شعائرنا وشعائرهم
يبقى الدين في الناس ما بقيت فيهم شعائره، ويزولُ بزوال شعائره أو إبدال غيرها بها، وقد يزول الدين بالكليَّة، وتبقى في الناس بعض الشعائر التي توارثوها؛ كما زالت الحنيفية من مكة وبقيت فيهم بعض شعائر الخليل عليه السلام يؤدُّونها وهم على شركهم.
والشعائر هي أعلام الدين الظاهرة، وتُطلَقُ على الزمان، ومنه الأشهر الحرم، وتطلق على المكان، ومنه المساجد الثلاثة، والمشعر الحرام، وتطلق على الذوات، ومنه الهدي والقلائد؛ قال الله تعالى فيها: {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله} [الحج: 36]، وقد نهى سبحانه وتعالى عن استحلال شعائره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله} [المائدة: 2]، وجعل تعظيمها من التقوى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج :32]، كما تطلق الشعائر على العبادات، قوليَّة كانت أم فعليَّة؛ فشعار العيد التكبير، وشعار الحج التلبية؛ كما في حديث زَيْدِ بن خَالِدٍ الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعائر الحج»؛ (1)، وأعمال الحج تُسمَّى: مناسك الحج وشعائره.
وتكرَّر ذكر الشعائر في القرآن خمس مرات، كلها تتناول الحج ومناسكه، وسبب ذلك والله تعالى أعلم أنَّ الحجَّ أظهر الشعائر في الإسلام، وما فيه من مناسك كلها شعائر ظاهرة مُعْلَنَة، بل تجتمع العبادات الظاهرة كلها فيه.
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها؛ ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئًا من التعصب الضيق، أو شيئًا من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكًا أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.
إن في النفس الإنسانية ميلًا فطريًا- ناشئًا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة، فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلًا ظاهرًا تدركه الحواس؛ وبذلك يتم التعبير عنها، يتم في الحس كما تم في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغًا كاملًا، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل، وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلًا ظاهرًا: قيامًا واتجاهًا إلى القبلة وتكبيرًا وقراءة وركوعًا وسجودًا في الصلاة، وإحرامًا من مكان معين ولباسًا معينًا وحركة وسعيًا ودعاء وتلبية ونحرًا وحلقًا في الحج.
ونية وامتناعًا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص (2).
والعجيب أنَّ أركان الإسلام الأخرى فيها من الشعائر الظاهرة ما يمنع تحريفها أو تبديلها؛ فالشهادتان اللتان هما شرط الإسلام معلنتان في كل أذان وإقامة، في كل يوم وليلة، والصلاة شعارها الأذان، ويجتمع الناس في المساجد لأدائها، فمن أصبح يغدو إلى المسجد، فكأنَّه يرفع أعلام الإيمان، ويُظهر شعائر الإسلام، ويُوهن أمر المخالفين، وفي الصلاة الليلية يُجهَر بالقرآن، وهذا من أسباب حفظ القرآن؛ لأنه يطرقُ الأسماع باستمرار، فلا يمكنُ لأحدٍ أن يزيدَ فيه أو ينقص منه، وإلا لاحتسب عليه مجموع الأمة وردُّوه عن غيِّه، ومُضيِّعُ الصلاة مُضيِّع لأعظم الشعائر، قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كتب عمر رضي الله عنه إلى عُمَّاله: اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها، فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعًا (3).
وفي الزكاة نجدُ صدقة الفطر شعيرة مُعلنَة، يُشترى فيها الطعام ويُكال ويُنقل ويُعطى علنًا، والصيام مُعلَّق برؤية الهلال، وهو شعار ظاهر يستوي الناس في تحرِّيه ورؤيته، وهذا التحري والسؤال عن الرؤية سببٌ في إظهار شعيرة الصيام وإعلانها والحديث عنها، وكذلك ربط الفطر من رمضان بالعيد، حتى سُمي به إشهارًا لشعيرة الصيام؛ لأنَّ العيد من أبين الشعائر وأظهرها؛ فالفرائض شُرعتْ لإشادة الدين، وإظهار شعائر الإِسلام؛ ولذا كانت جديرة بأن تُؤدى على رؤوس الأشهاد.
