logo

خطر الصوفية


بتاريخ : الاثنين ، 4 جمادى الأول ، 1444 الموافق 28 نوفمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
خطر الصوفية

كانت مسالك الصوفية حتى القرن السادس الهجري بصورة عامة قريبةً إلى الزهد، مع ما خالطها في بعض الأحيان من ابتعادٍ عن جادة الصواب.

غير أن الأحداثَ الجسامَ التي تعاقبت على الدولة الإسلامية منذ أواخر القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع الهجري، أوجدت ردة فعل معاكسة، فانصرف بعضهم عن الحياة وشؤونها ومالوا إلى التواكل، وغدا الزهد في أعرافهم نوعًا من اللامبالاة يصل لدرجة الخنوع.

لقد كانت البداية حين عقد الأيوبيون على التصدّي لتيار الفكر الشيعي إثر انهيار الدولة الفاطمية؛ إذ أنشأ الأيوبيون العديد من المدارس ودور الحديث في مصر والشام، واستدعى علماء وفقهاء السُّنَّة ليقوموا بدورهم في تلك المؤسسات.

ثم جاءت الهجمة الصليبية الشرسة لتُضيف أعباءً أُخرى، حيث ألقت بكاهلها على صلاح الدين، فعمل على تثبيت الهوية الإسلامية للبلاد التي كانت مطمع الغزاة الجدد، فأقام الخوانق والرُّبط والزوايا والتكايا، إضافة إلى المساجد والمدارس ودور الحديث، وكان هدف صلاح الدين من وراء ذلك النهوض بالشعور الديني عند المسلمين، ورفع استعدادات الأمة الإسلامية لمقاومة الأخطار التي تتهددها.

واحتل جماعة من الناس تلك الأماكن، امتهنوا الذكر وقراءة القرآن، وسلكوا السبيل القويم، وكانت نماذج مخيرة للأتقياء والعبَّاد، ولكن تلك الأماكن ما لبثت أن أصبحت ملجأً وملاذًا لكل طالب راحة، حيث يجد فيها ضالته من الطعام واللباس والشراب دون عناء يذكر، وتلا ذلك ازدياد أعداد المنتظمين في سلك الصوفية، لا سيما بعد تضخم عدد الخانقات والرُّبط والزوايا والتكايا، ومبالغة الناس في حبس الأوقاف عليها، وتباري السلاطين والأمراء والأغنياء في تقديم الأموال والهدايا لمرتاديها، فسهلت حياة المتصوفة ونعموا بعيشة مترفة باذخة، قادت إلى تفشي البدع فيما بعد.

وإزاء ذلك فقد كثر ادّعاء التصوف، بقصد التعيش، فأمّ العديدون الخانقات، ولبسوا الصوف، وحلقوا الرؤوس، ولكنهم لم يتخلقوا بأخلاق الزهاد أو الصوفية، وغدا الصوفي على الأغلب، رجلًا أكولًا، كثير الفضول، يُضرب بتطفُّله المثل.

وعرَّف كثير من الفقهاء جماعة المتصوفة: بأنهم رجال يظهرون الإسلام، ويبطنون فاسد العقيدة (1).

ومما زاد في تكالب جماعات من الناس على الانضواء في سلك الصوفية، وقوع الهجمة التترية المغولية المدمرة على العالم الإسلامي، وما أورثته في النفوس من شعور بالمرارة وخيبة الأمل، وما اتصف به ذلك العصر من شظف في العيش نتيجة القحط والجدب، فاستدامت المجاعات، وانتشرت الأمراض السارية؛ كالطاعون والجُدري وغير ذلك من الأمراض الفتاكة، ووجد هؤلاء في الخانقات بسطةً في العيش، وسَعة في الحال، بل وترفًا في المأكل والمشرب والملبس (2).

وسدر الصوفية في مفاسدهم، حتى إن بعضهم أفتى بحرام الكسب إلا عند الضرورة، لأن الكسب في عرفهم ينفي التوكل على الله أو ينقص منه، وقد أمرهم الله بالتوكل، ورزقهم في السماء وما يوعدون (3).

لقد عمَّ الفساد حياة الصوفية في عادتهم وأخلاقهم ورسومهم وسننهم وملابسهم وأزيائهم ومشاربهم ومآكلهم، واشتهر المفتقرون من المتصوفة بالجشع في الأكل والشرب، والولع بالرقص والتهافت على السماع والغناء.

