logo

المزاح وضوابطه في الشريعة


بتاريخ : الأحد ، 27 ذو القعدة ، 1443 الموافق 26 يونيو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
المزاح وضوابطه في الشريعة

على الرغم من كون النبي صلى الله عليه وسلم نبيًا من الأنبياء يتلقّى الوحي من السماء، غير أن المشاعر الإنسانية المختلفة تنتابه كغيره من البشر، وتمر به حالات من الضحك والبكاء، والفرح والحزن، وتبرز قيمة العنصر الأخلاقي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في وضع هذه المشاعر المتباينة في إطارها الشرعي، حيث صانها عن الإفراط والتفريط، بل أضاف لها بُعْدًا راقيًا حينما ربطها بقضيّة الثواب والاحتساب، فقال صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» (1).

قال المناوي: يعني إظهارك له البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة، قال بعض العارفين: التبسم والبشر من آثار أنوار القلب {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)} [عبس: 38- 39]، قال ابن عيينة: والبشاشة مصيدة المودة والبر شيء هين وجه طليق وكلام لين، وفيه رد على العالم الذي يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم، قال الغزالي: ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى يقطب، ولا في الوجه حتى يعفر، ولا في الخد حتى يصعر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الذيل حتى يضم؛ إنما الورع في القلب (2).

وعن أبى ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق» (ضاحك مستبشر) (3).

ولا شك أن من مكارم الأخلاق إدخال السرور على المسلم، ومن ثم فقد كان مزاحه صلى الله عليه وسلم تأليفًا ومداعبة، وتفاعلًا مع أهله وأصحابه، وإدخالًا للسرور عليهم، وكان مشتملًا على كل المعاني الجميلة، والمقاصد النبيلة، فصار من شمائله الحسنة، وصفاته الطيبة صلى الله عليه وسلم، قال عبيد الله بن المغيرة: سمعت عبد الله بن الحارث قال: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).

قال المباركفوري: لأن شأن الكمل إظهار الانبساط والبشر لمن يريدون تألفه واستعطافه (5).

والضحك والمزاح أمر مشروع كما دلت علي ذلك النصوص القولية، والمواقف الفعلية للرسول صلي الله عليه وسلم، وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح، يخفف عنها أعباء الحياة وقسوتها، وهمومها وأعبائها، ولا حرج فيه ما دام منضبطًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يترتب عليه ضرر، بل هو مطلوب ومرغوب، لأن النفس بطبعها يعتريها السآمة والملل، فلا بد من فترات راحة، وليس أدل على مشروعية الضحك والمزاح والحاجة إليه، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، فقد كان يداعب أهله، ويمازح أصحابه، ويضحك لضحكهم.

وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟، قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل (6).

فكانوا في غاية من الوقار والثبات على قواعد الآداب الشرعية، وفي نهاية من مراعاة مكارم الأخلاق الرضية؛ حيث لم يتجاوزوا في حال الضحك وغيره عن دائرة الأمور الدينية.

وقال الطيبي: هو من باب الرجوع والقول بالموجب، أي: نعم كانوا يضحكون، لكن لا يتجاوزون إلى ما يميت قلوبهم ويتزلزل به إيمانهم من كثرة الضحك، كما ورد: إن كثرة الضحك تميت القلوب (7).

وقال بلال بن سعد: أدركتهم يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل لا، كانوا رهبانًا (8).

لكن المزاح والضحك في هدي وحياة النبي صلى الله عليه وسلم مقيد بضوابط لا بد وأن تُراعى، منها:

ألا يقع في الكذب ليضحك الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له، ويل له» (9).

كرره إيذانًا بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة؛ كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة (10).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ويضحك ولا يقول إلا حقًا وصدقًا، ومن ثم فينبغي ألا يشتمل المزاح والضحك علي تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، قال الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (11).

قال المناوي: «أن يحقر أخاه المسلم» أي يذله ويهينه ويزدريه ولا يعبأ به؛ لأن الله أحسن تقويمه، وسخر ما في السماوات والأرض لأجله، ومشاركة غيره له إنما هي بطريق التبع، وسماه مسلمًا ومؤمنًا وعبدًا، وجعل الأنبياء الذين هم أعظم الخلق من جنسه، فاحتقاره احتقار لما عظمه الله وشرفه، ومنه أن لا يبدأه بالسلام ولا يرده عليه احتقارًا (12).

ومن ضوابط المزاح والضحك في هدي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا» (13).

وأن يكون بقدر يسير معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويتوافق مع المجتمع الإيجابي العامل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة أقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» (14).