ومن أهمية الشعائر في الإسلام وظهورها؛ أن الإنسانَ يُحكَم عليه بها؛ فمن أظهرها حُكِمَ بإسلامه والله يتولى سريرته؛ كما في حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله» (4)، وهذه الأعمال المذكورة في الحديث هي من الشعائر الظاهرة، وفي تفضيل الخُلطة على العُزلة ذكر العلماء أن من أسباب التفضيل شهود شعائر الإسلام (5).
وقال التوربشتي: المعنى أن الذي يظهر عن نفسه شعار أهل الإسلام والتدين بدينهم، فهو في أمان الله لا يستباح منه ما حرم من المسلم، فلا تنقضوا عهد الله فيه (6).
وأضيفت الصلاة إلى ضمير المشرع في «صلاتنا» لأن صلاة الإسلام تختلف عن صلاة الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية والمجوسية وغيرها؛ فقد دلت على الصلاة المشروعة التي شرعها الله ورسوله، وتحددت معالمها وهيئتها وأركانها وعددها والفريضة والمسنونة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1- 9]، وفي الحديث الشريف: «أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (7)، وكذلك الصورة البليغة في قوله: «واستقبل قبلتنا»، فقد نص عليها الحديث الشريف، مع أنها داخلة في الصلاة، ليدل التصريح بالقبلة الواحدة على قيم أخلاقية أخرى، وهي الوحدة والترابط؛ لأن القبلة واحدة والبيت الحرام واحد، والعقيدة واحدة، والعاطفة الإسلامية واحدة، ولأن الأمة كالجسد الواحد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] .
وكذلك الصورة الفنية في قوله: «وأكل ذبيحتنا» بالإضافة إلى ضمير الجلالة ورسوله الكريم، للدلالة على أن اللحم لا بد أن يكون مشروعًا، وليس كأي لحم من حيث حله وجنسه ونوعه وشروطه وذكر اسم الله عليه، وليدل على الترابط والوحدة بين بني الإنسان، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] (8).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فذلك المسلم» أي فإنه مسلم معصوم الدم والمال، يتمتع بكل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وتطبق عليه أحكامهم الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية، وذلك لأن تلك الصفات الثلاثة التي هي الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبائح المسلمين لا تجتمع إلا في مسلم مقر بالتوحيد والنبوة، معترف بالرسالة المحمدية (9).
وفي الجانب الاجتماعيِّ نجدُ أنَّ إعلان النكاح وإشهاره هو شعاره؛ كما جاء في الحديث: «فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» (10).
إنَّ الدين لا يَبقى إلا ببقاء شعائره وإظهارها، وعند المسلمين من تَعدُّد الشعائر وإظهارها ما ليس عند أصحاب الديانات الأخرى، وأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين يجتهدون في توهين هذه الشعائر في قلوب المسلمين؛ لأنه لا سبيل إلى صرفهم عن دينهم إلا بإلغاء شعائرهم، أو تحريفها، أو إفراغها من معانيها الإيمانية؛ لتكونَ تقاليد عرفيَّة ليس لها أثر عليهم.
ومن أوائل الشعائر التي حاربها الأعداء: اللغة العربية؛ لأنها شعار الإسلام ووعاؤه، والتاريخ الهجري؛ لأنَّ فيه تَميُّزًا عن الأمم الأخرى في مواقيتها.
أما اللغة العربية، فحاربوها أيام الاستعمار والتغريب، ولا يزالون، وأحلُّوا لغة المستعمر محلها، وزاحموها باللغات الأجنبية وباللهجات العاميَّة، ونفَّروا الناس من فنونها وآدابها، ومن حماتها ودعاتها ومدرسيها، وقلصوا منهاجها؛ حتى خرَّجتْ بلادُ العرب مَنْ يحملون شهادات عُليا إذا تكلم كثير منهم كسروا لغة القرآن ولحنوا فيها، وبعضهم لا يستطيع أن يركِّبَ جملة مفيدة.