لقد شكل هؤلاء الصوفية عبئًا ثقيلًا على اقتصاد المجتمع، وأرهِق الأهالي والفلاحون بتوفير احتياجاتهم طمعًا في إرضائهم ونيل دعواتهم، وانعكست الأهداف وغرق الصوفية في المفاسد والإفساد، وسيروا الحياة الاجتماعية وفق ما يرغبون، وطغى واستفحل تأثيرهم، فقام جماعة من العلماء، وأخذوا على عاتقهم تنبيه المجتمع لحالة التردي التي وصلت إليها حركة الصوفية، وذلك من خلال إيقاظ الأحاسيس بأصول الصوفية الحقة، فأعاد هذا النفر من العلماء، البحث في التصوف، وحقيقة الصوفي من حيث المبادئ والأهداف، والقصد من ذلك إثارة المسألة عند الناس، ليقارنوا بين حال الصوفية في عصرهم، وما يجب أن يكونوا عليه.

والمنتسبون إلى التصوف ثلاثة أقسام:

قسم اتبعوا ما جاء في الشرع، ووقفوا مع ما قاله علماء السُّنَّة، فهم يستحقون التعظيم ويستوجبون التبجيل والتكريم.

قسم حصل لهم غلوّ في التصوف فابتدعوا طرقًا واخترعوا عقائدَ، ووقفوا مع ألفاظ مزخرفة جمعوها، فيدخلون في جملة الكفار، ويستحقون النار.

قسم غلب عليهم الجهل، ووقفوا مع ما أحدث من رسوم، وتركوا النظر في المعارف والعوارف والعلوم، واحتفلوا بالرقص والسماع والشهوات، وهؤلاء الأخسرون أعمالًا في الدنيا والآخرة (4).

لقد غلا الصوفية كثيرًا في الرؤيا واليقظة، فجعلوها مصدرًا للتلقي، حتى أنك لترى أكثر الطرق الصوفية تنشأ نتيجة لرؤيا رآها شيخ الطريقة، يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصه بشيء من الدعوات والصلوات أو نحو ذلك، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يخص أحدًا بشيء هو من دين الله، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقد أشهد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في يوم عرفة في السنة العاشرة من الهجرة على البلاغ فقال: «اللهم اشهد» (5)، فلم يبق من الدين شيء يحتاجه الناس إلا بينه، وهذا حديث نبوي كريم شريف يبين لضعاف النفوس ما للصوفية من خطر عظيم، وضلال مبين، عن العرباض بن سارية، يقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد» (6).

ولا يخفى على كل ذي لب وعقل أن من يدعي ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره وينهاه، ويشرع له، فهو كاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك رمي لرسول بالكتمان، وهذا لا يتناسب ومقام النبوة والرسالة، وما يتصف به الأنبياء من الأمانة والصدق والتبليغ، وقد أجمعت الأمة على عدم اعتماد أي فتوى شرعية من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أفتى بها من رآه منامًا، وبه يعلم مدى ما وصل إليه التصوف من الضلالة، وشرعية ما به تقويض أركان الملة المحمدية، بل إن من الصوفية من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وهذا لا يمكن أبدًا، وهو ممتنع عند جماهير أهل العلم من الصوفية وغيرهم.

بل وهناك من زعماء الصوفية من يزعم أنه رفع عنه التكليف، فلا يؤمر بشيء من الأوامر والطاعات، بل ويفعل المحرمات والمنكرات.

فأولئك الصوفية إما أن يكونوا مجانين، والمجنون لا يُعتد بقوله، ومحلهم مستشفى الأمراض العقلية، وإما أن يكونوا مخرفين والمُخَرِّف يُحجر عليه لقصر عقله، وسفه تفكيره، وسوء تدبيره، وبهذا لا يؤخذ بقولهم في سقوط التكاليف عنهم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيهم في منامهم ويقظتهم ويأمرهم، وينهاهم، ومن قال بذلك فقد استخف بعقول الناس، لأنه يصادم شِرْعَةَ الله تعالى، ويخالف ما عليه إجماع المسلمين من انقطاع الوحي بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأن الدين قد اكتمل قبل موته عليه الصلاة والسلام، ومن ادعى غير ذلك فهو كافر لا يُتَّبَع في شيء.

وقد قال بعض الناس أنه تجوهر، وهذا قول قوم داموا على الرياضة مدة، فقالوا لا نبالي بما عملنا بعد ذلك، وإنما الأمر والنهي رسم للعوام، ولو تجوهروا مثلنا لسقط عنهم، وحاصل القيود ترجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد فيها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكاليف؛ لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض، فإن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع فهم خارجون عن التزام شيء من الحق (7).

وقد قال ابن عربي: وهو صوفي خارج من الدين، كفره العلماء، وهذا شيء من كفره:

العبد رب والرب عبد       يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب     أو قلت رب أنى يكلف (8).

فلما صار عنده عين وجود الرب هو عين وجود العبد، صار كل واحد عنده هو عين الآخر، وإذا كان الرب لا تكليف عليه، والرب هو العبد، فالعبد أيضًا لا تكليف عليه.

