دروس المساجد: أسسها وعوامل نجاحها
المسجد هيئة إسلامية ذات شأن عظيم في تربية المجتمع المسلم تربيةً إيمانية متكاملة، وحين يكون دور هذه الهيئة واضحًا وفاعلًا كما ينبغي فإن آثار ذلك تظهر جليَّة في استقرار وتنمية هذا المجتمع.
كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دار عبادة، ومجلس شورى، ومعهد علم وتعليم وتربية، ومكان حوار بين الأطراف مع الوفود القادمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومأوى للمهاجرين، ومصنعًا للأبطال، ومجلس دعوة إلى الله، إلى غير ذلك من المهمات الجليلة.
هذه المهمات الجليلة في آخر الزمان مُسخت إلى أداء الصلوات فقط، وهو في الحقيقة مجلس شورى، مدرسة تعليم، بناء أمة، تدريب، حوار، استقبال ضيوف، مأوى للفقراء، ولو لم يكن ذلك لما عمد النبي الخاتم، محمد صلى الله عليه وسلم، إلى تأسيس وإرساء قواعد المساجد إبَّان وصوله إلى حاضرة دولة الإسلام الوليدة، لقد كانت هذه إشارة بليغة إلى كافة من يريدون أن يلتمسوا أفضل الأماكن، وخير الوسائل في التربية والتوجيه والإرشاد على الإطلاق في المجتمع المسلم، إنها المساجد، خير الأماكن في أرض الله سبحانه.
كانت المساجد مصدر إشعاع في العالم الإسلامي قديمه وحديثه؛ ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان المسجد مدرسة تخرَّج فيها علماء وقادة، وفيه كان يعقد ألوية جيوشه التي نشرت الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يفعلون.
وأصبح المسجد بعدئذٍ مدرسةً تُعقد فيها حلقات العلوم في شتى الفنون، وما مساجد بغداد والقاهرة، والقيروان، وقرطبة، ودمشق، والموصل، وجميع حواضر الإسلام بالخافي شأنها في تثبيت النهضة العلمية كما يحدثنا التاريخ.
ولقد أدى المسجد عبر التاريخ الإسلامي أدوارًا عظيمة الشأن بالغة التأثير في المجتمع الإسلامي، فكان البيت الجامع الذي يختلف إليه المسلمون للعبادة ولتسيير شئونهم العامة، ولتدبير أمور دنياهم، فيه يقف المسلم بين يدي خالقه، خاشعًا متضرعًا، يرجو رحمة ربه، ويسعى إلى تربية روحه وتزكية نفسه على مكارم الأخلاق التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، من فضيلة، ومحبة، وتسامح، ومساواة، وعدالة، وتضامن اجتماعي بين أفراد الأمة الإسلامية، وهو في الوقت نفسه مؤسسةٌ تعليميةٌ وتثقيفيةٌ، يفد إليها المسلمون لتعلّم القراءة والكتابة، والنهل من ميادين العلم والمعرفة.
والحاجة الآن ماسة إلى الإفادة من المسجد في خدمة المجتمع والنهوض به، من أجل مواجهة التيارات المختلفة التي تحاول العصف بالعالم الإسلامي.
فالمسجد هو أحبّ البقاع إلى الله تعالى، فهو قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو بيت الأتقياء ومكان اجتماع المسلمين يوميًا، وهو مركز مؤتمراتهم، ومحل تشاورهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون، وعلى الخير يتعاونون، لهذا كان بناء المسجد أول المهام التي بادر رسول الله إلى إنجازها منذ الهجرة الشريفة، فبنى لله مسجدًا قبل أن يبني لنفسه بيتًا في المدينة المنورة؛ وذلك لأهمية المسجد في بناء الشخصية المسلمة وتنشئتها، وكان هذا منهج الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين من بعده، حتى توالى بناء المساجد مع الفتوحات الإسلامية.
كما أن السكينة والرحمة ونزول الملائكة وذكر الله للمؤمنين، كل ذلك مرتبط بالاجتماع في بيوت الله ومدارسة كتابه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(1).
