ضياع الهدف
كل شخص على هذه البسيطة يمتلك هدفًا وغاية في الحياة؛ لكن بعكس ما هو متوقع، فإن هذا الدرب نادرًا ما يكون واضحًا للعيان ممهدًا لصاحبه، لذا لا بد من اكتشافه أولًا قبل البدء في السير فيه.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم يوضح لنا أهمية وضوح الهدف وتحديد الغاية ليستطيع المرء السير في الاتجاه الصحيح، وتلاشي درب المخطئين وطريق المنحرفين، ومن ذلك قول الله تعالى في أول سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: 5- 6].
اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه (1).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» (2)، لاجتهاده في كل العبادات وحرصه على جميع الخيرات.
قال العلماء: الرجاء من الله ومن نبيه واقع، وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر (3).
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة» (4).
على قدر هدفك في الحياة تكون قيمتك ومكانتك، فصاحب الهدف الصغير الحقير يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، وصاحب الهدف السامي الكبير يعيش كبيرًا ويموت كبيرًا، وعلى قدر هدفك وغايتك وصدقك فيه تكون مكانتك في الآخرة.
قال ابن القيم رحمه الله: وأمنية الرجل تدل على علو همته وخستها، وفي أثر إلهي: «إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته»، والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، والعارفون يقولون: قيمة كل امرئ ما يطلب (5).
لا بد من تحديد الهدف؛ حتى يستطيع طالب السمو أن يضع خطة تامة محكمة يسير عليها بمنتهى الدقة، فإن تحديد الأهداف يحول دون القفز في بحر الظلام ودون خوض معركة بلا راية.
فإن كنت لا تزال تبحث عن غايتك وهدفك في الحياة، فربما ما يمنعك من العثور عليهما هو أحد الأسباب التالية:
1- توقعات الآخرين، إننا مبرمجون منذ مراحل الطفولة المبكرة على تحقيق توقعات الأهل والقُدُوات، وعلى الرغم من أن هذه التوقعات تمنحنا في البداية شيئًا نتطلع إليه، ونسعى لتحقيقه، لكنها أيضًا تعمي أبصارنا عن الدرب الحقيقي الذي يتعين علينا أن نسلكه في حياتنا، على سبيل المثال، يشجع الآباء عادة خوض الطريق الآمن، فيدفعون أبناءهم للحصول على شهادة جامعية ووظيفة مربحة؛ وهو أمر قد يقود البعض للنجاح وتحقيق الرضا التام عن النفس، لكنه أيضًا قد يكون دربًا ضيقًا يدفع البعض إلى الإحباط والاكتئاب.
لا شك أن الآباء يريدون الأفضل لأبنائهم على الدوام، وقد يكون من الصعب حقًا تخييب أمل أولئك الذين يهتمون لأمرنا، الأمر الذي يقودنا في كثير من الأحيان إلى خوض طريق خاطئ لا يوصلنا إلى أهدافنا الحقيقية.
إننا في كثير من الأحيان نسير في درب خاطئ ونقطع مسافات طويلة محاولين مطابقة الصورة التي يرسمها أحدهم للنجاح.
2- البحث عن التوكيد؛ من منا لا يحب أن يكون لديه مال كثير؟ أو أن يحصل على المديح والإطراء؟ إنها أمور رائعة بلا شك، لكنها في الواقع لم ولن تمنحك أي شعور بالرضا أو معنى لحياتك.
إننا نبحث عن قيمتنا خارج أنفسنا، وبدلًا من اتباع بوصلتنا الداخلية، وشغفنا ومشاعرنا الخاصة، نجد أننا نلاحق الجوائز والمكافآت، لكن المجتمع لا يكافئ إلا الدروب التقليدية، يكافئ الآباء الأطفال المطيعين، وتمنح المدرسة الجوائز لطلابها من أصحاب العلامات العالية، نحصل على الإطراء عندما نبدأ وظيفة جديدة أو حين الحصول على ترقية، وتتم مكافأتنا بعلاوة حينما نبلي حسنًا في وظائفنا خلال العام، وعلى الجانب الآخر، يتم توبيخ الأطفال الحالمين، ومعاقبة الطلاب الذين يفكرون بشكل مختلف، ومما لا شك فيه، أنه لا أحد سيهنئُك إن رفضت عرض عمل "جيدًا" في نظر المجتمع، حتى وإن كانت هذه الوظيفة ستحطم روحك وتقضي على شغفك.
