وكان الإنسان عجولا
قال الله تعالى: {وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، أي: خلق عجولًا يبادر الأشياء ويستعجل وقوعها، هذا أمر في طبعه وفي خلقته.
قال الراغب: العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة القرآن، حتى قيل: العجلة من الشيطان (1).
قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، يتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه، لذلك التزم بهذا التوجيه المبارك، لم يكن يستعجل؛ بل كان يتأنى ويصبر، وإلى هذا أرشد أمته؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» (2).
أي من الأوصاف التي يحبها الشيطان من العبد، ويقوده إليها، لأنها تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين؛ التفريط والاستعجال قبل الوقت، أفاده ابن القيم (3).
وقال الله أيضًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، فكان صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة المثلى- أولى الخلق التزامًا بهذا الأمر؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا» (4).
أما المسارعة إلى فعل الخيرات والمبادرة إليها، وانتهاز الفرص إذا حانت، فإن ذلك محمود وليس بمذموم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
لأن العجلة المذمومة القطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة والاستخارة، ولهذا قال أبو حاتم البستي رحمه الله: إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تسميها أم الندامات (5).
قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
أمثلة على العجلة المذمومة:
الاستعجال بالدعاء على الأهل والمال والولد عند الغضب، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم» (6).
ولعل كثيرًا مما نرى من المصائب والأمراض وفساد الأولاد يكون بسبب الدعاء عليهم، وكثير من الناس لا يشعر بذلك، فهل من مدكر؟!
ومنها: استعجال المرء إجابة دعائه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» (7).
ومنها: استعجال بعض المصلين في صلاتهم، فلا يتمون ركوعها ولا سجودها ولا يطمئنون فيها، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلًا صلى عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فصل، فإنك لم تصل»، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها» (8).
ومن واقعنا المعاصر نرى كثيرًا من الناس يندمون حين لا ينفعهم الندم، بسبب استعجالهم في أمور كان عليهم أن يتَأَنَّوْا فيها، فمن ذلك أنه لأقل الأسباب يطلق الرجل زوجته، فتتشتت الأسر، ويضيع الأطفال، وتهدم البيوت، ويقع من الهم والغم ما الله به عليم، كل ذلك بسبب العجلة، فهل من مدكر؟!
ومنها: العجلة في قيادة السيارات، وما نسمعه من الحوادث المروعة التي كانت سببًا لإزهاق نفوس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة، إنما وقع بسبب العجلة.
ومنها: أن يستبطئ الإنسان الرزق فيستعجل، فيطلبه من طرق محرمة ووجوه غير مشروعة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي؛ أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته» (9). (10).
ومنها -أي العجلة المذمومة-: أننا نرى كثيرًا من الناس يندمون حين لا ينفعهم الندم؛ بسببِ استعجالِهِم في أمور كانَ عليهم أن يتأنوا فيها؛ فمِنْ ذلك: أنه لأقل الأسبابِ يطلق الرجل زوجته، لمجرد جدال وخصامٍ بسيطٍ يحصل في كل بيت، أو لتقصيرها في بعض الأمور لظروفٍ اكتنفتها مما تكتنف مثيلاتها من النساء؛ فيهدم بيته، ويفرق أسرته، دون ترو أو أناة أو الصبر عليها؛ لتجاهله لجبلة المرأة المقررة شرعًا، والمعروفة طبعًا كما قال صلى الله عليه وسلم: «المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج» (11)، «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» (12).
ومنها: العجلةُ في الحلفِ؛ فقد يحصل بين الرجل وزوجته أو أخيه أو صديقِهِ وغيرهم بعض المواقف، فتأتيه العجلة، فيحلف والله لأفعلن كذا أو والله لتفعلن كذا بلا شعور ولا تروٍّ، ثم يتبين له أنه قد استعجل في اليمين، ولم يُصِبْ حينما حلف؛ فيقع بين أمرين: إما أنْ يمضي في يمينِهِ، وإما أن يكفر عنها ويأتي الذي هو خير منها، وهذا الأخير هو الذي يتعينُ في حقِهِ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وإني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها» (13).
أنواع العجَلة في القرآن والسنة:
لقد ذُكرت العجلة في القرآن والسنة على أنواع:
أولًا: المذموم:
1- العجَلة في التعلم والتربية:
كما نبَّه الله تعالى نبيَّه بقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقال سبحانه: {فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال لنبيِّه: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].