ولما كانت التربية الإسلامية تعنى ببناء الشخصية المسلمة في إطار المجتمع المسلم بناءً متكاملًا، فإن المسجد يسهم في تحقيق هذا الهدف من خلال مناشطه المختلفة التربوية والاجتماعية، ويرجع ذلك إلى أن الإسلام دين اجتماعي يسعى إلى إيجاد المجتمع الصالح وتكوين الفرد الصالح؛ بل إن صلاح المجتمع لازم لصلاح الفرد لزوم التربة الخصبة لإنبات البذرة، فلا يتصور الإسلام الفرد المسلم إنسانًا منعزلًا في خلوة أو راهبًا في صومعة؛ بل يتصوره دائمًا في جماعة حتى في عبادته لربه، ومن هنا هدفت المساجد في الإسلام إلى تحقيق هذه الصورة الاجتماعية القوية، وإقامة المجتمع المتماسك الذي تربطه في المقام الأول روابط العقيدة.
كما تجدر الإشارة إلى أن المسجد روح قبل كل شيء، ومتى وجدت هذه الروح في الجامعات والمعاهد والمدارس وفي العالم الإسلامي، كانت قادرة على أداء دورها في إحداث النهضة، وبث اليقظة، ومحاربة الانحراف الديني والخلقي والسياسي والتربوي وغيرها من الانحرافات في أوساط المسلمين.
فالعلم هو أساس العملية التربوية في الإسلام، ولقد ورد أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا»(2).
وطلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة، فهو مأمور بأن يتعلم الحلال والحرام؛ ليكون على نور من أمر دينه، وأول ما ينبغي عليه أن يتعلمه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليكون على بصيرة، يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وقد حث النبي عليه السلام على تعلّم القرآن وتعليمه فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(3).
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم قيمة هذا الأمر، فكانوا يجتمعون في المسجد حول النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ العلم من منابعه، وقد حثهم النبي صلى الله عليه وسلم على تدارس كتاب الله في المسجد فقال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(4).
فكان المسجد معهدًا لتعلم القرآن وتعليمه، وفهم آياته وأحكامه، كما كان معهدًا لدراسة الأحاديث النبوية والتفقه فيها، وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم، يجلس به العلماء والفقهاء والمحدثون، ويتحلق من حولهم الطلاب ينهلون من علمهم وفقههم.
ولقد ورد ما يدل على أن التعليم والتعلّم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر لما ليس له»(5).
ولهذه الأهمية التي يحظى بها التعليم في الإسلام رغب النبي صلى الله عليه وسلم في ارتياد المسجد للتعلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهم من الإبل»(6).
ومن أبرز ما يؤكد على أن المسجد كان مركزًا للتعليم والتوجيه مجالس العلم التي كانت تعقد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتزاحم المسلمون عليها، ويتنافسون في القرب منه، فعن الحارث بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه»(7).
ولقد سلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هذا النهج، فكانوا يتدارسون القرآن في مسجده، ويتذاكرون فيه الحلال والحرام ليتفقهوا في الدين، فعن أبي هريرة أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم!! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال ذاك ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: فـي المسجد، فخرجوا سراعًا، ووقـف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا، فقال لهم: ما بكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئًا يقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون وقومًا يقرءون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم(8).
فالمساجد ليست أماكن لأداء الصلاة فقط، ولكنها مراكز للتعليم والتوجيه, ومؤسسات للتربية والتنشئة, ومعاهد للفقه الشرعي والبحث العلمي, عن طريق ما يعقد فيها من دروس ومحاضرات وندوات, وما يلقى على منابرها من خطب ومواعظ ونصائح في مختلف جوانب الحياة الفردية والجماعية، وما لم تكن تلك وظيفة المساجد ورسالتها الخالدة ومهمتها العظمى فإنها ستظل معطلة، ولن تؤتي ثمارها الطيبة المباركة التي وجدت من أجلها.
