logo

دعاة سفهاء


بتاريخ : الثلاثاء ، 14 رجب ، 1446 الموافق 14 يناير 2025
دعاة سفهاء

قال مطرف: إن الفتنة إذا أقبلت تشبهت، وإذا أدبرت تبينت (1)، وكان الحسن يقول: إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل (2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه» (3)، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. 

يأسى المرء على حال كثير ممن ينتسبون لأهل العلم والدعوة إلى الله تعالى، ولكنهم في مواطن الرجولة ومواقف الشدائد تجدهم جهلاء وليسوا علماء، سفهاء وليسوا حكماء، يخرج أحدهم متفوهًا متشدقًا: "جاهدهم بالسنن"، وأقبح منه من يقول: "بأن من يقتلون دفاعًا عن شرف الأمة ومقدساتهم ليسوا شهداء"، وأحمق من الجميع من يقول: "أننا سنحاسب في القبر عن البول وليس عن فلسطين". 

يقف العقل حائرًا أما هذه التفاهات، ويعجب من حال أناس كان يشار إليهم بالبنان، فإذا هم أجهل من أبي جهل، وأحمق من مسيلمة الكذاب، وكأني بأبي جهل فكرة وليست شخصًا. 

أفراد بلغوا من العلم مبلغًا كبيرًا؛ ولكنّهم اتّخذوا مواقف تتناقض مع علمهم، ومخالفة له مخالفة كلية، اختاروا خيارات لا يتّخذها أجهل الجهلاء! وساروا مسارات لا يرضى سيرها أحمق الحمقى، ولم ينقذهم علمهم الكبير، ولم يعصمهم من هذه السّقطات الّتي قد تكون قاتلة.

إذن ليس كل صاحب علم ينتفع بعلمه، وعلى هذا يستوي هو ومن لا علم له، ويستوي هو والجاهل، فما الفرق بين عالم ذي علم كبير لم ينفعه علمه، وبين جاهل خالٍ من العلم. 

قال الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، فانظر كيف قرّر الحقّ سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ}، أي: وأضل الله تعالى هذا الشقي، والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإيمان، ولكنّه استحب الغي على الرشد، فأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئًا يهتدي به، ولا يرى حجّة يستضيء بها؛ ولهذا قال: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَّكّرُون}، فمعنى {عَلَى عِلْمٍ} أنّه أحاطت به أسباب الضّلالة مع أنّه ممن ينتسب لأهل علم. 

قال الصابوني: أي: وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالمًا بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحًا وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يعرض عن الحق والهدى عنادًا كقوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] (4). 

إنّ لثام أبي عبيدة أشرف من أكبر عِمامة ممن حَرّف أصحابها الدين وفصّلوه على مقاساتهم، وفصَلوه عن واقع الحياة وعمارة الأرض وإعلاء كلمة الله، وقيادة العالم بعقيدة التوحيد، نعم يا هذا، التوحيد ذلك الذي اختلط بشغاف قلوبهم، وأيقنته عقولهم، وصدّقه سلوكهم، فلم يوالوا أعداء الله، ولم يعطلوا أحكامه، ولم يحلوا ما حرم الله إرضاءً لرؤسائهم وملوكهم، التوحيد الذي عاشوه واقعًا، وعشتَه حفظًا من غير فهم ولا عمل، فصدقوا الله، فاختارهم الله، وأيدهم ونصرهم وصدقهم.. 

إنّ أبا عبيدة وإخوانه جاهدوا بالسنن حقًا، وفهموها تمامًا كما فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا معنى الشهادة فقدموا أموالهم وأولادهم مقبلين غير مدبرين، تركوا لكم الدنيا واختاروا الآخرة، تركوا لكم بيوت الخلاء، وتمسكوا بالجهاد والدفاع عن شرف الأمة ومقدساتها. 

لأنهم تعلموا من سُنة رسول الله وفي مدرسته: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (5)، وهم صدقوا كلامه صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا مصداقه فيكم، يا من تنهَون الأمة عن جهاد أعداء الله، مُضِلِّي العباد سارقي الأوطان، فأذلكم الله لأهل الفجور والخنا، وأصبحتم ألعوبة بيد الحكام يسخرونكم لأهوائهم، وينتعلونكم لمآربهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

فإننا كما نجد مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في واقع الأمة في الأزمنة المتأخرة، من الإخلاد إلى الأرض، وترك الجهاد، والرضى بالزرع، والتبايع بالربا، وتسلط الأعداء، ونزع المهابة، وإصابتها بالوهن، نجد أيضا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من دوام الجهاد واستمراره، وبقاء طائفة من أمته يقاتلون على الحق ظاهرين. 