ومن الصوفية من يسقط عن نفسه بعض التكاليف دون البعض الآخر، فيزعم مثلًا أن الصلاة سقطت عنه، لأنه وصل إلى المقصود الذي من أجله شرعت الصلاة، وبالتالي فهي لا تجب عليه بعد الوصول، وبعضهم يزعم أن الصلاة سقطت عنه وقت المشاهدة، وبعضهم يزعم سقوط الحج عنه، ومنهم من يزعم أنه استغنى بالتوبة والحضور عن سائر العبادات والطاعات، ومنهم من يستحل المحرمات كالفطر في رمضان من غير عذر، ويستحل شرب الخمر، ويزعم أنها لا تحرم إلا على العوام دون الخواص، وذلك لزكاة نفوسهم وصلاح أعمالهم.

هذا، وقد أجمعت الأمة على كفر من جحد واجبًا من الواجبات الظاهرة المتواترة، أو جحد تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح (9).

قال ابن القيم رحمه الله: وهؤلاء أعظم كفرًا وإلحادًا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة والتي هي أماني النفس، وخداع الشيطان؛ وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوي مذهبه بقوله:

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا (10).

وبعد فأين هؤلاء من قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي: الموت، وأين هم من قوله عن صفوة عباده: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

بل أين هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوالهم في التعبد، كما قال سبحانه عنهم وعن نبيهم وخليلهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [محمد: 29].

بل إن شيوخ الصوفية أنفسهم صرحوا بوجوب اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.

يقول ابن القيم رحمه الله: وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام، وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة، أي: ما دام قادرًا عليه (11).

ومن ذلك قول الجنيد بن محمد: عِلْمُنَا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال إبراهيم بن محمد النصر أبادي: أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة، والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه المتأخرون، والمقام على سلك الأولين.

وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لا بد للعبد منه فقال: ملازمة العبودية والسنة ودوام المراقبة، وسئل عن التصوف فقال: هو الصبر تحت الأمر والنهى.

وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله، وقال عبد الله الخياط: الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على ما يقع في قلوبهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم من القلب إلى الدين والشريعة (12).

وللأسف الشديد أن الصوفية قد قامت على ثلاثة عناصر رئيسية:

الأول: سلب المنتسب إلى الطريقة لإرادته وتسليمها إلى الشيخ الذي ينتسب إليه، بحيث لا يتصور أن يخالفه البتة، وهو المعبر عنه بقولهم: أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغسال.

ثانيًا: انقطاع المريد عن الدنيا انقطاعًا تامًا، فلا يشارك في الحياة العامة ولا يتجاوب شعوريًا مع مشاكل المسلمين وآمالهم.

ثالثًا: يعيش المريد في جو من الحياة الرمزية المليئة بالألغاز، والتي يدعي أنه لا يعلم فك معانيها إلا الشيخ المتبوع، فهو أعمى أصم لا عقل له، يتقبل كل شيء بلا مناقشة ولا اعتراض (13).

أقسام التصوف:

ينقسم التصوف إلى أقسام يجب معرفتها وهي:

أولًا: التصوف الغالي:

وهو الذي غلا أصحابه حتى خرجوا من الإسلام بالكلية، أو لم يدخلوه أصلًا، وإنما تلبسوا به ليهدموه أو ليسلموا من عقوبة أهله، وهو اتجاهان رئيسيان:

1- التصوف الفلسفي:

وهو المبني على فلسفة اليونان والهند، وأصحابه أقرب شيء إلى الباطنية، وهم يهتمون بالخوض في المباحث الإلهية والكونية على الطرق الفلسفية، ولهذا نجد كتاباتهم تفيض بالمصطلحات الفلسفية مثل: العقل الكلي، النفس الكلية، الأعراض، الجواهر، الصورة والهيولي.

والصورة هي المظهر، والهيولي: المادة الخام، مثل الكرسي هو صورة، وهيولاه الخشب.

وهو يؤمنون بالاتحاد أي: اتحاد الخالق بالمخلوق، ووحدة الوجود، ومن أشهر المنتسبين له: ابن عربي، وابن الفارض، وقد قتلا ردة والعياذ بالله.

2- التصوف الرهباني:

نسبة إلى الرهبانية، ويطلق عليه التصوف البوذي، وهو المبني على الرياضات والخلوات والمجاهدات والخيالات، وأصحابه أقرب شيء إلى البوذية، وهو يهتمون بالخوض في الوساوس والخطرات وقمع النفس، ومستخدمين السياحة في الأرض، والانقطاع في الفلوات، ويكثرون من الأشعار والقصص والذكر بطريق الرقص والتمايل، كما يهتمون بالخوارق والكرامات، ويستخدمون السحر والجن لذلك.