2- استعجال الأمم والأفراد للعذاب:
أما الأمم، فقد قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات: 176]، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
أما الأفراد، فعن أنسٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين قد خفت فصار مِثل الفَرْخ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسأله إياه؟»، قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجِّلْه لي في الدنيا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تُطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار»، قال: فدعا الله له فشفاه (14).
3- الاستعجال في ردة الفعل:
كما في قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه: 83]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان عندما أراد أن يهجوَ قُرَيشًا حين قال حسان: والذي بعثك بالحق، لأفريَنَّهم بلساني فَرْيَ الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسَبًا، حتى يلخِّصَ لك نسبي» (15).
4- الاستعجال في الدعاء:
قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي» (16).
قال بعض العلماء: قوله: «ما لم يعجل» يعنى يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخل لرب كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب.
وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي والاستسلام لربه تعالى بالذلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح فى الدعاء (17).
5- وصف الدنيا بأنها عاجلة:
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، وقال سبحانه: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20]، وقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27].
قال السعدي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل.
فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحًا لا خسار معه، وفزتم فوزًا لا شقاء يصحبه (18).
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم؛ لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة، وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر (19).
6- استعجال النتيجة والثمرة:
عن خباب بن الأرت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. واللهِ، ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنَمه، ولكنكم تستعجلون» (20).
وحاصل المعنى: لا تستعجلوا فإن من كان قبلكم قاسوا ما ذكرنا فصبروا، وأخبرهم الشارع بذلك ليقوى صبرهم على الأذى (21).
7- العجَلة في الصلاة:
فلا يتم المصلي ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئن فيها، وقد جاء في حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: أن رجلًا صلى عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فصل؛ فإنك لم تصل»، قالها ثلاثًا (22)، ثم علمه الصلاة وأمره بالطمأنينة في الركوع والسجود.
8- العجلة في عملية تغيير وإصلاح المجتمع:
وقد روى البخاري وغيره، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: «قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفَر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعَل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دِينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (23).
فلا ينبغي للمسلم أن يضعف إذا ما عانى شيئًا من المشقة والابتلاء، في طريق سيره ودعوته إلى الله، فقد سبقه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا يستعجل الثمرات والنتائج، وليعلم أنه كلما اشتد الظلام أوْشك طلوع الفجر، وكلما ازدادت المحن والابتلاءات، قرب مجيء النصر، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
9- العجلة في الحكم على الآخرين:
يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال (24).
قال ابن الجوزي: ما اعتمد أحد أمرا إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم، ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة، لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره، فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور، وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره، وأشد الناس تفريطًا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة، خصوصًا فيما يوجب الغضب، فإنه ينـزقه طلب الهلاك واستتبع الندم العَظِيمٌ، فالله الله، التثبت، التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها (25).
ثانيًا: المحمود:
1- العجَلة في التوبة إلى الله:
يقول جل في علاه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 17- 18].
2- العجَلة في أداء الحقوق إلى أصحابها:
عن عقبة بن الحارث، قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَرِ نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: «ذكرت شيئًا من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته» (26).
3- العجلة في أداء الدَّين:
عن جابر قال: توفِّي رجل، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟! فخطَا خطًى، ثم قال: «أعليه دين؟»، قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الدينارانِ علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحق الغريم وبرِئ منهما الميت؟»، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: «ما فعَل الدِّينارانِ؟»، فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن بردت عليه جلده» (27).
4- العجلة في أداء فريضة الحج:
وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعجَّلوا إلى الحج -يعني: الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» (28).
وفي رواية: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج، فليتعجل» (29).
5- تعجيل الفِطر:
عن سهلِ بن سعد: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (30).
أسباب وبواعث العجَلة:
1- الجهل بسنن الله تعالى في الكون والخَلْق، وأنها تسير وَفْق نظام وترتيب بعيدًا عن الفوضى والعشوائية.
2- الطمع في الاستزادة من الشهوات، والخوف على ضياعها وعدم تحصيلها.
3- العجَلة بابٌ عظيم من أبواب الشيطان؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «التأنِّي مِن الله، والعجَلة من الشيطان» (31)؛ ولهذا عدَّ الإمام ابن حجر الهيتمي: العجَلة وترك التثبُّت في الأمور مِن الكبائر، مع أن الإمام الذهبي لم يذكرها في الكبائر؛ وذلك أن عند الاستعجال يروج الشيطان شرَّه على الإنسان من حيث لا يدري، فوعده بالغرور، واستغواه، وكرَّه إليه المصير للآخرة، وزيَّن له الحاضرة، ونصب له فخوخًا كالبِحار الزاخرة.