قال المناوي: أي تصيره مغمورًا في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها شيئًا من مكروه، وحياته وإشراقه مادة كل خير، وموته وظلمته مادة كل شر، وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، ولهذا قال لقمان لابنه: يا بني لا تكثر الضحك من غير عجب، ولا تمشي من غير أرب، ولا تسأل عما لا يعنيك، ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك، فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما أخرت، وقال موسى للخضر: أوصني فقال: كن بسامًا ولا تكن غضابًا، وكن نفاعًا ولا تكن ضرارًا، وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران، وفي صحف موسى عجبًا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبًا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب، عجبًا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وفي الحديث إيذان بالإذن في قليل الضحك لا سيما لمصلحته (15).

والضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا، وللقلب حياة وموت؛ فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير الله من النفس والهوى والشيطان، بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها (16).

فالمنهي عنه هو الإكثار، فالمبالغة في المزاح والضحك يُخشي من ورائه الإلهاء عن الأعباء، أو تجرؤ السفهاء، أو إغضاب الأصدقاء، أو الوقوع فيما حرم الله.

أما المواقف التي مزح وضحك فها النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة ومتنوعة، فتجده صلى الله عليه وسلم يضحك فرحًا بكرامة وفتح لأمته، أو تفاعلًا مع أصحابه، أو مداعبة لزوجاته، أو لإدخال السرور على الأطفال.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، إذ وضع رأسه فنام، فضحك في منامه، فلما استيقظ قالت له امرأة من نسائه: لقد ضحكت في منامك فما أضحكك؟، قال: «أعجب من ناس من أمتي يركبون هذا البحر هول العدو، يجاهدون في سبيل الله، فذكر لهم خيرًا كثيرًا» (17)، وفي رواية: «أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة» (18).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيقول نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا»، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (أضراسه) (19).

مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه:

عن جرير رضي الله عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي (20)، وفي رواية: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك (21).

قال ابن بطال: وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة (22).

وعن أنس رضي الله عنه: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: احملني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا حاملوك على ولد ناقة»، قال: وما أصنع بولد الناقة؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق» (23).

فكان قوله صلى الله عليه وسلم مداعبة للرجل ومزاحًا معه، وهو حق لا باطل فيه.

وعن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته (احتضنته)، فقلت لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسمًا (24).

عن أنس بن مالك أن رجلًا من أهل البادية يقال: له زاهر بن حرام، كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن زاهر بادينا ونحن حاضروه»، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت إليه، فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري هذا العبد»، فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدًا، قال: «لكنك عند الله لست بكاسد»، أو قال: صلى الله عليه وسلم: «بل أنت عند الله غال» (25).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله: إنك تداعبنا، قال: «نعم، غير أني لا أقول إلا حقًا» (26).

عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» (27).

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خَلَقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟»، قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله (28).

وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أنس رضي الله عنه قائلًا: «يا ذا الأذنين» (29).

إن هذا القول من جملة مداعباته صلى الله عليه وسلم ولطيف أخلاقه (30).

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير ما فعل النغير» (طائر صغير) (31).

عن عائشة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله: «إن الجنة لا يدخلها عجوز»، فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك كذلك، إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارًا» (32).

روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها:

قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتري منها، ثم جاء بها إلي النبي صلي الله عليه وسلم، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلي النبي صلي الله عليه وسلم، قائلًا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: أو لم تهده لي؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.

دخل أعرابي علي النبي صلي الله عليه وسلم، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي صلي الله عليه وسلم فقال: «من فعل هذا؟»، فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم حيث هو فأخرجه فقال له: «ما حملك علي ما صنعت؟»، قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي (33).

وعن عبد الله بن عمير الليثي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي لا يصلي صلاة الغداة، ويأتيها وهي صائمة، ويضربها إذا قرأت القرآن فقال: ادعيه إلي فجاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن هذه تزعم أنك لا تصلي الغداة، وأنك تأتيها وهي صائمة، وتضربها إذا قرأت القرآن»، قال: صدقت، فهم رسول الله أن يلعنه ثم استتابه، وكان صلى الله عليه وسلم حليمًا، فقال له: «لم تفعل ذلك؟»، قال: يا رسول الله إني من أهل بيت معروف لهم النوم، فأنا أتشدد للصلوات، حتى إذا أخذت مضجعي فإنها لتعالجني بكل ما عولج به إنسان فما أستيقظ إلا بحر الشمس، قال: «أما إذا استيقظت فصله»، قال: فلم تأتيها وهي صائمة؟ فقال: يا رسول الله أنا رجل شاب وهي امرأة تصوم فلا تفطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصومي تطوعًا إلا بإذنه، وإذا أذنت لها فلا تقربها»، قال: «فلم تضربها إذا قرأت القرآن؟»، قال: تقرأ بسورة واحدة من كتاب الله تولع بتلك السورة فتقرأها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «تلك السورة لو قسمت بين الناس وسعتهم» (34).