وأما التاريخ الهجري، فالمساومة عليه قديمة؛ إذ طَلبتْ الدولة العثمانية قبل قرنين مساعدة من فرنسا وألمانيا وانجلترا، فوافقوا بشروط، كان منها: إلغاء التقويم الهجري في الدولة، وفي القرن الماضي طلب خديوي مصر من فرنسا وإنجلترا قرضًا لحفر قناة السويس، فاشترطوا شروطًا، كان منها: إبدال التقويم الميلادي بالتقويم الهجري بعد إلغائه.
وفي أكثر دول الغرب -إن لم يكن كلها- يُمنع الجهر بالأذان في مكبِّرات الصوت بحجة الإزعاج، بينما نواقيس الكنائس تُوقِظ النيام بإزعاجها في يوم الأحد، والموسيقى الصاخبة تصمُّ الآذان في الأسواق والأماكن العامة ولا تُمنع! مع أنَّها بلاد تدَّعي حرية ممارسة الشعائر لجميع الأديان دون تحيز، وقبل أيام مُنعتْ المآذن في سويسرا، وربما تَبِعَتْها مستقبلًا دول أخرى؛ لأنَّ المآذنَ دليل على المساجد، والمساجد موضع الصلاة، وهي شعيرة يومية ظاهرة.
والحرب على شعيرة حجاب المرأة ونقابها على أشدها، ومَنْ منعوه في بلاد الغرب صرَّحوا بأنه رمز ديني، بينما تركوا رموز الديانات الأخرى وشعائرها الظاهرة ولم يتعرضوا لها؛ لنوقنَ أنَّ هذه الشعائر الظاهرة التي قصدها الشارع الحكيم كانت سببًا قويًّا في هداية كثير من الغربيين للإسلام، حتى أضحى الإسلام ظاهرة ترعبهم، بينما لم تؤثِّر شعائر أصحاب الديانات الأخرى فيهم، ومهما عملوا لتبديل الإسلام، أو صرف الناس عنه، فلن يفلحوا؛ فإنَّ دين الله تعالى أقوى من أديان الشيطان، وسيغلبُ حقُّنا باطلهم بإذن الله تعالى.
قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32– 33].
كلُّ دين سواء كان حقًّا أم كان باطلًا، لا بُدَّ أن تكونَ له غاية، وشعائره ومراسمه تتمحور حول هذه الغاية وتكرِّسها، وتدعو إليها، ولما كانت غاية الإسلام تعبيد الناس لله تعالى وحده لا شريك له، كانت شعائره كلها لتعظيم الله تعالى وذكره وشكره، وكلَّما كانت الشعيرة أعظم كان تعظيم الله تعالى فيها أكبر، وذكره أكثر، وأظهر الشعائر في الإسلام وأكثرها جمعًا الحجُّ والعيدان، وفيها من توحيد الله تعالى وذكره وتعظيمه والثناء عليه ما ليس في غيرها.
ولو نظرنا في أكبر أمة ضالة عن الهدى في هذا العصر وهم النصارى، لوجدنا أن أكبر شعار في دينهم يتفقون عليه هو الصليب، الذي يعتقدون أن المسيح صُلِبَ عليه، وصومهم الكبير يتخلله أسبوع الآلام، والعشاء الأخير الذي تُقرَّبُ فيه القرابين ويُسمَّى عيد الفصح، ثم يوم الصَّلب، فعيدُ القيامة الذي يزعمون أنَّ المسيح قام بعد صلبه ورفع للسماء، وهذه الشعائر تمتدُّ إلى خمسين يومًا، وهي مبنيَّة على أساس أن المسيح ابن الله تعالى وأنه مصلوب؛ ليتحمَّلَ الآلام والخطايا عن البشرية، فهي شعائر تكرِّس الشرك بالله تعالى وعبادة غيره معه؛ لأنَّ الغاية عبادة المسيح مع الله تعالى، ثم لو نظرنا إلى أكبر طائفة بدعيَّة في الإسلام؛ وهي الإمامية الاثني عشرية، فإنهم فعلوا مع الحسين رضي الله عنه ما فعلت النصارى مع المسيح عليه السلام، وجعلوا الحسين رضي الله عنهم هو غاية دينهم، وحوَّلوا يوم قتله إلى مأتم نسجوا له كمًّا كبيرًا من الشعائر البدعية، من اللطم والبكاء والنوح، والإدماء والزحف والتَّغني بالمراثي، واختراع القصص في الحسين وآله رضي الله عنهم على غرار اختراع النصارى في آلام المسيح ونهايته عندهم.