وحلق العلم في المساجد هي التي أوصلت لنا الإسلام وحفظته علينا حتى وصل إلينا غضًا طريًا، وما زال من دأب العلماء الربانيين إقامة الحلقات العلمية في المساجد بطرق متنوعة ومتعددة، متمثلين قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، ولذا لا بد من إحياء رسالة المسجد في نشر العلم والتعليم في المساجد؛ لما تتميز به من روحانية إيمانية وراحة نفسية، ولما يتحقق فيها من حضور المسلمين واجتماعهم، رفيعهم ووضيعهم، غنيهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم دون أدنى تمييز.
أسس وقواعد الدرس المسجدي:
يعد الدرس نوعًا من أنواع القول والدعوة، ويختلف الدرس عن الخطابة والمحاضرة؛ من ناحية الموضوع والأسلوب، فهو يختلف مثلًا عن أسلوب وفن الخطابة؛ من ناحية أن الدرس يحضره عدد قليل من المصلين للاستماع إلى ما يلقيه عليهم إمام المسجد، بخلاف جمهور الخطبة؛ فهم خليط من الناس قد لا يعرفهم الخطيب، ولا يحتاج الإمام في الدرس إلى رفع الصوت مثلًا، ومن ناحية الموضوع لا يشترط له ما يشترط للخطبة؛ ولهذا، الأفضل بالنسبة للدرس أن يكون مؤسَّسًا على ما يلي:
1- تفسير لآية من كتاب الله: وهو أفضل ما تحلى به الدروس، وهو أن يتناول الإمام تفسير كلام الله، فما أجمل في مكان فسره بآية أخرى، وما أطلق في آية قيدته الآية الأخرى، مثاله قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، مقيد بعدم الشرك بالله، وهو قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
والمقصود أن كتاب الله غني بالدروس والعبر والعظات، والمواعظ الحسنة، والآداب السامية، ولكن ينبغي على إمام المسجد أن يحسن تلاوة الآيات وفق أحكام التجويد وقواعده؛ حتى يكون وقعها قويًا في النفوس، وأن تكون له معرفة جيدة بتفسير الكلمات والآيات؛ حتى لا يقع في الخطأ، ويفسر كلام الله بما لا يوافق مراده، ويمكنه الاستعانة ببعض التفاسير المعتمدة.
2- الحديث النبوي: وكذا يقال في تفسير الحديث ودروسه ما قيل في كلام الله سبحانه، فعلى الإمام أن يحسن تلاوة الحديث وألفاظه، وأن تكون له معرفة بتفسيره.
ومن الأفضل أن يتناول موضوعًا معينًا، ويأتي من الأحاديث ما يَصُبُّ في بيانه وتوضيحه، ومثاله النية وأهميتها، ودورها في تصحيح العمل أو بطلانه، أو ضرب المثل.
أو يأتي بقصة من القصص النبوي المرغبة في العمل الصالح؛ كقصة الذين دخلوا الغار، ويبين فيه للمستمعين فضل الدعاء عند الكرب ونحو ذلك.
3- أن يتناول مسألة فقهية: بشيء من الإسهاب والتفصيل مما له علاقة بأحوال الناس؛ مثل فرائض الوضوء، وشروط الصلاة وأركانها، ومسائل الصوم، وأركان الحج وغيرها، وبما يناسب الحال والمقال، ونحو ذلك.
ويستحسن أن يبين الحكم الفقهي الراجح إن كان من ذوي القدرة على تمييز الأقوال الفقهية الراجحة من المرجوحة، ولا بأس من أن يفتح باب السؤال، شرط أن يكون متمكِّنًا من الجواب؛ لئلَّا يحرج ويحار عن الجواب.
4- لا بأس بالتعرض لمواضيعَ تخص العصر، ولكن دون تشعب؛ لأن الإحاطة والاستقصاء في الموضوع يصلح للمحاضرات، ومن مواضيع العصر التحذير مما يخالف الإسلام من المذاهب والأفكار ليحذَرها المسلم ويبتعد عنها(9).
عوامل نجاح الداعية في دروسه:
إذا أراد إمام المسجد أن يكون ناجحًا في دروسه، موفَّقًا في مواعظه فعليه:
1- أن يكون كلامه واضحًا تمام الوضوح؛ لأن الغاية من الدرس ليس هو إظهار قدرته على الكلام، وإنما القصد إفهام المستمع بما هو مطلوب منه.