مزاحه صلى الله عليه وسلم مع زوجاته:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: «تقدموا»، فتقدموا، ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك»، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدموا»، فتقدموا، ثم قال: «تعالي حتى أسابقك»، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك» (35).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختها له، فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلنَّ أو لألطخن وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فطليت بها وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع فخذه لها، وقال لسودة: «الطخي وجهها»، فلطخت وجهي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لها (36).

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: «ما هذا الذي أرى وسطهن؟» قالت: فرس، قال: «وما هذا الذي عليه؟» قالت: جناحان، قال: «فرس له جناحان؟» قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه (37).

لا يوجد من هو أكثر اهتمامًا بالدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لدى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلقد كان صلى الله عليه وسلم إمامًا للناس، ومعلمًا للدين، وحاكمًا وقاضيًا، وقائدًا للجيوش، كما كان أبًا رحيمًا، وزوجًا بارًا، وصاحبًا وفيًا، ومع هذا كله فقد كان صلى الله عليه وسلم ضحاكًا بسامًا، يربي ويهذب بالابتسامة والممازحة، فلضحكاته منافع، ولابتساماته وممازحاته مقاصد وفوائد، ولو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الابتسامة إلى العبوس، لأخذ الناس أنفسهم بذلك، على ما فيه من مخالفة الفطرة من المشقة والعناء.

قال الإمام النووي: المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله (38).

وقال رجل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة (أي مستنكر)، فقال: بل هو سُنَّة، ولكن لمن يُحسنه ويضعه في موضعه (39).

وعن عائشة، قالت: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، قال: «بل أنا يا عائشة، وا رأساه»، ثم قال: «وما ضرك لو مت قبلي، فغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك، ثم دفنتك؟»، قلت: لكأني بك أن لو فعلت ذلك قد رجعت إلى بيتي، فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه (40).

حتى إن أصحابه رضوان الله عليهم يمازحونه صلى الله عليه وسلم فقد جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت من جلدٍ صغيرةً لا تتسع إلا للقليل، فسلم عليه فرد السلام على عوف وقال: «ادخل يا عوف»، فقال عوف: بكـُلـّي أدخل يا رسول الله؟ موحيًا بصغر الخيمة، قال صلى الله عليه وسلم مبتسمًا: «بكـُلـّك» فدخل (41).

عندما يذكر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، يذكر الجد والهمة والأمانة والصدق، وكل أبواب الخير، لكن كان هناك جانب آخر لا يسلط عليه أحدًا الضوء، يكشف قلة التكلف وما كانوا عليه من البساطة والمرح وكريم الأخلاق ولين الجانب والسماحة في التعامل.

وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يداعب أصحابه، فعن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقًا (42) تداعبنا- يعني تمازحنا-.

عن النعمان بن بشير، قال: استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟» قال: فمكث أبو بكر أيامًا، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد فعلنا قد فعلنا» (43).

ومن أبرز النوادر عن الصحابة ما وقع بين علي وزوجته أسماء بنت عميس، وكانت قد تزوجت قبله من أخيه جعفر، وبعد استشهاده، تزوجت من الصديق رضي الله عنه، وبعد وفاته تزوجت من الإمام علي، وكان لها أولاد من الثلاثة.

قال الشعبي: تزوج علي أسماء بنت عميس، فتفاخر ابناها؛ محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، فقال كل منهما: أبي خير من أبيك.

فقال علي: يا أسماء! اقضي بينهما، فقالت: ما رأيت شابًا كان خيرًا من جعفر، ولا كهلًا خيرًا من أبي بكر.

فقال علي: ما تركت لنا شيئًا، ولو قلت غير هذا لمقتك، فقالت: والله إن ثلاثة أنت أقلهم لخيار (44).

وكان نعيمان أيضًا مزاحًا، وجلده النبي صلى الله عليه وسلم، أربع مرات في الخمر، مرّ بمخرمة بن نوفل، وقد كف بصره، فقال: ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخر المسجد، قال: هاهنا فبل، فبال، فصيح به، فقال: من قادني؟ قيل: نعيمان.

فقال: للَّه عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغت نعيمان فأتاه، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال: نعم، قال: فقم، فقام معه، فأتى به عثمان بن عفان رضى الله عنه وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا، ثم ضربه، فقال الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ قالوا: نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبدًا (45).

