دعاة ظلموا الدعوة
تئن الساحة الدعوية الآن من ولوجظ الدخلاء، وتطفل فاقدي العلم الجهلاء، وسفاهة الحمقى السفهاء، رغم انتشار العلم وتطور المعرفة ورقي الأمم والشعوب، إلا أن الجهالة تأبى وتتأبى إلا أن تغرس لها صنوفًا، تستعملهم في خدمتها، وتزيد من شيوعهم، وتقوم على دعمهم ونصرتهم.
فها هو حقل الدعوة إلى الله يتطلع إليه من ليس له أهلًا، وها هي الدعوة ينبري لها من قلًّ علمه، وانحسر فكره وعقله، وتلكم الدروس يعقدها من قل سنه، وضعفت خبرته، ولم تنضج آلته!!.
لقد أضحينا في زمن تعاظم دخَنه، واستشرى دخله وخلله، وغلب شره على خيره، وتلطخ العلم الشرعي بسهام الجاهلين، وبات التأليف سوقًا رائجة يدخله كل إنسان، عاقل وسفيه، ومتعلم وجاهل، وذا هو المصاب الأعظم، والبلاء الأنكى.
كما قال أبو الحسن الفالي رحمه الله:
تصدر للتـدريـس كـل مُهَـوَّسٍ جهول تسمى بالفقـيه المدرس
فحـق لأهـل العـلم أن يتمـثلـوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلس
أصبح في أمة الإسلام طوائف استرزقت بالعلم، واستمكنت بالدعوة والتدريس، شكلًا لا مضمونًا، وتألقت بالوثائق، وهي مجردة من الحقائق، جانبتها الأصول، وحُرمت من المنقول والمعقول، ثم إنها تنزل أنفسها غير منازلها، وتأتي البيوت من غير أبوابها.
فهي وجوه تجهمت، وألسن فسدت، وأنفس تعفنت وانعدمت منها الأحاسيس، فأعمتهم الشهرة، وطغى غرورهم على كل شيء لا يُسمن ولا يغني من جوع.
فلو لبس الحمار ثياب خزٍ لقال الناس يا لك من حمارِ
»فالحذر الحذر من حب الصيت، وطلب التجمع، وعشق الاستكثار، فإنها من غوائل الطريق، يستطيبها من قل علمه، وهانت تربيته، ولم يعرف معاني الدعوة، ولا أدرك مغازيها، ومن صغار الدعاة من يتطاول على معلميه، وينتقد مربيه، الذين شابت لحاهم في الإسلام، وعرفتهم الأيام، ونفع الله بهم منافع يانعة، ومحاسن باهرة، لكن حبك الشيء يعمي ويصم، ومن هؤلاء من ينظر جهلًا، ويدقق سفهًا، ويجادل باطلًا، ويعاند عمى، والله المستعان»(1).
وإنَّ عناء أن تُفهِم جاهلًا ويحسب جهلًا أنه منك أفهمُ
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
»إن آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة، أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق.
عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة.
والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمرًا هينًا، ولا طريقًا معبدًا، إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرًا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره»(2).
إن خطر هؤلاء على الأمة الإسلامية لا يقل خطرًا عن اليهود والنصارى، فعداوة اليهود والنصارى صريحة واضحة، أما هؤلاء فيتزيون بزي دعاة الأمة المخلصين، وعلمائها الربانيين، ليثق فيهم من ليس عنده دراية بحالهم وتلبيسهم، فيضلون بعلم لا بجهل، ويكيدون بمكر، ويحتالون بدهاء بالغ فاضح من أجل مغنم من مغانم الدنيا الفانية، فيبيع دينه بعرض من الدنيا.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية:23].
»والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجًا عجيبًا للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب، وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتقيمه إلهًا قاهرًا لها، مستوليًا عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول، يرسم هذه الصورة ويعجّب منها في استنكار شديد.
وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى، فما أبقى في قلبه مكانًا للهدى وهو يتعبد هواه المريض، على علم من الله باستحقاقه للضلالة، أو على علم منه بالحق، لا يقوم لهواه، ولا يصده عن اتخاذه إلهًا يطاع.