ومن تمام الوضوح ألَّا يُسرع كلامه؛ بل عليه التأنِّي والتمهُّل، وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في مواعظه أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهَم.
2- أن يستعمل من الشواهد القرآنية أو الحديثية ما يُناسب الموضوع، وأن يأخذ منها ما يحتاجه بالقدر المطلوب؛ لئلا يحتاج إلى التكرار، ويكون مَثَلُه مثل المقاتل يأخذ من سهامه ما يصيب به العدو، فإذا استعمل جميع السهام ربما وقف ينتظر هجوم العدو عليه.
3- أن يتهيأ فيعد الدرس إعدادًا جيدًا، وأن يلبس أحسن ما يجد، ويجلس في مصلاه، أو يقف كي ينظر إليه الجميع، وقد ذُكِر عن الإمام الهُمَام مالك رحمه الله أنه كان يهتم جدًا بهندامه؛ تعظيمًا لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
4- من الأفضل أن يكون الدرس ارتجاليًّا، وأن تكون مادته جاهزةً في ذاكرته؛ لأن وَقْعَ ذلك سيكون جيدًا في المستمعين، فالارتجالية في إلقاء الدرس وقعُه على النفس كبير، وليتمكن من مراقبة أحوال المستمعين، ولا يشغله عما يحدثهم شاغل.
5- عدم إطالة الدرس؛ لأنها تورث الملل والنفور، إلا إذا أضفى عليه ما يشوِّق، ورأى في الحاضرين رغبةً إلى ذلك، المهم أن تكون الدروس هادفة غير طويلة مملة، ولا قصيرة مخلة، إذا سمعها الجالس جنى منها الفائدة بسهولة.
وقد جاء في الحديث: «أن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ مِن فقهِه»(10)، وهو وإن كان في موضوع الخطبة إلا أن كلام الرسول عام في غيره.
6- التلطف في الدرس مع الناس والرفق بهم، وألَّا تكون عنده روح الاستعلاء والتكبر، وأنه هو الوحيد المبرَّأ من العيوب، أما مَن يخاطبهم فهم المقصودون مِن آيات وأحاديث الوعيد، وهو من شأنه أن يعزل الإمام عن محيطه؛ فينفر الناس من الاستماع إلى كلامه؛ بل وربما هجروا المساجد بسبب أفعاله وتصرفاته.
7- أن يبادر إلى التطبيق والعمل بما يقول، فإن كان يحذرهم من عدم دفع الزكاة وهو يكتنز المال، أو ينهاهم عن السؤال وهو يمد يده إليهم، أو ينهى عن الغِيبة وهو يجلس في مجالس اللغو والنميمة؛ فلن يجد له آذانًا مُصغيةً له؛ بل ربما سيحتقرونه، ويكون صغيرًا في عيونهم.
8- أن يتميز خطابُه بين الترغيب في الخير ودواعيه، والترهيب من الشر وآثاره، وربما احتاج إلى التذكير بطيب الأصل، وما عليه المدعو من صفات طيبة وأخلاق سامية، توجب عليه التمسك بالإسلام والدين أكثر من غيره، ولكن دون مجاملة أو إخفاء لبعض معاني الحق والدين(11).
لماذا المسجد؟
يقول المباركفوري: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ}؛ أي: بإنشائها، أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس، قال صاحب الكشاف موضحًا معنى عمارة المساجد: «قمّها [أي: كنسها]، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تُبْنَ له المساجد من حديث الدنيا، فضلًا عن فضول الحديث»(12).
والمسجد هو المربي الأصيل لفتيان الأمة وشبابها وشيوخها على السواء، فكل ما فيه وما يتصل به يحفر في النفوس معاني الكرامة والإنسانية الصافية، البعيدة عن الكدر والعكر، فصاحب القلب المعلَّق بالمساجد موعود بأن يكون في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، كما أن الشاب الذي نشأ في عبادة الله سبحانه لا يمكن أن تتحقق له هذه الصفة بعيدًا عن ارتياد المساجد، والمشاركة في إعمارها.