وأما النصوص الدينية التي فهم منها من فهم أن الإسلام يدعو إلى الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.

فقوله تعالي على لسان قوم قارون له ناصحين: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، بل الفرح المراد هنا -كما يدل عليه السياق- هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلي نفسه، فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75].

وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي صلي الله عليه وسلم من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد علي أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة وفيهم نزل قوله تعالي: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].

ومثل ذلك فرح الذين غرهم علمهم المادي، فوقفوا عنده، ورفضوا ما جاء به الوحي، وفيهم جاء قول الله تعالي: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر: 83].

وقوله صلي الله عليه وسلم: «لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (46)، فالحديث واضح الدلالة على أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلى ضده.

كان يمسي ويصبح صلي الله عليه وسلم وهو مشغول بهموم دعوته، وهموم أمته، وما أكثرها.

ولكنه مع هذا لم يضق قلبه الكبير عن المزاح والمداعبة، وإعطاء الفطرة حقها، والناس حقوقهم، وهذه هي الإنسانية الكاملة، والأسوة المثلى (47).

شروط المزاح الشرعي في الإسلام:

توجد بعض الشروط التي يجب توافرها في المزاح حتى يكون شرعيًا ولا يأثم صاحبه وهذه الشروط هي:

- ألا يوجد في المزاح ما يسئ لدين الإسلام، فإن أشتمل على استهزاء بالدين فإن هذا الأمر يعد من نواقض الإسلام؛ كالاستهزاء بالله أو بالرسول أو بأمر معلوم من الدين بالضرورة، ويجب التوبة من هذا الفعل والرجوع إلى الله.

- ألا يشتمل المزاح على كذًبا وأن يكون صدقًا على الدوام.

- عدم الترويع وإخافة الناس.

- عدم اشتمال المزاح على اللمز والغمز والاستهزاء بخلق الله.

- ألا يكثر المزاح بغير الحاجة إليه.

- العلم بمقدار العباد فلا يصح المزاح أمام عالم جليل كالمزاح أمام طفلًا صغير.

- ألا يحتوي المزاح على الغيبة.

- أن يكون هذا المزاح بمثابة السكر للحلويات فلا بد أن يكون معتدلًا.

- معرفة واختيار الأوقات المناسبة للمزاح (48).

 

---------

(1) أخرجه الترمذي (1956).

(2) فيض القدير (3/ 226).

(3) أخرجه مسلم (2626).

(4) أخرجه الترمذي (3641).

(5) تحفة الأحوذي (10/ 87).

(6) شرح السنة للبغوي (12/ 318).

(7) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2994).

(8) المصدر السابق.

(9) أخرجه أبو داود (4990).

(10) فيض القدير (6/ 368).

(11) أخرجه مسلم (2564).

(12) فيض القدير (5/ 11).

(13) أخرجه أبو داود (5004).

(14) أخرجه ابن ماجه (4193).

(15) فيض القدير (1/ 125).

(16) فيض القدير (5/ 53).

(17) أخرجه أحمد (2722).

(18) أخرجه البخاري (2799)، ومسلم (1912).

(19) أخرجه مسلم (190).

(20) أخرجه البخاري (3035).

(21) أخرجه البخاري (3822)، ومسلم (2475).

(22) شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 193).

(23) أخرجه أبو داود (4998).

(24) أخرجه مسلم (1772).

(25) أخرجه ابن حبان (5790).

(26) أخرجه الترمذي (1990).

(27) أخرجه البخاري (6780).

(28) أخرجه مسلم (2310).

(29) أخرجه أبو داود (5002).

(30) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3063).

(31) أخرجه البخاري (6129).

(32) أخرجه الطبراني في الأوسط (5545).

(33) المراح في المزاح (ص: 61).

(34) المراح في المزاح (ص: 76).

(35) أخرجه أحمد (26277).

(36) أخرجه أبو يعلى (4476).

(37) أخرجه أبو داود (4932).

(38) تحفة الأحوذي (6/ 106).

(39) شرح السنة للبغوي (13/ 184).

(40) أخرجه ابن حبان (6586).

(41) أخرجه ابن ماجه (4042).

(42) أخرجه الترمذي (1990).

(43) أخرجه أبو داود (4999).

(44) مصنف ابن أبي شيبة (32207).

(45) المعارف (1/ 329).

(46) أخرجه الترمذي (2305).

(47) مزاح النبي/ موقع الدكتور يوسف القرضاوي.

(48) شروط المزاح الشرعي/ الإسلام سؤال وجواب.