logo

الداعية المتعصب


بتاريخ : الاثنين ، 13 ربيع الآخر ، 1436 الموافق 02 فبراير 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية المتعصب

التعصب ظاهرة خطيرة، وتعد أخطر الأمراض الدعوية، إلا أنها ظاهرة مسكوت عنها، مما يعمق عدم فهم الظاهرة من حيث الأسباب والآثار المترتبة عليها.

ومشكلة التعصب لدى الداعية هي مشكلة إطلاق أحكام لا مبرر لها، ولا يفكر بالتراجع عنها، وخصوصًا الأحكام المتعلقة بالظن والتخمين، والتي لا فائدة من إصدارها إلا شحن النفوس بالحقد والكراهية.

 

والتعصب يوفر الوقود الكافي لإشعال أنواع الانفجارات داخل المجتمع الواحد مهما كان متماسكًا.

 

والمتعصبون أكثر تصلبًا من غيرهم في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية؛ فهم يرون الآخر بإطار سلبي، ولهم حكم مسبق نحو الجماعة بدون سند منطقي، فالتعصب هو تحيز أعمى لفرد أو جماعة أو لمذهب أو دين أو فكر سياسي، وهو مرض يفتك بالمجتمع ويدمر فيه روابط الألفة والمحبة والتماسك، ويدفع بالمجتمع الى الضياع والتمزق، فهو رؤية أحادية للأشياء والأفكارويرتكز التعصب أو العنصرية كسلوك أو نزعة على جوانب معرفية، أو عوامل عقلية، وجوانب انفعالية وجدانية، وهذه الأفكار تتعلق بتمييز الذات وتبخيس الآخرين كأفراد أو جماعات.

 

وتكمن خطورة التعصب في السلوكيات المترتبة عليه، بمعنى تحوله من مجرد أفكار ومشاعر إلى سلوك ضد الآخرين، وقد وجد علماء النفس خمس درجات من ردة الفعل للإنسان المتعصب: الأسلوب الكلامي المعارض، والتجنب، والتمييز في المعاملة، والهجوم الحسي أو العدوان الفعلي.

 

من خصائص الشخصية المتعصبة أنها متسلطة ومضطربة نفسيًا، وتتمسك تمسكًا صارمًا بالقيم المتفقة مع تطلعاتها، وتمتاز بسلوك نمطي غير قابل للتغير، ويحمل المتعصب الكراهية والحقد والانتقام، وهو يتقلب مع من يؤيده، ومهما كان الذي يؤيده ملحدًا أو مؤمنًا أـو (براجماتيًا) نفعيًا، إنما الذي يختلف معه يصبح خصمه وعدوه، وهو دائم الصراع مع نفسه وعاجزًا عن التكيف مع المستجدات، فاشلًا في تكوين العلاقات الاجتماعية .

وتأتي هذه السلوكيات كتجسيد للقناعات التي يؤمن بها المتعصب أنه الأفضل والأجدر.

 

أسباب التعصب:

لا شك أن لكل شيء أسبابه التي أدت إلى ظهوره، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهور مرض التعصب هي أولى خطوات العلاج، ومن تلك الأسباب:

 

أولًا: التأثر بالبيئة:

ومن أهم الأسباب المسؤولة عن تميز الفرد واكتسابه صفة التعصب؛ هي تلك العوامل التي ترتبط بالتنشئة الاجتماعية للفرد في أسرته، اذ يضطلع الوالدين في تكوين وبلورة فكرة التعصب عند أبنائهم منذ طفولتهم، فالأطفال يتقبلون آراء الوالدين وتصبح عندهم المثل العليا في حياتهم؛ فينطلقون وفقًا لما تمليه هذه المثل وتوجههم، وبالطبع إن هذه المثل هي نفسها السائدة في المجتمع أو الجماعة المرجعية التي تنتمي اليها الأسرة كالقبيلة أو جماعة قومية أو دينية أو مذهبية أو جماعة سياسية، فتقوم الأسرة بنقلها الى الأبناء منذ الصغر.

 

ومنهج الحق واضح؛ ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه، وأدرك عليه أباه وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة- يوقع في التعصب، والمتعصب، وإن كان بصره صحيحًا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلًا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم.