وهذا يقتضي إضلال الله له، والإملاء له في عماه، فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم»(3).
فهؤلاء ضلالهم ليس عن جهل؛ بل يضلون الناس عن علم، فهم يعلمون بأن ذلك ضلال وزيف وخلاف الحقيقة؛ ولكن المنفعة الشخصية والمصلحة الذاتية تطلب منهم ذلك، نسأل الله السلامة.
»ثم قال تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة؛ فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية، فهو تعالى يقابل كلًا منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته، وهو المراد من قوله: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} في حق المردودين، وبقوله: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} في حق المقبولين»(4).
أو كما جاء في بعض كلام المفسرين: »{وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: عالًما بحاله، من زوال استعداده، وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية، أو مع كون ذلك العابد للهوى عالمًا بعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون عَلى عِلْمٍ حالًا من الضمير المفعول في {أَضَلَّهُ اللهُ} لا من الفاعل، وحينئذ يكون الإخلال لمخالفته علمه بالعمل، وتخلف القدم عن النظر، لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى، أو على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول»(5).
في مفارقة مثيرة نشطت الحملة الإعلامية في الثناء على بعض من ينتسبون للدعوة، ويدَّعون أنهم دعاة مستنيرين وعقلانيين، وأنهم هم الأمل في إصلاح التيار الإسلامي.
ومن المريب في الأمر أنهم من أشهر المدافعين عن مبارك ونظامه؛ بل كانوا يفتون أتباعهم بأن إبلاغ مباحث أمن الدولة عن معارضي مبارك فريضة دينية، وواجب شرعي!!
أحدهم أباح القرض بضمان الوظيفة، وأباح الموسيقى، وأن عهد النبي كان فيه مغنيات، وكان النبي يحضر ويسمع الغناء، مخالفًا بذلك كلام الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم: »ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف»(6)، ويفتي بأن الصلاة في المساجد التي بها قبور مستحب، وقال: لا مانع أن يكون رئيس الدولة نصرانيًا، ويستدل بقصة يوسف عليه السلام في غير موضوعها ومكانها.
من كلامه في إحدى المحاضرات: الكلمة الوحيدة التي يمكن أن تجمعنا هي مصر فقط، أي كلمة أخرى ستفرقنا، أي شعار آخر سيرفع الآن غير مصر، سفينة أسمها مصر، أي كلام آخر سيغرق السفينة ولا بد.
ومن شروطه ليكون الإنسان طالب علم وفقيهًا كشيخ الإسلام ابن تيميه فعليه أن يفعل أمرين:
الأول: أن يدرس في الأزهر.
الثاني: أن يحضر مجالس فضيلته هو.
فمن كلامه: »الذي يريد أن يكون ابن تيمية زمانه لازم يدرس في الأزهر، ويضم إلى هذا اجتهادًا شخصيًا في التحصيل العلمي النافع من كتب السلف الصالح، ويحضر مثل درسنا هذا لكي يزداد رسوخًا وعلمًا، ولكي يكون على عقيدة صحيحة، ولكي يكون أزهريًا سلفيًا، كما كان الشيخ أحمد شاكر، والشيخ عبد الرزاق عفيفي«.
يقول عن وزير مالية مبارك (بطرس غالي): «لولا هذا الرجل لكانت مصر كاليونان وأشد، هذا الرجل لولاه لضاع الاقتصاد المصري، لانتهت كل الأماني والآمال، فأسرته لها تاريخ وليسوا محتاجين لأن يسرقوا».
وفيهم قال الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله:
يقولون هذا عندنا غير جائزِ فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟!
والذي يحمل المرء على الاستغراب أن ينتمي للدعوة أمثال هؤلاء، ويصبحوا في نظر العامة علماء ومصلحين، في حين أنهم عقبة من العقبات التي يشكو منها دعاة الحق في كل مكان؛ إذ إن كلامهم ليس بينه وبين الإسلام صلة قرابة؛ إذ ينافي تعاليم الإسلام في أصوله وفروعه، ودعوى أنهم دعاة مستنيرين دعوى عارية عن الدليل، ولا يوجد في دين الله الإسلام المستنير أو غير المستنير، فالإسلام هو الإسلام كما أنزله الله تعالى.