3- مقارنة نفسك بالغير -لا شك أنك قد أحسست بهذا الشعور سابقًا- تلتقي أحدهم في مناسبة ما، وتنبهر بما يمتلكونه في حياتهم، لديهم وظيفة تملأ شغفهم، عائلة مثالية، بيت وسيارة ومال كثير! لا شك أنك فكرت حينها: أريد هذه الحياة أنا أيضًا! قد لا يخطر لك حينها أن حياتك المثالية ربما تكون مختلفة عن هذا الشخص، لأنك منشغل بتخيل نفسك مكان الآخرين، تعيش حياتهم وتستمتع بما يستمتعون به، دون أن تدرك أنّك لو صرت مكانهم حقًا فربما لن تكون سعيدًا إطلاقًا، ولهذا السبب بالذات تقودك مقارنة نفسك بالغير إلى الضلال؛ لأن العثور على غايتك في الحياة يأتي من النظر في أعماقك، في داخلك أنت، وليس نتيجة مراقبة الآخرين ومقارنة حياتك بهم (6).
ولعل من أسباب الإعراض عن تحديد الأهداف -بعد الجهل بأهميتها- الخوف من عدم احترام الآخرين لأهدافنا ونقدهم لها، وهنا يمكننا أن نأخذ بالحكمة القائلة: استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فلا نحدث عن أهدافنا إلا من يدرك قيمتها، ويشجعنا على المضي قُدمًا في سبيل تحقيقها.
ومن أسباب الإعراض عن تحديد الأهداف: خوف الإخفاق، إن أكثر الناس لا يدركون أهمية الإخفاق في التمهيد للنجاح، إن النجاح الكبير يسبِقُه -في الغالب- إخفاق كبير، وقد قام الباحث (نابليون هل) بمقابلة أكثر من (500) شخص حققوا درجات عالية من النجاح، فوجدهم جميعًا -بلا استثناء- قد حققوا النجاح بعد مواجهة الإخفاق، ولكنهم قرروا أن يمشوا خطوة أخرى بعد الإخفاق، فنالوا ما يريدون.
إن أعظم مخترع في العصر الحديث، توماس إديسون، أخفق عشرة آلاف مرة في تجاربه على المصباح الكهربائي قبل أن ينجحَ في اختراعه! سأَله أحد الصحفيين قائلًا: يا سيد إديسون، لقد أخفقت حتى الآن خمسة آلاف مرة في اختراع المصباح الكهربائي، فلماذا تُصرُّ على المضيّ قدمًا في تجارِبِك؟، فأجابه: لقد أخطأت أيها الشاب، لقد نجحت في اكتشاف خمسة آلاف طريقة لا توصلني إلى ما أريد.
أغلب الناس يفضلون البقاء في (منطقة الأمان)، ومن أجل ذلك يقبلون وضعهم الحالي ولا يفكرون بالتغيير، بينما أغلب الذين يحققون نجاحًا ذا بال يخرجون من هذه المِنطقة، ويقبَلون بحد معقول من المجازفة، إن التغيير أمر لا مفر منه، لكن أكثر الناس يخافون منه، وفي الوقت نفسه يتمنَّوْن أن يتحقق لهم ما يريدون، والحكمة تقتضي منا أن نقبل بالتغيير ما دام أمرًا لازمًا، وأن نجعله تحت سيطرتنا قدر المستطاع، ولأجل ذلك يجب أن تكون عندنا أهداف واضحة (7).
