دعاة على أبواب جهنم
قال عبد الله بن المبارك: «وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانُها».
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله، وأحبار السوء هم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك.
والرهبان، وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس(1).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(2).
فيظهر لنا من حوار حذيفة رضي الله عنه أن الخير في عصر النبوة كان خيرًا خالصًا صافيًا نقيًا، وأنه سيعقبه شر، ثم يعقب ذلك الشرَّ خيرٌ ناقص فيه دخن؛ أي: شوائب، وهذه الشوائب قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها: «قوم يهدون بغير هديي»؛ أي: على غير طريقته، فالمستمع إليهم يرى في كلامهم معروفًا يعرفه؛ لأنه من السنة، ويرى في دعوتهم أيضًا منكرًا ينكره؛ لأنه بدعة وضلالة، فدعوتهم مزيج من السنة والبدعة، وخليط من الحق والباطل.
إن أحوال الأمة تزداد سوءًا، وبعدها عن الحق يزداد يومًا بعد يوم، حتى إن هذا الخير الناقص لا يدوم؛ بل يعقبه شر قبيح فسره الرسولصلى الله عليه وسلم بأنه: «دعاة على أبواب جهنم»، وهذا ينبه إلى خطورة الدعوة، وأثرها ودورها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن الشوائب التي علقت بالخير الذي فيه دخن سببها قوم يهدون بغير هديه؛ أي: دعاة منحرفون عن السنة، وأن الشر العظيم والفتنة الشديدة سببها دعاة إلى النار.
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من اتباع هؤلاء أو الاستجابة لهم، فقال: «من أجابهم إليها قذفوه فيها»، ولم يفرق صلى الله عليه وسلم في تحذيره بين متعلم وجاهل، أو صغير وكبير، ولا بين رجل وامرأة.
ويتولى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عرض السؤال عن وصفهم نيابةً عن الأمة فيقول: يا رسول الله، صفهم لنا، فيكشف رسول اللهصلى الله عليه وسلم أمرهم، ويفضح سترهم، فيقول: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا».
إذًا؛ هم من العرب، يعيشون بيننا، يأكلون من طعامنا، ويشربون من شرابنا، ويفسدون علينا ديننا، ولولا أن هذا الحديث قد أفصح عن هويتهم لظننا أن المقصود بهم أعداء الإسلام في أوروبا وأمريكا من اليهود وغيرهم، أو أنهم الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام، فلم يفهموه لاختلاف اللغة، أو أنهم من تظاهروا بالدخول في الإسلام ليطعنوه من الداخل؛ كعبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين، أو عبد الله بن سبأ اليهودي.
إنهم من الذين يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويفتون فيما يعرفون وما لا يعرفون، وهم الذين يقولون ما لا يفعلون، هم دعاة البدعة والضلالة الذين يجاملون الناس على حساب الدين، ويبتغون بدعوتهم وجه الناس لا وجه الله.
وهم كثير على مر العصور والدهور، كل غايتهم إدراك المناصب حتى يشار إليهم بالبنان، وهم أفسد للدين من أئمة الجور؛ ولذلك كانوا أول من تسعر بهم النار كما ثبت في الحديث الصحيح(3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فع