»إن عدم تصور الدعاة للمفهوم الصحيح للإسلام هو عقبة من العقبات في سبيل الدعوة، فالدعاة في حاجة إلى التطبيق العملي والتفاعل مع الإسلام، بحيث تكون حياتهم ترجمة واضحة لمنطوق الإسلام، وصورة كريمة تمثل الإسلام وتحببه إلى الناس، فالأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى دعاة يتوسمون خطى الدعوة في أقوالهم وأفعالهم، في حياتهم الخاصة، في أنفسهم، وفي بيوتهم، وفي حياتهم العامة؛ ليصبحوا بذلك قدوة للمجتمع الذي يعيشون فيه، والداعية الناجح هو الذي يهذب الناس بسيرته قبل أن يهذبهم بلسانه، ويدعوهم إلى الله بخُلُقه وحسن سلوكه قبل أن يقول شيئًا بلسانه.
فكم تشكو الدعوة الإسلامية في العصر الحديث من تناقض الدعاة، تشكو من دعاة يعظون ولا يتعظون، يقولون ما لا يفعلون، يأمرون ولا يأتمرون، ينهون ولا ينتهون، دعاة تُكَذِّب أفعالُهم أقوالَهم في الغالب، نسمع خطبًا منبرية قوية، وتحمسات وانفعالات، وثرثرة ولا شيء غير ذلك.
ومما تشكوه الدعوة الإسلامية اليوم النفرة وعدم الانسجام، وقلة التعاون بين الجماعات التي تتصدى كل واحدة منها للدعوة إلى الله، وفي الواقع أن أكثر تلكم الجماعات بحاجة ماسة إلى من يدعوهم إلى الله ويبصرهم في دينه؛ حتى يكونوا مؤهلين أولًا في أنفسهم للدعوة بالقضاء على التنافر فيما بينهم وتنافر مناهجهم وبرامجهم في العمل»(7).
الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها:
أولًا: الإخلاص؛ فيجب على الداعية أن يكون مخلصًا لله عز وجل، لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108]، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ} [فصلت:33].
ثانيًا: العلم والبصيرة؛ أن تكون على بينة في دعوتك؛ أي: على علم، لا تكن جاهلًا بما تدعو إليه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بد من بصيرة، وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلًا أو تركًا، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة.
ثالثًا: أن تكون حليمًا في دعوتك، رفيقًا فيها، متحملًا صبورًا، وإياك والعجلة، إياك والعنف والشدة، عليك بالصبر، عليك بالحلم، عليك بالرفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك، كقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه»(8).
رابعًا: العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين، نعوذ بالله من ذلك.
أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق، يعملون به، وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف:2-3]، وقال سبحانه موبخًا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون له: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»(9)، هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قولُه فعلَه وفعلُه قولَه، نعوذ بالله من ذلك.
فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته، واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس، وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة، أن يدعو لهم بالهداية(10).
_____________
(1) صنوف الجهلة، لأبي يزن حمزة بن فايع الفتحي، (المقدمة)، بتصرف شديد.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب (البقرة: 44).
(3) المصدر السابق (الجاثية: 23).
(4) مفاتيح الغيب، للرازي (الجاثية: 23).
(5) محاسن التأويل، للقاسمي (الجاثية: 23).
(6) صحيح البخاري (كتاب: الأشربة، باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر)، عن أبي مالك الأشعري.
(7) مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث (1/23)، بتصرف شديد.
(8) صحيح مسلم (كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل)، عن عائشة رضي الله عنها.
(9) صحيح مسلم (كتاب: الزهد، باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله)، عن أسامة بن زيد.
(10) الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، عبد العزيز بن عبد الله بن باز (1/47).