألف، وتخرجه عما أحب من حرية واستهتار في الشهوات والملذات، ثم تقيده بالمنهج، فليكن ذلك برفق ولطف.
وهذه سياسة يستخدمها البشر الآن في مجال الدواء، فبعد أن كان الدواء مرًا يعافه المرضى، توصلوا الآن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم عملية البلع، ويتجاوز الدواء منطقة المذاق، وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة، عليك أن تغلفها بالقول اللين اللطيف.
هذا يعني أن الداعية لا بد أن يكون رحب الصدر، رحب الساحة؛ ذلك لأنه يخرج أهل الضلال عما ألفوه إلى شيء يكرهونه، فلا تخرجهم من ذلك بأسلوب يكرهونه، فتجمع عليهم شدتين، إنما تلطف معهم(9).
وقد بيَّن الله عز وجل لنا في كتابه الكريم، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وسيرته الشريفة، كيف أن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون برفق وشفقة؛ بل وخوف على الناس من عدم الإيمان واتباع الوحي المنزل.
وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام قال الله عنه: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، فناداه بقوله: (يا أبتِ)؛ ليذكره بالعلاقة التي بينهما، والتي تقتضي كمال الشفقة، وهذا استمالة لقلبه، وترغيبًا له في الإيمان.
وامتدح الله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وبلغ من شفقته صلى الله عليه وسلم، وحرصه على هداية الناس أن كادت نفسه الشريفة أن تتلف حزنًا على مَن ضل ولم يؤمن، حتى واساه الله بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وأمر الله تعالى أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ بل أمرنا الله تعالى بإحسان القول إلى كل الناس، فكيف في مقام الدعوة إليه؟! فقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فدخل في ذلك حتى الكفار؛ بل قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لو قال لي فرعون: بارك اللَّه فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات»(10)، وقال أيضًا: «لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه»(11).
وإن المتأمل في خُلُقه صلى الله عليه وسلم، ورفقه ولينه في دعوته يجد عجبًا! ومن ذلك: طريقته مع الأعرابي الذي تبول في مسجده الشريف، وهم به الصحابة، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلًا من ماءٍ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»(12)، وآخر يجذبه بشدة وغلظة يطلب منه عطاءً، فيضحك صلى الله عليه وسلم ويأمر له بعطاء، رغم نكارة ما فعله الأعرابي، وثالث يشهر عليه السيف فيعفو عنه صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك كثير.
فدل ذلك على أن الأصل في كل معاملات المسلم استعمال الرفق وحسن الخلق؛ خصوصًا في باب الدعوة إلى الله وإنكار المنكر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(13)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء»(14)، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا، ولا لعانًا، ولا سبابًا، كان يقول عند المعتبة: «ما له تَرِب جبينُه»(15).
فمتى كان بوسع الداعي إلى الله استعمال الرفق والعدول عن الشدة فعل؛ فإن الرفق لا يأتي إلا بخير، إلا أن مبدأ الرفق واللين في الدعوة ليس قاعدة مطردة، لا يُخرَج عنها بحال؛ بل قد وجدت بعض صور الشدة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن دون خروج عن حد الأدب والخلق الحسن؛ إذ لا علاقة بحال بين استعمال الشدة عند الحاجة إليها وبين استعمال الكلام الفاحش، والألفاظ المبتذلة والسوقية، دون حاجة شرعية تدعو إلى ذلك.
واستعمال الشدة في الدعوة، وفي الإنكار على المسيء والخاطئ، تدور على المصلحة وجودًا وعدمًا، فإن كانت الشدة، إن احتيج إليها، تؤدي إلى زيادة الابتعاد عن الالتزام بالحق واتباعه لم يكن فيها مصلحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم هجر كعبًا بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم؛ لما في ذلك من المصلحة، وأما من عُلم مِن حاله أو غلب على الظن أن هجرته ومقاطعته لا تنفعه؛ بل ربما ضرته فلا تشرع حينئذٍ هجرته، والله عز وجل نهى عن سب آلهة المشركين، وإن كان في ذلك مصلحة إظهار عجزها، وبيان عوارها؛ لما كانت تؤدي لاجتراء المشركين على سب الله تبارك وتعالى.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لقريش إذ اشتدوا عليه: «لقد جئتكم بالذبح»(16)، فكان لكلمته عليهم أثرًا عظيمًا في انزجارهم وكفهم عنه، في حين أنه الذي قال صلى الله عليه وسلم لمن استأذن عليه: «ائذنوا له، بئس أَخو العشيرة، أو ابن العشيرة»(17)، فلما دخل عليه ألان له القول وانبسط إليه، وهذا أيضًا للمصلحة، شفقة على الرجل؛ لعدم نفرته ومزيد غوايته.
قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [النحل:125]: «جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق؛ فالمستجيب القابل الذكي، الذي لا يعانِد الحق ولا يأباه، يُدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية»(18).
والحكمة ليست هي الرفق دائمًا؛ فلربما كانت الشدة والحزم أحيانًا هي الحكمة التي ينبغي أن نتعامل بها، لكن بميزان المصلحة الشرعية في ذلك، فينبغي إذن على الداعي إلى الله تعالى؛ بل على كل مسلم أن يضع اللين في محله والشدة في محلها، وإلا وقع فساد عظيم وشر مستطير.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وأما تسويغ الشدة والعنف بالغيرة على الحق وعلى الدين، فيقال لهؤلاء: أأنتم أغير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمتم سنته وطريقته؟!
فالنفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وقد تدفعها القسوة والشدة أحيانًا إلى المكابرة والإصرار والنفور؛ فتأخذها العزة بالإثم، وليس معنى اللين المداهنة والرياء والنفاق، وإنما بذل النصح وإسداء المعروف بأسلوب دمث مؤثر، يفتح القلوب ويشرح الصدور، وبخاصة إذا كانت الدعوة للعامة، فإنه لا ينبغي بحال مخاطبتهم بالتوبيخ والتقريع والعنف.
وفي السيرة النبوية نماذج مختلفة للأسلوب الأخاذ النافذ، الذي كان يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم غايته بلباقة وحكمة، فقد روى أبو أمامة أن غلامًا شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أدن»، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟» قال: لا، جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟»، وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة، وهو يقول في كل واحدة: لا، جعلني الله فداك، فوضع رسول الله يده على صدره وقال: «اللهم كفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»(19).
وأسلوب الداعية ينبغي أن يكون متجددًا في حدود ما يسمح به الإسلام، ومرونة الإسلام تقتضي الدعوة بأسلوب العصر ولغته، وبمختلف الوسائل المشروعة التي تضمن نقل الإسلام إلى الناس في أبهى صورة وأحسن وجه، وهذا منطق المرونة(20).
فدعوة العامي تحتاج إلى صبر وإلى تأليف، ينبغي أن تتألفوا العامة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى قسطًا في الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وينبغي أيضًا أن تحسنوا إليهم؛ فأنتم دعاة إلى الجنة، لا ينبغي أن نكون دعاة إلى النار، ولا ينبغي أن نكون منفرين.
الحكمة ليست باللين وليست بالشدة، والحكمة: وضع الأشياء في مواضعها، وينبغي للداعية، وكذلك للآمر الناهي أن يعتبر حال المدعو، وحال المأمور والمنهي، فقد يكون من الحكمة أن يغلظ لهذا الشخص المأمور، والمنهي، أو المدعو.
إن للين مواضعه، وللشدة مواضعها، فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة، وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع، وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله، واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر.
إن الرحمة واللين والرفق هي الأصل في الدعوة، والشدة إذا احتجنا لها، ولا بد أن يغلب نفعها، وتكون مقرونة بالحكمة وتحصيل المصلحة؛ لأن اللين مقصود لذاته، والشدة مقصودة لغيرها.
كما حصل في قصة المخزومية التي سرقت، فشفع فيها ابن حب رسول الله صل الله عليه وسلم، فغضب حبيبنا غضبًا شديدًا، وقال مقالته: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟!» ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها»(21)، ولو أن اللين في هذا المقام مناسبًا لاستخدمه نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعل؛ لأن فيه تضييع للحدود والواجبات.
______________
(1) رواه الترمذي (2169).
(2)رواه البخاري (2420)، ومسلم (651).
(3) رواه مسلم (50).
(4) رواه مسلم (49).
(5) الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب، موقع ابن باز.
(6) انظر: مفاتيح الغيب، للرازي (31/39).
(7) أخرجه البخاري (2493).
(8) أضواء البيان، للشنقيطي، ص464.
(9) تفسير الشعراوي (17/10438).
(10) رواه البخاري في الأدب المفرد (1113).
(11) رواه ابن أبي الدنيا في (الصمت).
(12) رواه البخاري (6128).
(13) رواه أحمد (8951)، وصححه الألباني.
(14) رواه الترمذي (1977)، وصححه الألباني.
(15) رواه البخاري (6046).
(16) رواه أحمد (7036)، وحسنه الألباني.
(17) رواه البخاري (6032).
(18) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/153).
(19) المعجم الكبير، للطبراني (7679).
(20) مشكلات الدعوة والداعية، فتحي يكن، ص121-122.
(21) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).