فترى أحدهم يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يطعن نفسه بحديدة ولا تؤثر فيه، أو يصبر عن الطعام والشراب عدة أيام، أو غير من الكذب والدجل، وكل ذلك بمساعدة الجن والسحر التخيلي على الناس، كما قال تعالى: {قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوْا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].

وهذا من أوضح الأدلة على فساد التصوف وانحرافه عن الإسلام، وإلا فإن أعلى أولياء الله هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحصل لهم مثل هذه الأمور، بل إن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكرامة الحقيقية، ويؤمنون بأن أعظم كرامة للمؤمن هي تمسكه بالكتاب والسنة، وتجنبه للفواحش والبدع، وجهاده ودعوته إلى الله تعالى، والصبر على الأذى في ذلك.

أما هذه الخوارق فإن سحرة الفراعنة واليهود والهنود، يفعلون مثلها وأعظم منها، فما لم يكن التمسك بالسنة والاجتهاد في التقوى هو مقياس الولاية، فلا فرق بين الولي والساحر والمشعوذ والكذاب، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62- 63].

وليعلم المسلم أن أولياء الله من الأنبياء وغيرهم أيدهم بكرامات، والكرامة: أمر خارق للعادة، يظهره الله سبحانه وتعالى على يد متبعي الرسول صلى الله عليه وسلم إما تكريمًا لهم، وإما نصرة للحق.

وهناك فرق بين معجزة النبي، وكرامة الولي، وشعوذة المشعوذ، وإهانة الكاذب:

فمعجزة النبي أمر خارق للعادة، يظهره الله تعالى على يد نبي من الأنبياء تأييدًا له، وتصديقًا له، مثل: انفلاق القمر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانفلاق البحر لموسى عليه السلام، وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، كل تلك المعجزات بأمر من الله تعالى.

وأما كرامات الأولياء فهي أمور خارقة للعادة، ولكنها لا تكون للأنبياء، بل لمتبعي الأنبياء الذين هم على دربهم وأمرهم ودينهم، كما حصل من تكثير الطعام لأبي بكر، وهز جذع النخلة لمريم رضي الله عنه.

وأما مشعوذة المشعوذ، فهو ما يحصل لهم من استخدامهم للجن والسحر فتنة للناس.

وأما تكذيب الكاذب فكما حصل لمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فجاءه قوم أهل حرث ممن اتبعوه يشكون غلبه غور الماء إلا قليلًا، فسألوه أن يتفل فيها ليكثر الماء، فجاء إلى البئر وفيها قليل من الماء فتفل فيها فلم يبق فيها شيء من الماء.

ومن عقائدهم الباطلة: الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، ومنها التفويض وهي: أن الله تعالى يفوض تدبير العالم إلى الأقطاب والأولياء -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا-.

إن في قولهم هذا اتهام لله بالعجز، والله منفي عنه العجز، بل هو القادر والقاهر فوق عباده، وهو سبحانه القائل عن ذاته الإلهية، وقدرته المطلقة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].

ويقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]، ومعنى يعي أي: يعجز.

الله الذي لم يوكل الملائكة العظام، في تدبير شؤون الكون، الذين وصفهم بالعبودية والطاعة المطلقة، والذين لا يمكن أن تصدر منهم معصية قط، لم يوكل تدبير شؤون الكون لهم، ثم يأتي إنسان مخلوق ضعيف لا يملك من أمره شيء، لو مرض لذهب لبقي الأيام والليالي لا ينام، يأكل ويشرب ويقضي حاجته من بول وغائط وغير ذلك مما يعتري الإنسان من نقص وقصور، ثم يدعي أن الله أوكل إليه تدبير شؤون العالم، وهو لا يستطيع أن يدير شؤونه وشؤون بيته وأهله، وإني أدعو كل عاقل من الصوفية أن يتأمل عظم خلق الملائكة، مقارنة مع هزالة هيكل الإنسان، وضعفه وخوره وجهله، ومع ذلك لم يوكل الله إلى الملائكة الكرام تدبير شؤون شيء من الكون.

فهل يأتي صوفي ويدعي أن الله أوكل إليه تدبير شؤون العالم، ما هذه السخافة، وما هذا الكذب على الله؟ فليأتونا بنص شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ينص على ادعائهم عن كانوا صادقين؟

ثانيًا: التصوف البدعي:

ينتمي إليه بعض المسلمين قديمًا وحديثًا، عن حسن نية وقصد، ظنًا منهم أنه مجرد اصطلاح يطلق على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المراقبة والمحاسبة، والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، لكن وللأسف يوجد عندهم بدع صغيرة وكبيرة، وأكثرهم تفسد عقائدهم في الصفات والقدر، ونظرتهم للدنيا وغيرها، مما كان له أثر واضح في انحطاط الأمة اعتقادًا وعلمًا وحضارة.