من أسباب النجاح في الحياة أن تتعلم كيف تضع أهدافك وتركز عليها وتسعى لتحقيقها، فحياتنا مليئة بأدوار مختلفة، ومساحات متعددة من المسؤولية فقد يكون الشخص زوجًا، وأبًا، وتاجرًا.. وعندما يفقد التوازن بين أدوارنا في الحياة وبين أهدافنا وطموحاتنا فإننا نخفق في تحقيق النجاح وقد نضحي بأهدافنا أو نهمل مسؤولياتنا، فوضع الأهداف يساعدنا في عمل توازن بين أعمالنا وطموحاتنا، لذا عليك تحديد أدوارك المختلفة، وجعلها في قائمة مبتدئًا بالأهم منها، مع جعل هذه الأدوار تابعة لقيمك ومبادئك، فاجعل قيمك هي المرشدة لك (8).
من أسباب النجاح في الحياة الدنيا والنجاة في الآخرة والفوز بالجنة أن يعلم العبد لماذا خلقه الله تعالى، وأن يعمل وفق ذلك، وأن يكون تحقيق هذا هو هدفه من حياته وتردد أنفاسه؛ قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
قال السعدي: هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي: عبادته؛ المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله (9).
وعبادة الله عز وجل –وهي طاعته– لا تكون بالأهواء والرغبات والدوافع النفسية، بل لا تكون إلا بما شرع عز وجل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تشديد ولا تفريط؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين:
أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18] الآية، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب، لا يعبده بالأمور المبتدعة (10).
حملات الشياطين لتضييع الأهداف:
ومن الواضح أن الشيطان وجنده يبذلون جهودًا ضخمة لصرف الناس عن هذا الهدف عبادة الله عز وجل وحده باستخدام كافة الآلات والمبتكرات؛ كالأفلام والمسلسلات والبرامج المتنوعة، والإباحيات، والرياضة، والمسابقات والألعاب والألعاب الالكترونية، وغيرها.
والإسلام لا يحرم الرياضة والألعاب النافعة، بل أرشدنا إلى النافع منها غير المضر، فمن ذلك ما رواه عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان فمل أحدهما فجلس، فقال له صاحبه: أجلست؟ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو سهو ولهو إلا أربعًا: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، وملاعبته أهله» (11).
والغرض الهدف، وسمي موضع الرمي غرضًا مشاكلة.
قال المناوي: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب» فهو مذموم، وكل ما لا يوصل إلى لذة في الآخرة فهو باطل «إلا أن يكون أربعة» أي واحدة من أربعة هي «ملاعبة الرجل امرأته وتأديب الرجل فرسه ومشى الرجل بين الغرضين وتعليم الرجل السباحة» (12).
حياة اللهو واللا “هدف” من أهم أدوات صرف الناس عن الغاية من خلقهم، وهذه الطائفة التي تُجر وتسحب إلى “اللا هدف” تضم أكثر الناس في زماننا هذا؛ فالشياطين والطواغيت قد أيقنوا أن مجرد العبادة المحضة لهم محدودة، وجمهورها قليل جدًا كما هو مشاهد في مرتادي الكنائس -على سبيل المثال-؛ فإنهم أقل القليل، وعامة النصارى أصبحوا علمانيين كارهين للكنيسة، أو على الأقل غير مبالين بها..
ولذلك كان سحب الناس للهو واللا “هدف” هو التصرف الأنسب لجذب الكثير من البشر، وصرفهم عن مجرد التفكير في سبب وجودهم على ظهر الأرض، أو أي شيء ينفعهم.
حرص الإسلام على المنفعة:
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفع؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز …» (13).
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك»، أي: اجتهد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دنياك الذي تصون به دينك وعيالك ومروءتك، ولا تعجز في تحصيل ذلك وتتكل على القدر، فتنسب إلى التفريط شرعًا وعادةً، ومع الاجتهاد فلا بد من الاستعانة بالله تعالى، واللجأ إليه، وبسلوك هاتين الطريقتين يحصل خير الدارين (14).
قال النووي: ومعناه احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة (15).
وظاهر كلامه رحمه الله تعالى أن قوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك» خاص بالحرص على النافع الأخروي وحده، ولكن إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم القول، وسياقه، يشمل النافع في الدنيا كما يشمل النافع في الدين.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إني لأمقت الرجل أراه فارغًا، لا في أمر الدنيا، ولا في أمر الآخرة (16).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» (17).