 

وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجًّا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:

 

            يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى             ومنهج الحقّ له واضح (1)

 

ثانيًا: الجهل:

والجهل سبب رئيس بين أسباب التعصب؛ إذ أن الشخص أو الجماعة أو القبيلة أو الحزب حين يجهل حقيقة ما عليه الآخرون فإنه يقع بسهولة فريسة لأحاديث المجالس غير الموثوقة والمتحاملة، كما يقع فريسة للدعاية المضادة، وتدل بعض الدراسات على أن الناس كلّما عرفوا أكثر وأكثر عن بعضهم خفّت حدة التعصب لديهم، وذلك لأن تلك المعرفة تظهر لهم زيف الشائعات المغرضة التي يتداولونها عن بعضهم من غير أي تثبّت؛ وفي هذا الإطار نفهم حكمة العديد من التشريعات والعبادات الإسلامية ذات الصبغة الاجتماعية، مثل: الحج وصلاة العيدين والجمعة والجماعة، ومثل الحثّ على التزاور وعيادة المريض، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى.

 

والله تعالى يحثنا بطريقة واضحة على التعارف والتواصل حين يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، إن انتشار الذرية وتنوع الانتماء القبلي من الأمور التي تبعث على الفرقة والتناحر والتعصب(2).

 

والمتعصب لما ضاقت دائرة معارفه وعلومه تعصب لما يعرفه وعادى ما يجهله، ووقع فريسة للدعايات المضادة والهجمات الإعلامية، والإنسان كلما اتسعت علومه ومعارفه كلما اتضحت له الحقائق، واستطاع أن يميز الخبيث من الطيب والزائف من الأصيل وهكذا، ولم يتسرع بإصدار الأحكام قبل أن يطبق الضوابط والمعايير الشرعية والعقلية في ذلك، لذلك حث الشارع الحكيم على العلم والتعلم والتأني والتبصر، وتقديم السلامة والبراءة قبل الشك والإدانة، والآيات والأحاديث وآثار السلف رضوان الله عليهم في مدح العلم والعلماء وفضائلهما كثيرة جدًا وفيها عشرات المصنفات(3)

 

ثالثًا: اتباع الهوى:

ولولا التقليد الذي هو جهل وعمى، أو التعصب واتباع الهوى، لما كان يعقل أن يفهم أحد معنى النبوة والرسالة ويؤمن بموسى وعيسى عن علم وبصيرة بذلك؛ ثم يكفر بمحمد صلى الله عليه وعليهما وسلم، فإن سر الرسالة هو الهداية، ولم يكن موسى ولا عيسى أهدى من محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فمن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر فقد ضل عن صراط الحق الصحيح الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم(4).

 

ومن غريب التعصب للرأي أن السيوطي حاول في بعض رسائله إعلال أحاديث الزيارة، فزعم أنه لم يروها أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن، وحصر روايتها في الحاكم وأحمد وسائر من ذكر شيخه الحافظ بن حجر في شرح البخاري، كأنه ظن أنها لو كانت في الصحاح أو السنن لما اقتصر الحافظ على من ذكر من مخرجيها مع ما عرف من عادته أنه يذكر جميع طرق الحديث أو أقواها(5).

 

قد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرياسة، أو ميل مع أربابها، أو شهوة خفية في منفعة أخرى، وهذا من البغي على حق الله في عباده، أو من التعصب للرأى وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، وربما كان هذا مع حسن النية، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق(6).

 

رابعًا: المصالح الذاتية والمنافع المادية:

أما المعادي للقيم الدينية الإنسانية، فيتهرب من مواجهة الحقيقة إما بالتحريف والتأويل، وإما بالإنكار والجحود، وإما بالاستهزاء والطعن، وصرف الكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر، لذا وبّخ الله سبحانه في القرآن المجيد أولئك الذين يبدلون كلام الله، بدافع التطور والمعاصرة، أو بدافع نفعي مادي وحفاظًا على المصالح الذاتية والمراكز والمناصب باسم الدين، وبباعث التعصب(7).

 

خامسًا: الجدل

وقال الغزالي: الإشارة إلى الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات، فإياك أن تحوم حولها، واجتنبها اجتناب السم القاتل والداء العضال، وهو الذي رد كل الفقهاء إلى طلب المنافسة والمباهاة، ولا تسمع لقولهم: الناس أعداء ما جهلوا، فعلى الخبير سقطت، فاقبل النصح ممن ضيع العمر في ذلك زمانًا، وزاد فيه على الأولين تصنيفًا وتحقيقا وجدلًا وثباتًا، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على غيبه فهجره (8).