إن المسجد ليس ديرًا ولا كنيسة، وليس في الإسلام رهبانية تقطع صاحبها عن مجريات الحياة، والمسجد هو الأَولى قبل غيره من المؤسسات أن يستوعب كافة الوسائل الحديثة المُعينة على التوجيه والتربية، فموضع الصلاة يجب أن يحاط بقاعات الدروس، ومراكز الأبحاث الموسوعية الشاملة في كافة المجالات والعلوم الإنسانية والكونية.
وعلى المسجد أن يسر المستمعين من معانيه، كما يسر الناظرين من مبانيه، والأولى هنا مقدمة على الأخيرة، وليس للمبنى دون المعنى فائدة ترتجى؛ لكن التناسُق بينهما يولد ذوقًا إسلاميًّا رفيعًا لا يقاوم سحره، ولا يُقدر على هجره.
إن سحر البيان وبلاغة القول يجب أن تتجلَّى أول ما تتجلى هناك في ساحات المساجد، أما تضييع الأوقات في تَكرار المعاني دون حاجة لها، أو في الأساليب الممجوجة التي لا يقبلها ذوو الفطر السليمة، فإنه حريٌّ بإخلاء ساحات المسجد من كل ذي لُبٍّ وفكر، وإن أبقى على من تعودوا المجيء إليه بسبب الجوار وقُرب المسافة، مهما كانت الظروف والأحوال.
وعلى المسجد أن يعمل على كسب ولاء الفئات الشبابية من حوله، ولهذا الكسب فنون وطرائق، والحكمة تقول:
أَحسِن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وهنا يتساءل صاحب صناعة الحياة قائلًا: كيف يحصل إذعان الناس للواعظ؟، ويسعفنا بالإجابة فيقول: هي معادلة معقَّدة، لا ندري جميع أطرافها، ولكن يمكننا أن نميز أهم رقمين:
الأول: أنه تيسير من الله تعالى، أي أن إيمان الواعظ يجعل لسانه صادقًا، فيميز الناس نبرة الصدق بإذن الله فيتبعونه، وما خرج من القلب دخل القلب، وما خرج من اللسان لا يتعدى الآذان، فالتأثير بقدرة الله سبحانه، وكان عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما أفطس أعمى، وفوق ذلك كان مقعدًا، ولم يمنعه ذلك أن يكون سيد التابعين بمكة، وأن تملأ كتب التفسير والحديث والفقه أقواله.
الثاني: أنها فصاحة وقابلية وعلم لا يحوجه إلى تكرار المعاني، وإنما يجدد شواهده دائمًا، وهذه منح من الله أيضًا يعرفها الشَّكُور، وبعض الوعاظ يتميز على بعض، ثم الله يزيد ويبارك.
فلو أن خطة الدعوة لا تدع الدعاة إلى أقدارهم يواجهونها؛ بل تصارع القدر بالقدر، وتدفع الجهل والانزواء الذي كَلْكَل على بعضهم بقدر العلم والجُرأة على مواجهة الناس وتعليم الفصاحة؛ إذًا لاشتغل رهط من بعد بطالة، ولتحركت طاقات من بعد تعطيل، ولتقدمنا مرحلة في صناعة الحياة.
وبموازاة هذا الأثر، فإن الواعظين يقومون بدور مهم في إحلال التعادل مع آثار العقلانية الناتجة من كلام العلماء والمفكرين، ففي مباحث الفقه ومقارنات الفكر يُبس وجفاف، ولا بد من ترطيب النفوس بنداوة العاطفيات التي هي بضاعة الوعاظ(13).
ويقرر حقيقة مهمة فيقول: إذا كان حجم الولاء الإيماني للمؤمنين في المجتمع مقابلًا لحجم الولاء الجاهلي العصياني، فقد أذنت لهم الغلبة في الصراع؛ بل إذا كان الثلث؛ إذ المؤمن منصور بقوة الله على اثنين من الكافرين على الأقل(14).