قال السندي: «مغبون فيهما»، أي: ذو خسران فيهما (18).
قال ابن حجر: فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس (19).
وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلًا بالتاجر الذي له رأس مال فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس، وعدو الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] الآيات، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس، ومعاملة الشيطان؛ لئلا يضيع رأس ماله مع الربح (20)، وهذا التوجيه لعامة المؤمنين.
حامل القرآن حامل راية الإسلام:
وأما حملة القرآن منهم فالأمر في حقهم أشد؛ عن عبد الله بن عمرو، موقوفًا بزيادة، ولفظه: من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، لقد أدرجت النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لحامل القرآن أن يحد مع من يحد، ولا يجهل مع من يجهل، لأن القرآن في جوفه (21)، ومعنى يحد، أي: يحتد ويغضب.
وعن الفضيل بن عياض يقول: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، وينبغي لحامل القرآن ألا يكون له إلى الخلق حاجة لا إلى الخلفاء، فمن دونهم وينبغي أن يكون حوايج الخلق إليه (22).
وقال: إنما نزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملًا، قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلّوا حلاله، ويحرّموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه ويقفوا عند عجائبه (23).
ولقد أدى انشغال المسلمين بألفاظ القرآن عن معانيه إلى حرمان الأمة من مصدر عزها ومجدها، وكيف لا وهم قد أطفأوا بهذا الفعل مصباحهم الذي ينير لهم الطريق فتخبطوا في الظلمات، وسقطوا في الهاوية، وأصبحوا في ذيل الأمم، لا قيمة لهم، ولا اعتبار لوجودهم.
أمة صارت في المؤخرة، بينما لديها ما يعيدها إلى الصدارة والرفعة، بين يديها مفتاح سعادتها، إلا أنها تُعرض عنه، وتتعامل معه تعاملًا شاذًا لم يحدث مع أي كتاب من صنع البشر، لم يحدث مع أي صحيفة من الصحف، أو حتى مع قصاصة ورقية شاردة (24).
المسلم لا يضيع أهدافه البعيدة ولا القريبة:
فعلى المسلم ألا يكون فريسة سهلة للشيطان وجنوده، وليصبر فإن: «النصر مع الصبر» كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (25).
«والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» كما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
وليتعلم كل مسلم كيف يضع أهدافه البعيدة والقريبة؛ فإن ذلك من أسباب النجاح في الدنيا، وأن يركز عليها ويسعى لتحقيقها، مع التحلي بالإرادة والعزيمة الماضية لإنجاز هذه الأهداف، وأن يعرض عن عقبات الطريق من الشهوات ونحوها مما يزينه الشيطان، ويستخدم جيشه لبث الشبهات التي تعين على ارتكاب المعاصي (26).
وإذا كان الهدف الأكبر هو الفوز برضوان الله تعالى والجنة، فإن ذلك الهدف لا يتم بلوغه إلا من خلال القيام بالأوامر واجتناب المناهي، وما يستتبعه ذلك من أخلاق وآداب وأوضاع، والقيام بذلك والتحلي به له وسائله وأساليبه وآلياته، وهكذا فكل هدف صغير هو وسيلة لهدف أكبر منه، وكل هدف كبير هو غاية لهدف أصغر منه.
ووضوح الهدف الأكبر، يعني أن كل الأهداف الصغرى، يجب أن تسهم -على نحو ما- في الاقتراب منه والوصول إليه؛ وهذا وحده هو الذي يضفي على أهدافنا الصغرى المشروعية، ويضفي على مناشطنا المختلفة المنطقية والانسجام.
إن مجرد تحديد (الهدف) على نحو جيد، يستنفر الطاقات الكامنة، ويوجه إرادة المرء وأنشطته؛ ولذا فإن الأشخاص المتفوقين، والناجحين نجاحًا متميزًا، هم -غالبًا- أصحاب أهداف محددة.
وقد قام أحد الباحثين في إحدى الجامعات الأمريكية بإجراء استفتاء لخريجي الجامعة عام 1953، وكان السؤال الذي وجهه إليهم، هو: هل لك أهداف محددة ومكتوبة؟ وكانت النتيجة (3%) فقط من هؤلاء الخريجين، وضعوا لهم أهدافًا محددة ومكتوبة عما يريدون القيام به في حياتهم.