ومن كان صحيح العقيدة، سليم المنهج، صادق العبادة من المسلمين، فلا يجوز له أن ينتسب إلى التصوف ولا إلى غيره، وإنما يكون الانتساب إلى الإسلام والسنة وهذا هو منهج محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عقائد فاسدة:

يعتقد الصوفية أن للصوفي طرق يسير عليها العابد ليصل إلى معبوده وهي كالتالي:

1- المريد:

وهو المبتدئ الذي يتلقى عن الشيخ، ويجب أن يكون كالميت بين يدي الغاسل، فلا يجوز له الاعتراض أو المناقشة حتى لا يكشف زيغ وكذب شيخه، ويعرف أنه كاذب في عبادته وخلواته، وغنما هي الجن والسحر الذي يستخدمه للتخييل على الناس، فيؤمر المريد أن يلتزم بما يجلبه الشيخ من أذكار وأوراد وصلوات، ويتأسى به ويذيع كراماته -كذباته- ويدافع عنه، وهذا هو السفه والغفلة المهلكة، فتنه أيها المريد وعُد إلى الله شديد الوعيد.

2- السالك:

وهو الذي يقوم بالرياضات والمجاهدات، ليصل إلى الغاية، وهي رفع التكاليف، وهذا هو الذي يسعى له كبار الصوفية، أن يتخلصوا من أوامر الدين، ويرتكبوا المحرمات، في ظل استسلام الناس لهم، والإيمان بترهاتهم وكذباتهم، وإلا فمن ذا الذي حصل له من الله إذن وشهادة بترك الطاعة والعبادة، ويسمح له بارتكاب الحرام والموبقات؟

3- الواصل:

وهو الذي وصل الغاية، والغاية: هي الفناء في الإله المعبود، أو الاتحاد به، ولهذا يؤمن غلاة الصوفية بسقوط الأوامر والنواهي والتكاليف عن الواصلين، لأن الغرض من الصلاة والزكاة والصوم -كما يزعمون- هو الوصول إلى الله، فمن وصل فلا حاجة له بها.

أهم مخاطر الفكر الصوفي:

1- صرف الناس عن القرآن والحديث:

عمد المتصوفة قديمًا وحديثًا إلى صرف الناس عن القرآن والحديث بأسباب شتى وطرق ملتوية جدًا ومن هذه الطرق ما يلي:

أ- الزعم أن التدبر في القرآن يصرف النظر عن الله، فقد جعلوا الفناء في الله في زعمهم هو غاية الصوفي، وزعموا أيضًا أن تدبر القرآن يصرف عن هذه الغاية، وفاتهم أن تدبر القرآن هو ذكر الله عز وجل؛ لأن القرآن إما مدح الله بأسمائه وصفاته، أو ذكر لما فعله سبحانه بأوليائه وبأعدائه، وكل ذلك مدح له وعلم بصفاته أو تدبر لحكمه وشرعه، وفي هذا التدبر تظهر حكمته ورحمته بخلقه عز وجل ولكن لأن الصوفية يريد كل منهم أن يكون إلهًا ويتصف -في زعمه بصفات الله- فإنهم كرهوا تدبر القرآن لذلك.

وها هو الشعراني يقول: يقول الله عز وجل في بعض الهواتف الإلهية: يا عبادي الليل لي لا للقرآن يتلى، إن لك في النهار سبحًا طويلًا فاجعل الليل كله لي، وما طلبتك إذا تلوت القرآن بالليل لتقف على معانيه، فإن معانيه تفرقك عن المشاهدة، فآية تذهب بك إلى جنتي وما أعددت فيها لأوليائي، فأين أنا إذا كنت في جنتك مع الحور متكئًا على فرش بطائنها من إستبرق، وآية تذهب بك إلى جهنم فتعاين ما فيها من أنواع العذاب، فأين أنا إذا كنت مشغولًا بما فيها، وآية تذهب بك إلى قصة آدم أو نوح أو هود أو صالح أو موسى أو عيسى عليهم الصلاة والسلام وهكذا، وما أمرتك بالتدبر إلا لتجتمع بقلبك علي، وأما استنباط الأحكام فلها وقت آخر وثم مقام رفيع وأرفع (14).

وهذه زندقة عظيمة، إذ أين قال الله هذا الذي يفتريه الشعراني، ثم كيف يقول الله ما يخالف القرآن الحق المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل بالقرآن، كلما مر على آية فيها ذكر للجنة وقف عندها ودعا الله عز وجل، وكلما مر على آية أخرى فيها تهديد ووعيد وقف عندها ودعا الله سبحانه واستعاذ من النار، وهؤلاء زعموا أن قراءة القرآن بالليل والقيام به مشغلة وانصراف عن الله.

والمهم هنا أن هؤلاء الكذابين صرفوا الناس عن القرآن بزعمهم أنه مشغلة عن عبادة الله فأي تلبيس أكبر من هذا.