فلا تكاد راية الجهاد تسقط من يد إلا وتتلقفها أيادي أخرى، مصداقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم} [المائدة: 54]. 

ومقتضى هذا الوعد ألا يزال في الأمة مؤمنون مجاهدون، باذلون، صابرون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، وهؤلاء هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة (6). 

إنهم تعلموا من سُنة رسول الله وفي مدرسته قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 10- 11]، فآمنوا وجاهدوا بأغلى وأنفس ما وهبهم الله، تاجروا مع الله فربح بيعهم، فقل لي بربك مع من تاجرتم وبعتم واشتريتم، وماذا ربحتم وكسبتم، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. 

لقد فقهوا قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]؛ فقاموا للإعداد، ويا زَيْن ما أعدوا وأرهبوا، وما أشد وَقْع إرهابهم على أعدائهم. 

فماذا أعددتَ أنت وأمثالك غير التنظير والتطبيل؟ ماذا أعدَدتم غير المراقص والمقامر والتجارة البوار وتحالفات الذل والعار، فيا شَيْن ما أعدَدْتم. 

أيها المستهزئ بالملثم والشهداء وأهل فلسطين، المتفيقه المتعالم على أهل غزة، ألم تتابع الإبادة الجماعية، وتعاين أهلنا خارجين من بين الجراح والفَقد والأنقاض راضين محتسبين صابرين ثابتين متحدّين المحتل: نِدًّا بنِد؟ هل تعلم أن هذا ثمرة توحيدهم بالله؟ اذهب أنت وأشباهك لتتعلموا أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين في مدرسة غزة.. 

أتدري أن العالم يعيش اليوم تحولات جذرية في المفاهيم بسبب إيمان أهل غزَّة وثباتهم؟ الغربيون مندهشون من "حَمْد" أهل غزَّة لله بعد كل مصاب، تجد الكثير منهم باكين متأثرين مناصرين باحثين في أعماق هذا الدين الذي صنع هذا الشعب فطرح هذا النِّتاج، قد أقبل الناس على دين الله أفواجًا بسبب توحيد أهل غزة، اذهب فتعلم التوحيد من نساء غزة، لقد أرضعنه لأبنائهن مع الحليب، وحكينَه لأطفالهن في حكايا المساء، ونشّأنهم عليه حتى انعقدت عليه قلوبهم، وتحركوا به في دقائق حياتهم.

أتدري أن معركة طوفان الأقصى، التي أدهشت بل أعجزت وأغاظت القريب والبعيد، قد أربكت الدول الكبرى، وأرعبتها، فأجمعوا جميعًا على ضرورة التخلص من مبدعيها، وانكب أهل الاختصاص منهم يدرسون ويحللون، ويحاولون تفكيك العبقرية التي أوصلت هذه الثلة المؤمنة إلى هذا الفعل المشرف واليوم المجيد، فبدل التنظير على أهل الميدان اذهبوا وتتلمذوا على أيدي هؤلاء الأبطال، لعلكم تتعلمون لغة القوة، ومعها معاني العزة والكرامة والحرية. 

لا أبشع من ظلمة الجهل، لأنها تستحيل صاحبها أعمى وإن كان مبصرًا، ومتخبطًا وإن كان رزينًا، متهورًا وإن كان عاقلًا قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، والجهل من أمارات خراب الدنيا وقيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من ورائكم أيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج»، قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: «القتل» (7)، وقوله: «ينزل فيها الجهل»، يعني به الموانع المانعة عن الاشتغال بالعلم، «ويرفع فيها العلم»، معناه أن العلم يرتفع بموت العلماء، فكلما مات عالم ينقص العلم بالنسبة إلى فقد حامله، وينشأ عن ذلك الجهل بما كان ذلك العالم ينفرد به عن بقية العلماء (8) 

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنا» (9).

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (10). 

قال ابن بطال: وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلم، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى (11). 

وقال النووي: هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه؛ ولكن معناه أنه يموت حملته، ويتخذ الناس جهالًا يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون (12). 

عن أبي الدرداء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء»، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟» قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؟ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا (13). 

إن إدراك الإنسان أنه يعلم، أو لا يعلم، يتوقف على تفعيل آليات التعلم التي أنعم الله بها عليه، وهي آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه، إلى آخر آليات عمل القلب، وهذا التفعيل يجعله عالمًا بما تعلمه. 

ولذلك يصف الله الذين لا يقومون بتفعيل هذه الآليات بقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} [الأعراف: 179].