وبعد عشرين سنة من ذلك التاريخ، أي في عام 1973 رجع إليهم صاحب البحث؛ ليستطلع أحوالهم، فوجد أم هؤلاء الـ(3%) حققوا نجاحًا في وظائفهم وأعمالهم أكثر مما حققه الـ (97%) الآخرون مجتمعين!
من السهل على الواحد منا أن يخطط المشاريع، ويرسم الأهداف بحماس وانفعال، لكن عند المجيء للتنفيذ يتلاشى الكثير من تلك الأهداف والخطط، ويشعر المرء بأنه كان في وهم، أو يشعر بالعجز والاكتئاب، ولذا فإنه لا بد من أن تكون الأهداف ممكنة التحقيق وقريبة المنال، بمعنى أن تكون الفجوة التي بينها وبين إمكانات من يرسمها فجوة، يمكن قطعها، وإلا فإن تلك الفجوة، يمكن أن تكون مصدر شقاء.
ومن وجه آخر فإن الصعاب التي تعترض الواحد منا في حياته، قد تصرفه عن أهدافه، وهذا في الحقيقة، يشكل أزمة كبيرة لكثير من الناس، والواجب أن نتكيف مع الظروف الصعبة- في حدود معينة- وعوضًا أن نتخلى عن أهدافنا نجدد عزيمتنا، وإذا اكتشفنا أن أهدافنا لا تتلاءم مع ما لدينا من قدرات؛ فيمكن أن نجري نوعًا من التعديل عليها (27).
قال ابن القيم رحمه الله: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة؛ فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له؛ بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمّل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة (28).
قيل للإمام أحمد: متى الراحة؟، قال: عند أول قدم في الجنة.
على قدر هدفك وصدقك يكون أجرك: قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (29)، وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد ثم أدركه الموت: «إن الله عز وجل قد أوقع أجره على قدر نيته» (30)، وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تخلّف عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج: «إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر» (31).
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: «إن تصدق الله يصدقك»، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو؟» قالوا: نعم، قال: «صدق الله فصدقه»، (32).
والأحاديث في هذا كثيرة، ولكن كما قال رب العزة جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، فالعبرة بالفعال وليس بالأقوال.
أسأل الله أن يجعلنا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فقد وصفهم الله تعالى بأنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18].
------------
(1) عيون الأخبار (1/ 367).
(2) أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027).
(3) فتح الباري لابن حجر (7/ 29).
(4) أخرجه مسلم (1028).
(5) مدارج السالكين (3/ 94).
(6) كيف تعثر على هدفك في الحياة؟ موقع فرصة.
(7) فن تحديد الأهداف وتحقيقها/ طريق الإسلام.
(8) صناعة الهدف/ صيد الفوائد.
(9) تيسير الكريم الرحمن (ص: 813).
(10) مجموع الفتاوى (1/ 80).
(11) أخرجه الطبراني (1785).
(12) أخرجه النسائي (8889).
(13) أخرجه مسلم (2664).
(14) صحيح مسلم بشرح الأبي والسنوسي (9/ 42).
(15) شرح النووي على مسلم (16/ 215).
(16) الزهد لأبي داود (ص: 171).
(17) أخرجه البخاري (6412).
(18) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 542).
(19) فتح الباري لابن حجر (11/ 230).
(20) المصدر السابق.
(21) إتحاف المهرة لابن حجر (9/ 440).
(22) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 92).
(23) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (76).
(24) إنه القرآن سر نهضتنا (ص: 29).
(25) أخرجه أحمد (2803).
(26) صناعة "اللا هدف"/ ناصحون.
(27) من كتاب العيش في الزمان الصعب/ عبد الكريم بكار.
(28) مفتاح دار السعادة (2/ 15).
(29) أخرجه مسلم (1909).
(30) أخرجه أبو داود (3111).
(31) أخرجه البخاري (4423).
(32) أخرجه النسائي (1953).