logo

التربية الأخلاقية في الإسلام


بتاريخ : الخميس ، 6 ربيع الآخر ، 1440 الموافق 13 ديسمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
التربية الأخلاقية في الإسلام

الأخلاق جزء من هوية أي أمة، فلا يمكن أن تنهض أمة من الأمم دون أن تهتم بالتربية الخلقية للنشء؛ إذ إن معيار البقاء والنهضة في أخلاقها، كما قال الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت       فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية، وغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتى تصبح أقرب إلى الملائكية، وتخليص الإنسان من سيطرة سلطان الأهواء والشهوات، لتكون الفضائل؛ كالصدق والأمانة، والتواضع والإيثار، والاستقامة ونحوها؛ مثلًا عليا تقود مسيرته في الحياة، وتوجه سلوكه بحيث لا يخرج عن إطار التربية الأخلاقية(1).

ولقد عُنِيَ الإسلام بالتربية الخلقية عناية شديدة، وآية ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»(2)، وقوله: «إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقًا»(3)، قيل للحسن البصري: «ما حسن الخلق؟»، قال: «بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه»(4).

فإنه ما من خلق فاضل إلا وقد حث الإسلام عليه، وما من خلة سوء إلا وقد حذر منها، ولا غرابة في ذلك؛ فالإسلام دين شامل لنواحي الحياة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].

وتهدف التربية الخلقية في الإسلام إلى مرام سامية، وذلك من خلال تطبيقها وممارستها في واقع الحياة، ومن هذه الأهداف:

1- إرضاء الله تعالى والتزام أمره.

2- احترام الإنسان لذاته وشخصيته.

3- تهذيب الغرائز، وتنمية العواطف الشريفة الحسنة.

4- إيجاد الإرادة الصالحة القوية.

5- اكتساب العادات النافعة الطيبة.

6- انتزاع روح الشر عند الإنسان، واستبدالها بروح الخير والفضيلة.

وتحتاج التربية الخلقية إلى قواعد تنظم تلك الأخلاق، بحيث يمتاز الحسن منها من السيئ.

ولا شك أن الإسلام قد أرسى دعائم هذه الضوابط لأتباعه، أما في المجتمعات التي تنتحل الملل والأهواء فالإجراء التنظيمي تخطه يد البشر، وذلك يحتمل الصواب والخطأ، إضافة إلى قصور النظرة البشرية ومحدوديتها.

وقد حثّ الإسلام أبناءه على كريم الأخلاق، وجميل الشمائل؛ طلبًا لرضاء الرب العلي، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله، وحسن الخلق»(5).

ومن المقومات المطلوبة للتربية الخلقية وجود القدوة المثلى، وهذه القدوة في التربية الإسلامية تتمثل في شخصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نقل لنا شُرَّاح السنن كل ما دق وجلّ من أخلاقه، بحيث تظل الأخلاق الأنموذج باقية بين أكناف المسلمين.

ولا بد للأخلاق أن تكون متناسقة مع الفطرة، وهذا ما أتى به الإسلام؛ لذا هو دين الفطرة، أما الآن فكم من ملامح للأخلاق تسود العالم وهي مخالفة للفطرة البشرية، يقول (لورانس جولد) متهكمًا من حجم الفساد الأخلاقي في أمريكا: «أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا يتمثل في القنابل النووية، أو الصواريخ الموجهة آليًا، ولا أعتقد أن نهاية حضارتنا ستكون بهذه الطريقة، إن الحضارة الأمريكية ستزول وتنهار عندما نصبح غير مبالين بما يجري في مجتمعنا، وعندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق في قلوب المواطنين»(6).

أما الإسلام فقد سبق هؤلاء جميعًا، وخط لأشياعه المنهاج القويم الذي يُتَمِّم لهم البناء الأخلاقي، ويتمثل هذا فيما يلي:

1- الترغيب فيها والثناء على أهلها؛ لقوله: «إن المؤمن لـيُدرك بحُسن خـلُقه درجة الصائم القائم»(7).

2- الترهيب من سوء الأخلاق وذم أهلها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»(8).

3- كون نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم أنموذجًا للخلق البشري الكامل، لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

4- التوجيهات الأخلاقية الشاملة للفرد والمجتمع.

5- جاء الإسلام بالتوجيه النبوي الكريم لاختيار الأبوين، وذلك أن يكون الأب ذا دين وخلق، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه»(9)، وكذلك الأم تكون ذات دين: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»(10).

6- إن تحقيق مكارم الأخلاق من أهداف بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: «إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق»(11).