ب- الزعم بأن أجر أذكارهم المبتدعة أفضل من القرآن:

كما قال أحمد التيجاني وغيره إن صلاة الفاتح تعدل كل ذكر تلي في الأرض ستة آلاف مرة، وهذا في المحصلة يؤدي بالناس إلى هجر القرآن إلى الأذكار المبتدعة.

ج- زعمهم أن من قرأ القرآن وفسره عاقبه الله؛ لأن للقرآن أسرارًا ورموزًا، وظهرًا وبطنًا ولا يفهمها إلا الشيوخ الكبار، ولو تعرض شيء من تفسيره أو فهمه عاقبه الله عز وجل.

د- جعل القرآن والحديث هو الشريعة والعلم الظاهر، وأما العلوم اللدنية الأخرى في زعمهم فهي أكمل وأعلى من القرآن، كما قال أبو يزيد البسطامي خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله، وقال ابن سبعين: لقد حجر ابن آمنة واسعًا إذ قال لا نبي بعدي، وهذا القول من هذا الزنديق في غاية الشناعة والباطل وإتهام الرسول!! فلعنة الله على من قال ذلك أو صدقه.. وتابعه في هذا القول.

وباختصار فللمتصوفة أعنى الزنادقة منهم أساليب عظيمة في الكيد والمكر بالإسلام ومن أعظم ذلك صرف الناس عن القرآن بهذه الأكاذيب والافتراءات.

2- فتح باب التأويل الباطني لنصوص القرآن والحديث:

ومن أعظم مخاطر الفكر الصوفي كذلك فتحهم باب للتفسير الباطني لنصوص القرآن والسنة، والحق أنه لا يكاد يوجد آية أو حديث إلا وللمتصوفة الزنادقة تأويلات باطنية خبيثة لها.

ويقول ابن الجوزي في وصف ذلك: وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين، سماها حقائق التفسير، قال في فاتحة الكتاب عنهم أنهم قالوا: إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا، فإن تأدبت بذلك وإلا حرمت لطائف ما بعد.

قال المصنف رحمه الله: وهذا قبيح لأنه لا يختلف المفسرون أن الفاتحة ليست من أول ما نزل، وقال في قول الإنسان (آمين) أي قاصدون نحوك.

قال المصنف رحمه الله: وهذ قبيح لأنه ليس من أم لأنه لو كان كذلك لكانت الميم مشددة.

3- إتلاف العقيدة الإسلامية:

أول ما يستهدف الفكر الصوفي إتلافه وتبديله هو العقيدة الإسلامية النقية، عقيدة الكتاب والسنة، وذلك أن: الفكر الصوفي خليط كامل لكل الفلسفات والخزعبلات والخرافات التي انتشرت في العالم قديمًا وحديثًا.

فليس هناك من كفر وزندقة وإلحاد إلا دخل إلى الفكر الصوفي وتلبس بالعقيدة الصوفية؛ فمن القول بوحدة الوجود وأن كل موجود هو الله، إلى القول بحلول ذات الله أو صفاته في المخلوقين، إلى القول بالعصمة، إلى الزعم بالتلقي من الغيب، إلى القول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو قبة العالم وهو المستوي على عرش الله، إلى القول بأن الأولياء يديرون العالم ويتحكمون في الكون، وأستطيع أن أقول أنه لا توجد عقيدة شركية في الأرض إلا وقد نقلت إلى الفكر الصوفي، وأُلبست الآيات والأحاديث.

4- الدعوة إلى الفسق والفجور والإباحية:

استحل بعض الصوفية كل المحرمات والكبائر، وتظاهروا بالفسق والفجور والمخازي، فليلة الماشوش تتم علانية عند متصوفة شيراز(15).

وقد أشار ابن الجوزي إلى أن صوفية عصره قد سدُّوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب، لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح، واتفقت لهم صحبة الأحداث على وجه الإرادة وقصد الزهادة (16).

ويقرر ابن الجوزي بأن آفة الصوفية في عصره في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد (17)، ولم يقف البلاء عند هذا الحد، بل تعداه لإضفاء مشروعية ذلك للمتصوفة، فقد صنف أبو الفضل، محمد بن طاهر، المعروف بابن القيسراني الشيباني ت 507هـ = 1113م رسالة في إباحة السماع والنظر إلى المرد (18)، واشتهر من المتصوفة بالتهتك والاستباحة خضر الكردي شيخ الملك الظاهر بيبرس، والشيخ أبي الحسن الحريري، وسليمان بن المولّه المجذوب.

وكان علي الحريري أكثرَ المتصوفة تهتكًا في معاشرة الأحداث "فكان من وقع نظره عليه من الأحداث وأولاد الجند والأمراء وغيرهم يحسن ظنه فيه، ويميل إليه، ولا يعود ينتفع به أهله، بل يلازمه ويقيم عنده، اعتقادًا فيه وميلًا إليه (19).