 

إن من يترك التعصب ويتخلص من التقليد الأعمى, وينظر بعقل وإنصاف, فلابد أن يقتنع بأن الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغه هو الحق، ثم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم والإيمان منه لابد أن تكون هدايتهم أتم وأكمل ممن جاء بعدهم, لا يخالف في هذا إلا ضال أو مضلل تائه, لا يعرف الإسلام.

 

آثار التعصب:

أولًا: قلة الفهم:

ذكر الغزاليّ في (الإحياء) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة أن: من أركانها التخلي عن موانع الفهم، قال: فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن، وحجب الفهم أربعة،.. إلى أن قال: وثانيها- أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.

 

فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفًا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه، ويحترز عن مثله(19).

 

إن دين الله تعالى واحد في حقيقته، وروحه التوحيد والاستسلام لله تعالى، والخضوع والإذعان لهداية الأنبياء، وبهذا كان يوصي أولئك النبيون أبناءهم وأممهم، فتبين أن دين الله تعالى واحد في كل أمة وعلى لسان كل نبي؛ ولذلك قال في آية أخرى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] فالتفرق في الدين ما جاء إلا من الجهل والتعصب للأهواء، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرءوسين والرؤساء، فالقرآن يطالب الجميع بالاتفاق في الدين والاجتماع على أصليه، العقلي: وهو التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، والقلبي: وهو الإسلام والإخلاص لله في جميع الأعمال(10).

 

ثانيًا: صرف الهمم فيما لا فائدة فيه:

فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرًا من العلماء الأذكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم، وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين.

 

قال الرازي: ويدخل في هذا القسم: عدل الأمراء مع رعيتهم، وعدل العلماء مع العوام بألا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، فعلى هذا يكون العلماء الذين يعلمون العامة مسائل الخلاف التي تثير التعصب بينهم، والذين لا يعلمونهم ما ينفعهم في دنياهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، وما ينفعهم في آخرتهم من المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنفرهم من الشرور وترغبهم في الخيرات، كل أولئك العلماء من الخائنين للأمة(11).

 

ثالثًا: انحراف عقيدة الولاء والبراء:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة، والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك، مثل: أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف ... فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معاداته من أي صنف كان ... ومن كان فيه إيمان وفيه فجور، أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره(12).

 

وأهل السنة والجماعة لا يمتحنون الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يتعصبون لأسماء أو شعارات، أو تجمعات، أو زعامات، بل يوالون ويعادون على أساس الدين والتقوى، ولا يتعصبون إلا لجماعة المسلمين بمعناها الشرعي، وهي الجماعة التي ترفع راية القرآن والسنة، وهدي السلف الصالح رضي الله عنهم(13).

 

ثالثًا: الجدال بالباطل:

«ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (14)، أي ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا أوتوا الجدل، يعني من ترك سبيل الهدى وركب سنن الضلالة، والمراد لم يمش حاله إلا بالجدل أي الخصومة بالباطل.

 

وقال القاضي: المراد التعصب لترويج المذاهب الكاسدة والعقائد الزائفة، لا المناظرة لإظهار الحق واستكشاف الحال، واستعلام ما ليس معلومًا عنده، أو تعليم غيره ما عنده؛ لأنه فرض كفاية خارج عما نطق به الحديث (15).

 

رابعًا: التفرق والتشرذم:

قال القاسمي: فهاهنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنّة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين، مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين(16).

 

يقول الشيخ عبد الله محمد الصديق الغماري: وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه وتواضعه، كما كنا نكره منه تعصبه الشديد للحنفية تعصبًا يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال، حتى كان يقول عنه شيخنا الحافظ أبو الفيض: هو مجنون أبي حنيفة ولما أهداني رسالته: (إحقاق الحق) في الرد على رسالة إمام الحرمين في ترجيح مذهب الشافعي، وقرأتها وجدته غمز نسب الإمام الشافعي، ونقل عبارة عن زكريا الساجي في ذلك، فلمته على هذا الغمز، وقلت له: إن الطعن في الأنساب ليس برد علمي، فقال لي: متعصب رد على متعصب، قال الشيخ الغماري: فاعترف بتعصبه(17).