إن على دعاة المسجد أن يخاطبوا الشباب من منطلق إحسان الظن بهم، والأخذ بأيديهم بالرفق واللين، فالحق أن الكثيرين منهم يتحرقون شوقًا، ويمتلئون كمدًا، ويفيض بهم الهم عندما تفوتهم الصلوات والعبادات، وهؤلاء تنشرح صدورهم، وتطمئن قلوبهم، وتطير نفوسهم في آفاق رحبة، تحلق في عالم ملائكي طاهر، وتغمرهم مشاعر فياضة من الأريحية والنقاء والصفاء والفرحة، وتتنسم عبق الورود والرياحين حينما يشهدون الصلوات بالمسجد؛ لكن حال معظمهم كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
إن المشكلة لدى هؤلاء هي المكبلات التي لا تكاد تنفك عنهم، وكلما أفلتوا منها طاردتهم والتصقت بهم، التعب والإرهاق والسهر، العمل والمواعيد والزيارات، التلفاز والقنوات والمباريات، مكبلات لا تنتهي، يصرعونها حينًا، وتصرعهم أحيانًا، يبكون في أعماقهم دموعًا بغير دموع، بكاء جاف لا يخفف من وطأته قطرات تتدحرج لتطفئ حرقة المعصية، وتغسل أوضار الخطيئة.
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينًا للبكاء تعار؟
فمن يا ترى سيأخذ بأيدي هؤلاء الشباب إلا دعاة المساجد الذين يتفهمون طبيعته، ويفقهون كيف تكون دعوته؟
إن عقول الشباب اليوم لا تستسيغ المبالغة اللفظية ممن يستقبلون منه المعلومة، فقد أضحى هذا مجافيًا لعصر المعلومات والمكتشفات المتجددة، وحري بدعاة المساجد أن يعوا ذلك، فمن المؤسف أن بعض الناس يجعلون من حياتهم مهرجانات للمبالغة في الأقوال والأفعال، وتجد الغالب في أساليبهم أفعل التفضيل.
والحق أن هؤلاء إنما يلجئون إلى هذا النوع من أسلوب التحدث مع الآخرين؛ ليداروا به عوار النقص، أو عدم القدرة البيانية الموضوعية لأجل توصيل ما يريدون، وربما يكون السبب في اتخاذ هذا الأسلوب، من ناحية أخرى، الرغبة في لفت الأنظار، والتلذذ بجذب انتباهات الآخرين، والارتياح برؤية علامات الاستغراب على قسمات وجوههم، والشعور بالرضا عند رؤية ردود الأفعال التي أُريدَ لها أن تكون كذلك مِن قِبَل المبالغين في إيصال المعلومات(15).
دفع الملل:
النفس البشرية ملولة، وخاصة في فترة المراهقة والشباب، وهي لا تحتمل الجد على الدوام، وكثير من هؤلاء تستهويه الفكاهة والدعابة، وتصنع به أكثر من غيرها من الجِد والحسم، وقد جاء الإسلام موافقًا للفطرة السليمة حين حض على الترويح والترفيه، والتنزه والفسحة، والرياضة والفكاهة، بكل الأساليب النظيفة التي تمتع النفس، وتنشر البِشْر والفرح، وتزيح الحزن والهمَّ، وتشرح الصدور، وتبسم الثغور، وتضحك الأسنان، في فرح ونشاط، لا يأخذ من الهيبة، ولا يضيع من الوقار، ولا يقطع ما بين الصغار والكبار.
ولقد حفظ لنا التراثُ الإسلامي مبادئَ في الترويح، ومواقفَ في النزهة، ومن المفيد للغاية عند أصحاب الدعوة المسجدية أن يجعلوا هذا الباب أصيلًا في الدخول إلى غيرهم، فتُعد الحفلات، وتُرسل الدعوات، ويُتفنن في الأداء، وينوع في الفقرات، ويُبتكر في الوسائل، مع تطعيم ذلك كله بالروح الإسلامية البريئة والجميلة والحبيبة.
وتحتفظ لنا السيرةُ بمواقفَ للرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه، وللصحابة الكرام رضي الله عنهم، في الفكاهة والضحك والترويح، والنكتة الصادقة البريئة.