ومع أن ظاهرة مصاحبة المرد والأحداث والمخنثين كانت واضحة في العصور العباسية المتأخرة، فقد اشتدت في عصر المماليك، وذلك إثر قدوم طائفة من الأويراتية التترية، المشهورين بالجمال سنة 695هـ = 1295م وانتشارهم في مصر والشام، ومن ثم دخولهم في خدمة الأمراء المماليك، وتنافس أمراء المماليك في اقتناء صبيانهم وبناتهم، ومن تبقى من هؤلاء الأويراتية بعد ذلك انخرط في الجيش، وتفرقوا في الممالك لتنتشر معهم المفاسد، ووجدت جماعات من الصوفية فيهم ضالتهم، فبالغوا في إضفاء مشروعية صوفية على فعلتهم النكراء، وقد أورد لنا الشعراني -أحد كبار متصوفة القرن العاشر الهجري- خبر الصالح محمد بن عراقي، الذي كان لا يُمَكِّن ابنه عليًا من الخروج إلى السوق، حين كان أمرد، إلاّ أن يُبَرقَع خوفًا عليه من السوء والفتنة (20).

ولم يقف الأمر على المرد والأحداث بل تعداه إلى سواه من البهائم والحيوانات، فقد كان الشيخ الصوفي علي وحيش كثير الاعتداء على البهائم والأتن (21).

وهكذا تتيقن أن هذه الطائفة لم تكن في كل عصورها إلا مجموعات من الزنادقة الملحدين المنحلين، تظاهروا بظاهر الشريعة النظيف وأخفوا عن الأعين كفرهم وفسقهم وزندقتهم، ولذلك جزم ابن عقيل كما نقل عنه ابن الجوزي أنهم زنادقة ملحدون منحلون حيث يقول: فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفرَّع الخالين من الإثبات.

وإنما هم زنادقة جمعوا بين مدارع العمال مرقعات وصوف، وبين أعمال الخلعاء الملحدة أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع، ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة فجاؤوا بوضع أهل الخلاعة (22).

الصوفية واستحلال الحشيش:

وهذا ابن العقيل رحمه الله يصف زندقتهم وكفرهم وكيف أنه فرقوا في زعمهم بين الشريعة والحقيقة واستحلوا الحشيش المخدر بل هم أول من اكتشفه وروجه في أوساط المسلمين، واستحلوا الغناء والاختلاط واستحلوا التظاهر بالكفر والزندقة زاعمين أنها أحوال وشطح، وأنه يجب عدم الإنكار عليهم لأنهم مجاذيب أو مشاهدين لحضرة الرب -في زعمهم-.

يقول ابن العقيل: فأول ما وضعوا أسماء وقالوا حقيقة وشريعة، وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع، وإن سمعوا أحدًا يروي حديثًا قالوا مساكين أخذوا حديثهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فمن قال حدثني أبى عن جدي قلت: حدثني قلبي عن ربي، فهلكوا وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار وأنفقت عليهم لأجلها الأموال؛ لأن الفقهاء كالأطباء والنفقة في ثمن الدواء صعبة والنفقة على هؤلاء كالنفقة على المغنيات، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة لأن الفقهاء يحظرونهم بفتاويهم عن ضلالهم وفسقهم، والحق يثقل كما تثقل الزكاة، وما أخف البذل على المغنيات وإعطاء الشعراء على المدائح، وكذلك بغضهم لأصحاب الحديث وقد أبدلوا إزالة العقل بالخمر "بشيء سموه الحشيش والمعجون والغناء المحرم" سموه السماع والوجد والتعرض بالوجد المزيل للعقل كفى الله الشريعة شر هذه الطائفة الجامعة بين دهمثة (الليونة والسهولة يعني يلبسون فاخر الثياب ولينها) في اللبس وطيبة في العيش وخداع بألفاظ معسولة ليس تحتها سوى إهمال التكاليف وهجران الشرع، ولذلك خفوا على القلوب، ولا دلالة على أنهم أرباب باطل أوضح من محبة طباع الدنيا لهم كمحبتهم أرباب اللهو والمغنيات.

قال: ونصيحتي إلى إخواني أن لا يقرع أفكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين؛ بل الشغل بالمعاش أولى من بطالة الصوفية، والوقوف على الظواهر أحسن من توغل المنتحلة، وقد خبرت طريقة الفريقين، فغاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح (23).

الخطوط العريضة للعقيدة الصوفية:

في الله:

يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وهذه هي العقيدة الأخيرة التي انتشرت منذ القرن الثالث وإلى يومنا هذا، أطبق عليها أخيرًا كل رجال التصوف وأعلام هذه العقيدة هم ابن عربي وابن سبعين، والتلمساني وعبد الكريم الجيلي، وعبد الغني النابلسي وعامة رجال الطرق الصوفية المحدثين.