 

خامسًا: ترك الانصاف:

قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وفيه مسائل:

 

المسألة الأولى: هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ، والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز؛ فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب، وذلك لا يوجب نقصًا في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه: {وإنا أو إياكم} مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي وهم الضالون والمضلون (18).

 

سادسًا: الكذب ووضع الأحاديث:

فالتعصب ينتج عن الجهل حيث لم يأخذ أصحاب التعصب المذهبي الفقهي بالمبدأ المتفق عليه بين أئمة الفقه، ونادى به كل صاحب مذهب، وهو إذا صح الحديث فهو مذهبي؛ لم يأخذوا بهذا الكلام، فالتعصب الممقوت قد يدفع بعض أصحاب التعصب المذهبي إلي وضع أحاديث تؤيد وتشهد لهم بصحة ما يرون.

 

ومن ذلك ما روي: أنه قيل لمحمد بن عكاشة الكرماني: إن قومًا يرفعون أيديهم في الركوع، وفي الرفع فيه؛ فقال: حدثنا المسيب بن واضح عن أنس مرفوعًا: "من رفع يديه في الركوع؛ فلا صلاة له" حديث أخرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) قال الشوكاني: رواه الجوزقاني عن أنس مرفوعًا، وهو موضوع، والمتهم به محمد بن عكاشة الكرماني.

 

وهكذا كان للتعصب المذهبي أثره السيئ على الثقافة الإسلامية؛ حيث كان كل صاحب مذهب يكذب، وينسب أحاديث مكذوبة، ويرفعها كذبًا انتصارًا لمذهبه(19).

 

سابعًا: العاطفية الشديدة:

بمعنى أن المتعصب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفية الشديد والميل القوي نحو من يتعصب لهم، فهو لا يري إلا الحسنات والإيجابيات ولا يري أبدًا السلبيات والسيئات، أي أن المتعصب مصاب بعمى الألوان ، كما قال الشاعر :

 

       وعين الرضا عن كل عيب كليلة     ولكن عين السخط تبدي المساوي

فالمتعصب يصم آذانه ويغلق عيونه ويسكر حواسه تجاه سماع الحق ومعرفة الصواب، فهو غارق في أهوائه وعواطفه، وحتى لو استخدم عقله فإن النتاج الفكري لتشغيل عقله يبقى أسيرًا لقيود العاطفة وأغلال الهوى، لذلك تجد الإنسان المتعصب لا يحب المناقشة أو المحاورة، فتعصبه يوحي إليه أنه على الحق المبين الذي لا يقبل مراجعات، وفي نفس الوقت تجد المتعصب يحب الجدل والمراء لأنه دائمًا يقوم على أسس عاطفية لا أساس لها من الموضوعية .

 

ثامنًا: العجلة:

فالمتعصب إنسان شديد العجلة، متسرعًا في إصدار أحكامه واتخاذ قراراته، لا يستند في دعاواه لأي مستند شرعي أو عرفي، ولا يعتمد على أدلة ولا براهين.

فالمتعصب مع من يتعصب له على طول الخط، في الحب والكراهية والإقدام والإحجام والصواب والخطأ، لا يسأل عن أدلة ولا براهين كما قال الشاعر

       لا يسألون أخاهم حين يندبهم         في النائبات على ما قال برهانا

تاسعًا: الجمود:

المتعصب إنسان ورث أفكارًا وأنماطًا وعادات وقرارات ورؤى من الآباء والأسلاف والشيوخ والكبار، يراها من المقدسات التي يجب التسليم بصحتها وحكمتها، ويثق فيها ثقة مطلقة، ويرفض تمامًا أي نقد أو رأي مخالف لما توارثه عن شيوخه، فكلامهم عند المتعصب يقدم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل يأول كلام الله ورسوله ليوافق كلام شيخه وإمامه حتى لا يقال عنده أخطأ الإمام وأصاب غيره .

 

عاشرًا: التناقض:

فالمتعصب تجده دائمًا متناقضًا، غير منطقي في تفكيره وقراراته، فلا يربط بين المقدمات والنتائج، ويحيل كل الأحداث والمتغيرات والأزمات التي تنزل بمن يتعصب لهم بغيرهم، فهم مبرءون عنده على طول الخط، معصومون من الزلل، كما أن المتعصب دائمًا ما يفسر النقد والتوجيه لمن يتعصب لهم على أنه نوع من الحسد والغيرة والجهل(20).