إننا لا نستطيع أن نصف الأنعام بأنها جاهلة، لأنها أصلًا لا تملك آليات التعلم، ولو تعلمت شيئًا بالتدريب، حسب الإمكانيات التي خلقها الله بها، فإنها قد تفوق الإنسان في أدائه، ولكنها لا تفقه ماذا تفعل، لذلك جعل الله الذين لا يقومون بتفعيل آليات عمل قلوبهم أضل من هذه الأنعام، فقال تعالى بعدها: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. 

قال الفخر الرازي: أما قوله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}؛ فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة، ومتشاركة أيضًا في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة، وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام. 

ثم قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالًا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها فلهذا السبب قال تعالى: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (14). 

إن الأنعام، وسائر الحيوانات، إذا تعلمت شيئًا فإنها لا تعلم أنها تعلم، وإذا جهلت أشياء فهي لا تعلم أنها لا تعلم، أما الإنسان فقد خلقه الله تعالى بقدرات تمكنه أن يعلم أنه يعلم، أو لا يعلم، وعليه أن يعترف بذلك، لماذا؟ 

فرق بين الذي لا يعلم الشيء ويعترف أنه يجهله، وبين الذي لا يعلم الشيء، ولا يعترف أنه يجهله، بل ويرى أنه عالم به، والواقع يشهد بجهله. 

إن الذي يُميز الإنسان الذي لا يعلم الشيء، ويعترف أنه يجهله، أنه يسعى إلى التعلم لمحو جهله، فتراه دائمًا يستكمل ما نقصه من علم.

أما الجاهل الذي لا يعترف بجهله، ويتصور أنه عالم، فإنه لا يسعى إلى استكمال ما نقصه من علم، ويظل يعيش في ظلمات الجهل، ويستحيل أن يجعل هذا التصور منه عالمًا. 

إن الجاهل الذي لا يعترف بجهله، يعيش داخل دائرة الجهل المركب، وهو من أخطر أنواع الفيروسات القاتلة التي أمسكت بشرايين شبكات التواصل الاجتماعي. 

إن الجاهل الذي لا يعترف بجهله، يُحب ويكره ذات الشيء في نفس الوقت، ويُعجب بأفكار وموضوعات من هنا وهناك، لو اجتمعت أفسد بعضها بعضًا، ويجمع بين الضدّين في وقت واحد، لذلك يقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. 

الذين لا يدركون قيم الأشياء والأشخاص والكلمات فيما يبدر منهم من أنواع السفاهة والإيذاء، لأن الرد على أمثال هؤلاء ومناقشتهم لا تؤدى إلى خير، ولا تنتهي إلى نتيجة، والسكوت عنهم احترام للنفس، واحترام للقول، وقد يؤدى الإعراض عنهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها (15). 

لقد شخص الغزالي الداء ووصف الدواء، لقد اعتقد حجة الإسلام أن أكبر نكبة من نكبات الأمة الإسلامية هم علماء السوء الذين يجعلون من علوم الدين والشرع مطية لأكل الدنيا، وأداة للوصول إلى المطامع، ووسيلة لقضاء الأوطار من الشهوات، وسبيلًا للحصول على الملذّات والمتعة. 

هؤلاء العلماء والفقهاء والمشايخ، بحسب الغزالي، هم البلاء كل البلاء، وهم بيت الداء وموطن الهلاك. 

ولهذا أفرد الغزالي مساحة كبيرة للحديث عما سمّاه "علم طريق الآخرة" لتبيان سبيل أولياء الله وخاصته من العلماء الربانيين الخاشعين حق الخشوع والمنيبين إلى الله سبحانه وتعالى إنابة صادقة. 

لقد رفع الغزالي سوطه في وجه آكلي الدنيا بواسطة الدين من علماء السوء ووعاظ السلاطين، أولئك المشايخ والفقهاء الذين بايعوا الظالمين على ظلمهم، وباركوا للمتجبّرين تجبّرهم، وسبّحوا بحمد المستكبرين، وراح يوبّخهم توبيخًا عظيمًا، ويلقي عليهم قولًا ثقيلًا، ويتفنن في إظهار الحجة عليهم، وفي تعزيرهم بوابل من القوارص والتقريع العنيف الشجاع. 

لكن حديث الغزالي وغيره من الأئمة الكبار والأقطاب العظام عن علماء السوء لم يمنع من تكاثرهم عبر العصور والأزمنة، فكأن زواجر حجة الإسلام وغيره من العلماء الكبار قد ذهبت أدراج الرياح ولم تجد نفعًا في شيء، حتى وصلنا لعصر قد صار لعلماء السوء مؤسسات تنطق باسمهم، وهيئات تعنى بمصالحهم، وكل هذا تحت ستار الحرص على مصالح المسلمين، والخوف على القيم الإسلامية، والغيرة على الشرع الشريف والمقدسات. 