ومن نَظَرَ إلى حال هاتين الأمتين: النصرانيَّة والإمامية، بَانَ له لِمَ عُظِّمت شعائر الله تعالى في الإسلام، ولِمَ كان التشديد في النهي عن التشبه بالكفار، وعن الابتداع في الدين؟ إذ إنَّ التشبه يقود المسلمين إلى شعائر النصارى، والابتداع في الدين يجعلهم كالإمامية في شعائرها المبتدعة، وكلُّ ذلك ممنوع؛ لأنه يؤدي إلى ظهور الشعائر الكفرية والبدعية، وبه تضمحلُّ الشعائر الشرعية التي ارتضاها الله تعالى لنا دينًا، وجعلها لنا شِرعة ومنهاجًا.
وفي هذه الأيام تَجتمع أعياد الأمة النصرانية بميلاد المسيح ورأس السنة وتُنقلُ هذه الشعائر للمسلمين في كثير من الفضائيات والإذاعات، فيُخشى على جُهَّال المسلمين من التأثر بها، والمشاركة فيها، أو التهنئة بها، وكلُّ ذلك من المشاركة في شعائر الكفر، والرضا بها، ولا يجتمع في قلب واحد تعظيم شعائر الله تعالى وتعظيم شعائر الكفر أو البدعة.
فهم في شعائرهم يجتهدون ولا تزيدهم من الله تعالى إلا بُعدًا وبُغضًا؛ {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، ومِنْ شُكر الله تعالى بُغْضُ شعائر الكفر والبدعة، وتحذيرُ الناس منها، وبيان بطلانها؛ ليكونَ الدين كله لله سبحانه وتعالى (11).
والواجب على المسلم ألا يخص هذه الأيام بشيء من الاحتفال أو الزينة أو الطعام، وإلا كان مشاركا للكفار في أعيادهم، وهو أمر محرم لا شك في تحريمه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (12).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل ، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء (13).
ومن فعل شيئًا من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة، أو توددًا، أو حياء، أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم (14).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جواب مفصل في هذه المسألة، وهذا نصه :
سئل رحمه الله تعالى عمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز، ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وسبت النور، ومن يبيعهم شيئًا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئًا من ذلك؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء، مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة، وغير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام، لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم... ، وأما تخصيصه بما تقدم ذكره: فلا نزاع فيه بين العلماء . بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور، لما فيها من تعظيم شعائر الكفر، وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرًا، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من تأسى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك: حشر معهم يوم القيامة.
وفي سنن أبي داود: عن ثابت بن الضحاك قال: قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟» قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟»، قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (15).
فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل أن يوفي بنذره، مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبًا، حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار، وقال: «لا وفاء لنذر في معصية الله»؛ فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية، فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين، وإنما يعملونها سرًا في مساكنهم، فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخط ينزل عليهم (16).
وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيًا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم، فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم، مما هي من شعائر دينهم؟!
وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، قالوا أعياد الكفار، فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في المسند والسنن، أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» (17)، وفي لفظ: «ليس منا من تشبه بغيرنا» (18)، وهو حديث جيد؛ فإذا كان هذا في التشبه بهم، وإن كان من العادات، فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟ (19).
-----------
(1) أخرجه ابن ماجه (2923).
(2) في ظلال القرآن (1/ 127- 128).
(3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 316).
(4) أخرجه البخاري (391).
(5) شعائرنا وشعائرهم/ طريق الإسلام.
(6) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 61).
(7) صحيح الجامع الصغير (2573).
(8) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 66).
(9) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 3).
(10) أخرجه النسائي (3369).
(11) شعائرنا وشعائرهم/ طريق الإسلام.
(12) أخرجه أبو داود (4031).
(13) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 546).
(14) فتاوى ابن عثيمين (3/ 44).
(15) أخرجه أبو داود (3313).
(16) شعب الإيمان (12/ 18).
(17) أخرجه أبو داود (4031).
(18) أخرجه الترمذي (2695).
(19) الفتاوى الكبرى (2/ 487)، مجموع الفتاوى (25/ 329).