4- الجَهْل بعواقبِ ومآلات الأمور، وأن عاقبة العجلة الندامة غالبًا؛ يقول أبو حاتم البستي: العجلة موكل بها الندم، وما عجل أحد إلا اكتسب ندامة، واستفاد مذمة؛ لأن الزلل مع العجل، والإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه، ولا يكون العجول محمودًا أبدًا، والعاقل يعلم أن العجز في الأمور يقوم في النقص مقام الإفراط في السعي، فيتجنبهما معًا، ويجعل لنفسه مسلكًا بينهما (32).
آفات العجلة:
1- دليل على خفة صاحبها، وقلة عقله وحلمه وصبره.
2- تمنع المرء من التثبت والوقار، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشر وتمنع الخير.
3- حرمان السيادة والريادة ومواقع القيادة.
4- أنها شؤم على صاحبها، وموقعة في الندم والحسرة، وكسب للمذمة.
العلاج:
1- على المرء أن يتعلم الحلم والأناة والصبر في حياته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (33)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» (34).
2- الاستفادة من سيرة الأمم السابقة كما قصها القرآن، والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح.
3- الاستعداد والحذر الدائم للمعركة مع الشيطان الذي يدفع بالإنسان إلى الاستعجال في الأحكام والأقوال والأفعال.
4- النظر في عواقب العجلة، وأنها غير لائقة بالمؤمن الذي يريد رضا ربه ومولاه سبحانه وتعالى (35).
ومن أجل ذلك كانت التُّؤَدَة -وهي الأناة- جزءًا من النبوة، كما جاء في حديث عبد الله بن سَرْجِس المزني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّمتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة» (36).
ويتبين لنا أن الأناة ثمرة لتوفر صفات كريمة في الإنسان، ومن أهمها: الحلم والصبر، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَ الحلماء، وسيد الصابرين.
عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفتَ إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء (37).
وفي هذا الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى، والتجاوز عن جفاء هذا الأعرابي، وفيه بيان لخلقه العظيم من الصفح والدفع بالتي هي أحسن.
قال القاضي: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم؛ فقال: «اغفر»، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: «لقومي»، ثم اعتذر عنهم بجهلهم؛ فقال: «فإنهم لا يعلمون» (38).
والأناة المطلوبة ينبغي أن تكون في الحدود المقبولة، وإلا انقلبت إلى ضدها؛ فليس من الأناة المحمودة أن يبطئ المرءُ في أمر تحققتْ له مصلحته وللمسلمين، ولا في أداء واجب افترضه الله عليه حتى يفوت وقته (39).
كم يفوت العبد على نفسه بسبب العجلة والطيش من الخير، بل كم يعود عليه من الضرر بسبب العجلة والطيش.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا يزال الرجل يجني من ثمرةِ العجلة الندامة.
وقال ابن القيم: لا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول.
قال أبو حاتم البستي: إنّ العجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكّر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه النّدامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكنيها أمّ النّدامات (40).
_______________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص: 334).
(2) صحيح الجامع (3011).
(3) التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 112).
(4) أخرجه البخاري (3231).
(5) روضة العقلاء (ص: 288).
(6) أخرجه مسلم (3009).
(7) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
(8) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397).
(9) أخرجه الطبراني (2085).
(10) العجلة/ منتديات الألوكة.
(11) أخرجه البخاري (5184).
(12) أخرجه مسلم (1469).
(13) أخرجه البخاري (3133)، ومسلم (1649).
(14) أخرجه مسلم (2688).
(15) أخرجه البخاري (3531)، ومسلم (2490).
(16) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (7034).
(17) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 100).
(18) تفسير السعدي (ص: 899).
(19) التحرير والتنوير (29/ 408).
(20) أخرجه البخاري (3612).
(21) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 145).
(22) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397).
(23) أخرجه البخاري (3612).
(24) تفسير ابن كثير (7/ 370).
(25) صيد الخاطر (ص: 386).
(26) أخرجه البخاري (851).
(27) أخرجه أحمد (14537).
(28) أخرجه أحمد (2867).
(29) أخرجه أحمد (1973).
(30) أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (2522).
(31) سبق تخريجه.
(32) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 217).
(33) أخرجه مسلم (25).
(34) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (2388).
(35) العجلة/ موقع الألوكة.
(36) أخرجه الترمذي (2010).
(37) أخرجه البخاري (3149)، ومسلم (1057).
(38) الشفا في حقوق المصطفى (1/ 73).
(39) الأناة: التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان/ الألوكة.
(40) روضة العقلاء (ص: 216).