فصار علماء السوء هم الكثرة الكاثرة من العلماء، وتقلصت أعداد العلماء الربانيين حتى صاروا القلة القليلة المغلوبة على أمرها أمام جحافل وعّاظ السلاطين. 

ولم يتورع علماء السوء، أفرادًا وجماعات، عبر أشخاصهم ومؤسساتهم، عن التحالف مع السلطات السياسية الظالمة الآثمة على امتداد العالم الإسلامي. 

فصار علماء السوء والدعاة الجهلة هم الذين يسبغون الشرعية على الحكام الطواغيت الظالمين، وصارت المؤسسة الدينية الفاسدة والسلطة السياسية المستبدة صنوَيْن لا يفترقان، وإن أضيف إليهم الرأسمال، تشكل لدينا ثالوث البلاء والوباء والشقاء الذي يقذف بالأمة الإسلامية في المهاوي السحيقة، ويجعلها تتردى، فيبلغ منها الوهن المبلغ الذي صارت به فريسة سهلة ولقمة سائغة للأمم التي تتكالب عليها. 

إذا وجدت طاغية في أمتنا الإسلامية يظلم الناس، ويقتلهم وينهب أموالهم، وينزل بهم النوازل والمصائب، ولا يتورع عن انتهاك حرماتهم؛ فلا تبحث عن أصل وفصل هذا الطاغية، ولا ترهق نفسك في وصفه، وفي دراسة شخصيته المريضة ونفسيته العفنة وروحه الآسنة، اذهب مباشرة نحو علماء السوء من أصحاب العمامات ومناصب الإفتاء والمشيخة، وستجد أنهم هم الذين تحالفوا معه ومنحوه الشرعية مقابل دنيا يمنحهم إياها، ونظير شهوات وملذات يظفرون بها عبر السلطان الظالم الآثم. 

الثالوث الطاغوتي المتمثل بالسلطان وعلماء السوء وجهلة الدعاة والرأسمال هو أساس خراب الأمة الإسلامية، وبيت داء انحطاطها وتردّيها، وورودها موارد تشمت الأعداء وتغيظ الأصدقاء. 

ألم يفهم هؤلاء من سياق الآية بأن الله تعالى لم يجعل لولي الأمر طاعة مستقلة؟ بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَسُولَ} وقال: {وَأُولِي الْأَمْرِ} دون أن يكرر الطاعة، والسياق دليل على أن طاعة ولي الأمر تكون من باطن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أليست الحرب القائمة هي بين مسلم وكافر؟ أم أن أهل غزة ليسوا بمسلمين؟! أليس الواجب نصرة المسلم بكل وسائل النصرة؟ وإلا كان الحاكم مخذلًا لهم بدليل ما جاء عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره» (16).

قال ابن حجر: أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه؛ بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا؛ بحسب اختلاف الأحوال (17). 

فقوله: «ولا يخذله» أي: لا يترك نصرته المشروعة سيما مع الاحتياج والاضطرار، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فالخذلان محرم شديد التحريم، ودنيويًا كان؛ كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه عنه فلا يدفعه، أو دينيًا؛ كأن يقدر على نصحه عن نحو غيبة فيترك (18). 

فإذا عجزت عن النصرة بالنفس فلا تعجز عن النصرة باللسان، فإن أعجزك ذلك فليكن بالصدقة والدعاء، والذب عنهم، فإن لم تستطع فيسعك الصمت فهو خير لك من الخوض فيما لا خير لك فيه، فلا تقيس عجزك بصمودهم، ولا تقارن بين القاعدين والمجاهدين، لا يستون.

------------

(1) السنن الواردة في الفتن للداني (1/ 234).

(2) حلية الأولياء (9/ 24).

(3) أخرجه مسلم (144).

(4) صفوة التفاسير (3/ 173).

(5) أخرجه أبو داود (3462).

(6) طريق الهداية (ص: 78).

(7) أخرجه ابن ماجه (4051).

(8) فتح الباري لابن حجر (13/ 18).

(9) أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671).

(10) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(11) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 177).

(12) شرح النووي على مسلم (16/ 224).

(13) أخرجه الترمذي (2653).

(14) مفاتيح الغيب (15/ 411).

(15) التفسير الوسيط لطنطاوي (5/ 458).

(16) أخرجه مسلم (2564).

(17) فتح الباري لابن حجر (5/ 97).

(18) دليل الفالحين (3/ 20).