نقول هذا وقد رأينا الكثير من أبناء أمتنا سليط اللسان، قاسي الجَنَان، جَهْوَرِي الصوت.

وأصبح الحياء وحسن الخلق كالطيف العارض بين أبناء الأمة، مع أن الخلوق مَنْ إذا مدحته خجل، وإذا هجوته سكت، كما ذكر المنفلوطي، وإذا كانت الأمة على مشارف مرحلة خطيرة توشك أن تزلزل أركانها، فلا بد لأصحاب القلم وسَدَنَة العلم أن يبثوا صالح الأخلاق بين الناس بالقدوة والعمل قبل التنظير الذي أصبح بمعزل عن التطبيق، حتى غسل الدهماء أيديهم من العلماء، وأعطوا لهم ظهورهم.

هذا بعد أن كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى، كما ذكر فولتير، أرقى كثيرًا من أخلاق أمم الأرض قاطبةً(12).

أهمية التربية الأخلاقية:

التربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتُ الشعوب، ونهضات الأمم؛ بل هي الأساس المتين الذي تبنى عليه عظمة الأمم وارتقاؤها؛ فما ارتقت أمة في العالم القديم أو الحديث إلا وكان سببُ ذلك سمو أخلاقِ أفرادها، وقناعتهم، واقتصادهم، وحبهم الناس محبتهم أنفسَهم، وإخلاصَهم في العمل لوطنهم، وانتشار روح النشاط والإقدام بينهم، وبعدهم من الفخر والرياء، والدسائس والفتن، ونفورهم من الانقسام والمخاصمة.

وما انحطت أمة، ولا أفل نجم مجدها، ولا زال سلطانها إلا بزوال تلك الأخلاق الفاضلة من نفوس أبنائها، وانغماسهم في الشر والفساد.

ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن التربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطوات الشعوب ونهضات الأمم.

وانظر إلى الدول العربية بعد ظهور الإسلام، الذي أدى إلى انتشار الأخلاق الفاضلة ببلاد المشرق والأندلس، تجد أنها قد بلغت أوج ما تصبو إليه نفوس الشعوب من تقدم وازدهار، حتى أصبحت جنة الله في أرضه، وزينه الحياة الدنيا، وانتشرت فيها العلوم، وأصبحت مقصدًا لطلاب العلم والمعرفة، وهكذا امتدت فترة الزهو فيها حقبة، حتى دب دبيب الفساد الأخلاقي في نفوس أهلها، وسقط مترفوها إلى الحضيض، فحقت كلمة المولى جل جلاله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].

حقًا إن أمراض النفوس لأشد فتكًا بالشعوب، وأسرع إبادة بالأمم، فلا بد من أخلاق كريمة ترافق رقيها حتى تحيا بها الأمة وتسمو إلى القمم.

فالعلم وحده لا يرتقي بالأمم ما لم تصاحبه أخلاق فاضلة وقيم نبيلة، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم»(13).

ومن ذلك نستخلص أن العلم لا يغني عن الأخلاق، فلا بد من اقترانهما معًا حتى تصل الأمة إلى ما تصبو إليه من طموحات(14).

إن هدف الأخلاق تحقيق السعادة في الحياة الفردية والجماعية، ذلك أن الحياة الأخلاقية هي الحياة الخيرة، البعيدة عن الشرور بجميع أنواعها وصورها، فإذا انتشرت الأخلاق انتشر الخير والأمن والأمان الفردي والجماعي، فتنتشر الثقة المتبادلة والألفة والمحبة بين الناس، واذا غابت انتشر الشرور وزادت العداوة والبغضاء، وتناصر الناس من أجل المناصب والمادة والشهوات، فلا بد من القيم الأخلاقية الضابطة لهذه النوازع وإلا كثرت الشرور، التي هي سبب التعاسة والشقاء في حياة الأفراد والجماعات، ولهذا قال أحد الأخلاقيين الفرنسيين: «إن الحياة من غير قيم وإن كانت حلوة على الشفاه فإنها مُرة على القلوب والنفوس»(15).

إن تنمية الروح الأخلاقية والسلوك الرشيد تحتاج إلى توجيه وتعليم وصبر، فقد كان رسول الله هاديًا ومعلمًا ومربيًا ومرشدًا، كما قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].