 

كيف نعالج من ابتلي بداء التعصب؟

إن العقلاء قالوا: من ابتلي بخصم جاهل مصر متعصب، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية، ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى، فحينئذ يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة، فإذا سلمها، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعًا مفحمًا.

 

قلت وهذا من دلائل صحة العلم وسعة الأفق، فإن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية ويجنح إلى الحق والخير حيثما كانا، ومن كان الحق غرضه تحراه واحتج له وكان معه في كل حال، أما التعصب للطائفية والمذهب وبنيات الطريق، وتمحل الحجج الواهية لذلك، فمن دلائل صغر النفس وزغل العلم والأنس بالباطل(21).

 

ولن يخرج المتعصب من سجن أفكاره وأسر هواه إلا بالتجرد والإخلاص وإتباع المنهج النبوي، ولن يخرج المتعصب من ضيق أفقه وسرعة نزقه وتعميمه الخاطئ ونمطيته الكسولة إلا بالانفتاح على الغير، والاتصال مع الآخرين، بالحوار وتبادل الأفكار ومناقشة القضايا التي تهم الأمة وتثير بالسكوت عنها نيران التعصب بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد، فالحوار والمناقشة وقتها أشبه بإعادة فتح جرح قد التئم على .

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]، وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووراثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان، وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها؛ قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح..(22).

 

ومن أخطر أزمات الأمة على مر عصورها؛ أزمة التعصب، ويصح أن نطلق عليه مرض العصر، والتعصب يكرس أسباب الفرقة ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة.

وعلى كل حال فكل عاقل لم يعمه التعصب، يعلم أن تقليد إمام واحد بعينه، بحيث لا يترك من أقواله شيء، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء، وجعل أقواله عيارًا لكتاب الله، وسنة رسوله، فما وافق أقواله منهما جاز العمل به، وما خالفها منهما وجب اطراحه، وترك العمل به - لا وجه له البتة.

 

وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم، وإجماع الأئمة الأربعة، فالواجب على المسلمين تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والعمل بما علموا منهما.

 

قال المقري في قواعده: لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ، أو المرجوحية عند المجيب، كما يفعله أهل الخلاف، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة، والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يعلى، وأغلب من أن يغلب، وقال أيضًا: ولا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك إفساد لها، وغض من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجاتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل لا يجوز الرد مطلقًا؛ لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال «الإمام الشافعي»، لا أن ترد هي إلى المذاهب.

 

ولله درّ علي رضي الله عنه أي بحر علم ضم جنباه! إذ قال لكميل بن زياد لما قال له: أترانا نعتقد أنك على الحق، وأن طلحة، والزبير على الباطل؟!: اعرف الرجل بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله (23).

 

وماذا جنى الداعية المتعصب إلا فساد بضاعته وكساد تجارته، ولو كان يعقل ما وقع في مثل هذا الوباء.

 

____________________

(1) فتح القدير للشوكاني، (2/277).

(2) التعصب، الدكتور عبد الكريم بكار.

(3) الدعاة ومرض العصر (التعصب) شريف الزهيري، ملتقى الخطباء.

(4) تفسير المنار، (5/ 374).

(5) السابق، (7/ 453).

(6) تفسير المراغي، (2/ 124).

(7) التفسير الوسيط للزحيلي، (1/ 326).

(8) فيض القدير شرح الجامع الصغير، (5/453).

(9) تفسير القاسمي، (9/ 88).

(10) نفسير المنار، (1/ 393).

(11) مفاتيح الغيب، (10/ 109).

(12) مجموع الفتاوى، (28/ 227).

(13) طريق الهداية - مبادئ ومقدمات علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة، (ص: 73).

(14) رواه أحمد، (22164)، وابن ماجه، (48)، والترمذي، (3253)، عن أبي أمامة.

(15) فيض القدير شرح الجامع الصغير، (5/453).

(16) محاسن التأويل، (1/377).

(17) بدع التفاسير، (ص: 180).

(18) مفاتيح الغيب، (25/ 205).

(19) الدخيل في التفسير، (ص: 335).

(20) الدعاة ومرض العصر (التعصب) شريف الزهيري، ملتقى الخطباء.

(21) العواصم من القواصم، (ص: 17).

(22) في ظلال القرآن، (البقرة: 4).

(23) القواعد الصغرى، (ص: 109).