في الرسول صلى الله عليه وسلم:

يعتقد الصوفية في الرسول أيضًا عقائد شتى؛ فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه جاهلًا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله، ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون، وهو الله المستوي على العرش، وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره، وأنه أول موجود، وهو المستوي على عرش الله، وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده.

في الأولياء:

يعتقد الصوفية في الأولياء أيضًا عقائد شتى؛ فمنهم من يفضل الولي على النبي، وعامتهم يجعل الولي مساويًا لله في كل صفاته؛ فهو يخلق ويرزق ويحي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات للولاية، فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب والأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر والغوث، ومنهم النجباء وهم المتحكمون في المدن كل نجيب في مدينة!! وهكذا فشبكة الأولياء العالمية هذه تتحكم في الخلق ولهم ديوان يجتمعون في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار عالم الأولياء عالم خرافي كامل.

في الجنة والنار:

وأما الجنة فإن الصوفية جميعًا يعتقدون أن طلبها منقصة عظيمة، وأنه لا يجوز للولي أن يسعى إليها ولا أن يطلبها، ومن طلبها فهو ناقص، وإنما الطلب عندهم والرغبة في الفناء المزعوم في الله، والإطلاع على الغيب والتصرف في الكون.. هذه جنة الصوفي المزعومة.

وأما النار فإن الصوفية يعتقدون أيضًا أن الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل؛ لأن الخوف منها طبع العبيد وليس الأحرار، ومنهم من تبجح أنه لو بصق على النار لأطفأها، ومن يعتقد بوحدة الوجود منهم يعتقد أن النار بالنسبة لمن يدخلها تكون عذوبة ونعيمًا لا يقل عن نعيم الجنة بل يزيد، وهذا هو مذهب ابن عربي وعقيدته.

 إبليس وفرعون:

وأما إبليس فيعتقد عامة الصوفية أنه أكمل العباد وأفضل الخلق توحيدًا؛ لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم، وأن الله قد غفر له ذنوبه وأدخله الجنة، وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحدين لأنه قال: أنا ربكم الأعلى، فعرف الحقيقة لأن كل موجود هو الله، ثم هو قد آمن في زعمهم ودخل الجنة.

الشريعة الصوفية:

العبادات:

يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فلهم عبادات مخصوصة.

وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم؛ كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحفلات.

وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع؛ فإن العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، والفناء فيه، واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله، حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون، ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت.

ولا يهم في التصوف أن يخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية، فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر ذلك لا يهم؛ لأن للولي شريعته التي تلقاها من الله مباشرة، فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لأن لكل واحد شريعته، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم للعوام وشريعة الشيخ الصوفي للخواص.

الحلال والحرام:

وكذلك الشأن في الحلال والحرام؛ فأهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندها؛ لأن عين واحدة.. ولذلك كان منهم الزنادقة واللوطية، ومن يأتون الحمير جهارًا نهارًا، ومنهم من اعتقد أن الله قد أسقط عنه التكاليف وأحل له كل ما حرم على غيره.

الحكم والسلطان والسياسة:

وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين؛ لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.

التربية:

ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس، ويلغونها وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم لشأن التصوف ورجاله، ثم بالتلبيس على الشخص، ثم بالرزق لعلوم التصوف شيئًا فشيئًا، ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج (24).

-----------

(1) الأدب في العصر المملوكي (1/ 202).

(2) الواعظ (2/ 416).

(3) الكسب (ص: 37).

(4) الرسالة (ص: 17).

(5) أخرجه البخاري (1742).

(6) أخرجه ابن ماجة (43).

(7) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 471).

(8) الفتوحات المكية (1/ 2).

(9) مجموع الفتاوى (11/ 405).

(10) مدارج السالكين (3/ 115).

(11) مدارج السالكين (3/ 116).

(12) المرجع السابق.

(13) انظر: الصوفية بين الحق والخلق (ص: 143، 232).

(14) الكبريت الأحمر على هامش اليواقيت والجواهر (ص: 21).

(15) مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، مجلة المشرق (42/ 297).

(16) تلبيس إبليس (ص: 265).

(17) تلبيس إبليس (ص: 276).

(18) الطبقات الكبرى (2/ 129).

(19) الحوادث الجامعة (ص: 325).

(20) لواقح الأنوار (2/ 257)، التصوف زكي مبارك (1/ 257).

(21) الطبقات الكبرى (2/ 129- 130).

(22) تلبيس إبليس (ص: 374).

(23) تلبيس إبليس (ص: 374- 375).

(24) فضائح الصوفية (ص: 48).