ولقد ضرب القرآن العظيم، والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والتسليم للدعاة أمثلةً رائعة في تنويع الحوار، وجذب الأنظار، وتحريك الفكر والوجدان، والتذكير بالنعماء، والتفكير بالأكوان، حتى توصلوا مع أقوامهم إلى الحقيقة الناصعة، ومع ذلك لم يؤمن لأكثرهم إلا قليلٌ، فما يئسوا ولا قنطوا، فكانوا ينتقلون من قوم إلى قوم، ومن أرض إلى أرض، ليبدءوا من جديد.
منهجية الدعاة:
وأول ما يجب على دعاة المساجد استكشافُه هو منهج الأنبياء والمرسلين في دعوة أقوامهم، ودراسة الوسائل التي بها استعانوا، واستجلاء المراحل التي لها تخطوا، والصعوبات التي بها جوبهوا، وكيف تغلبوا عليها ونصرهم الله وأظهر دينه.
كما يجب على أولي الأمر في بلاد المسلمين، وكذلك الذين يتحملون أمام الله هذه الأمانة، أن يعملوا على تدشين الهيئات والمؤسسات التي تُعِد هؤلاء الدعاةَ، وتمدهم بأفضل المناهج والوسائل العصرية، ولقد أصبح هذا اليوم مرتقى سهلًا، وخاصة في ظل التواصل الجبار بين أطراف الأرض، وبأحدث التقنيات وأقلها كلفة.
والدروس المسجدية لا شك أنها قليلة من جهة، وتحتاج إلى الاختيار المناسب للموضوعات من جهة أخرى.
إننا في حاجة ماسة إلى محاولة التنسيق بين هذه الدروس قدر الإمكان, وتغطية الحاجة، سواء كان ذلك فيما يتعلق بنقص بعض العلوم, أو حاجة بعض المناطق مثلًا في زيادة الدروس, ونحو ذلك، ولهذا نرى أن هناك مناطق تكثر فيها الدورات والدروس وتتنوع، وفي مناطق الحاجة فيها أكثر لكن لا ترى هذه الكثرة وهذا التنوع, ومن جهة أخرى هناك علوم يكثر شرحها وتكرارها في مقابل علوم أخرى أسبق وأولى، والحاجة لها أكبر، لكنك لا تجدها بنفس الكثرة.
فالقضية ليست قضية علم فقط, لكن تبقى هيبة المسجد, روحانية المسجد, شعيرة مجالسة العلماء والأخذ بأدبهم وعلمهم, كما كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يلقي الدرس يستمع إليه خمسة آلاف حاضر، فكان خمسمائة منهم يحضرون لعلمه، وأربعة آلاف وخمسمائة يحضرون لسمته.
هذه الطريقة ما زالت مؤثرة حتى الآن، بدليل أننا نرى أن الثمرات المباركة خرجت من المسجد, فالناس قد ينبهروا بالإمكانات التقنية للحصول على العلم، لكن يبقى المسجد له روحانيته وأثره.
ينبغي العناية بكل ما يقدم في المسجد، وضرورة تطوير الأداء فيه، وأهمية تأصيل الدروس والدورات المقدمة في المساجد(16).
***
______________
(1) أخرجه مسلم (2699).
(2) أخرجه مسلم (1478).
(3) أخرجه البخاري (5027).
(4) أخرجه مسلم (2699).
(5) أخرجه أحمد (8586).
(6) أخرجه أبو داود (1456).
(7) أخرجه البخاري (66)، ومسلم (2176).
(8) صحيح الترغيب والترهيب (83).
(9) دروس المساجد ودورها في التربية والتعليم، شبكة الألوكة.
(10) أخرجه مسلم (869).
(11) دروس المساجد ودورها في التربية والتعليم.
(12) الكشاف (2/ 254).
(13) صناعة الحياة، ص29-30.
(14) المصدر السابق، ص23.
(15) المساجد وتربية المجتمع، شبكة الألوكة.
(16) خطاب المسجد بين الواقع والمستهدف، موقع المسلم.