وهكذا، فإن التربية الأخلاقية تتناول جوانب متعددة، وتتطلب مختلف الطرق والأساليب ذات التأثير المفيد، والتي تكفل النهج السوي، وتوجد روح المودة والمحبة، وتؤدي إلى التعاون والالتزام بما أوضحه الإسلام، من الآداب والفضائل التي تحكم علاقات الناس بعضهم مع بعض، إذا رعوها حق رعايتها في تعاملهم وسلوكهم وحياتهم، ولا ريب أن مسئولية الآباء والمربين لكبيرة في توجيه أبنائهم وتلاميذهم إلى الالتزام بالتربية الأخلاقية الإسلامية لتحقيق الأهداف المثلى، مسلحين بالعلم والإيمان والأخلاق والقدرات، ويتخذون من الجد سبيلًا، ومن الاجتهاد طريقًا؛ لصنع مستقبل علمي مشرق بهممهم العالية، وعزائمهم الشابة، والقيام بدورهم المنشود في الحياة، والإسهام الفاعل نحو تحقيق الطموح والتطلعات نحو الأفضل لتحقيق التقدم لهم ولوطنهم، وتحقيق رسالتهم في هذه الحياة، والتفاعل الواعي مع التطورات الحضارية في ميادين العلوم وضروب الثقافة وفنون الآداب، وتوجيهها بما يعود بالخير والتقدم(16).

كيف نرسخ التربية الإسلامية في المجتمع؟

التربية بمعناها الأخلاقي ظلت بعيدة، بصفة عامة، عن المدارس، واقتصر وجودها على المنزل، والمسجد أو الكنيسة، حيث يقدم للنشء بعض النصائح الأخلاقية دون أن تتم المحاسبة الدقيقة على تنفيذها، وهو الأمر الذى جعل أجيالًا من الشباب يكبرون، ولكل منهم سلوكه الخاص النابع من تجربته الخاصة.

ولذلك راح الجميع الآن يشكو من تدهور الأخلاق، الذي أصبحت نتائجه تفجؤنا جميعًا في كل المجالات تقريبًا.

وقد فرق علماء التربية بين نوعين أساسيين منها: التربية غير المقصودة، وهى التي تتوالى فيها الأجيال، ناقلة عاداتها من بعضها إلى بعض، دون أن تقوم بفحصها، واختيار الصالح منها.

والنوع الثاني هو التربية المقصودة التي تقوم بها المجتمعات المتقدمة فتحدد أهدافها، وتضع لها البرامج المؤدية لتحقيق هذه الأهداف، مطورة باستمرار وسائلها الناجحة، ومستبعدة ما قد يظهر لديها من أضرار.

وسائل غرس الأخلاق الإسلامية في المجتمع:

أولًا: بيئة الأسرة:

لا شك أن غرس الأخلاق الإسلامية في نفوس الأطفال يبدأ من الأسرة، ومن سن مبكرة جدًا، ومن المعروف أن الولد سر أبيه، والفتاة سر أمها، وهما يتشربان من الأبوين كل تصرفاتهما بوعي وحتى بغير وعي، كما أنهما يتأثران كثيرًا بغضبهما عليهما، أو رضاهما عنهما، وبهذا الأسلوب يبدأ تكون العادات لدى الأطفال، فإذا ما كانت أخلاق الأبوين صالحة سرى ذلك إلى الأبناء، والعكس تمامًا صحيح، ومن هنا ينبغي على كل مسلم ومسلمة حين يرزقهما الله بأطفال أن يبذلا غاية جهدهما ليكونا نموذجين صالحَيْن لهم.

ويشير إلى هذا المعنى الإمام الماوردي رحمه الله، مؤكدًا أهمية فترة الطفولة في توجيه الولد وتأديبه، فيقول: «فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها، وينشأ عليها، فيسهل عليه قبولها عند الكبر، لاستئناسه بمبادئها في الصغر؛ لأن نشأة الصغير على شيء تجعله متطبعًا به، ومن أُغفِل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيرًا»(17).

في الأسرة المسلمة الصالحة يمكن أن ينشأ الأطفال على المحبة، والمودة، وأدب الحوار، وحرية طرح الأسئلة على الكبار، وتحمل جزء من مسئولية البيت، كأن يذهب الابن لشراء بعض الحاجيات، ومشاركة الفتاه أمها في أعمال المنزل، وبهذا الأسلوب، توضع اللبنات الأولى من الأخلاق الإسلامية، التي تصبح جاهزة للتطوير فيما بعد.

الوسائل المعينة على تربية الأبناء:

الابن قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع يربيه البيت والأسرة، وهو مدين لأبويه في سلوكه الاجتماعي المستقيم، كما أن أبويه مسئولان إلى حد كبير عن انحرافه الخلقي، ولتحقيق ذلك نحتاج إلى:

- القدوة الحسنة: في الأبوين، وفي الرفقة الصالحة، وفي المعلم.

- المراقبة والملاحظة: أي عدم الغفلة، وأن تكون من بُعد دون أن يشعر الولد بهذا.

- التحذير: من المعاصي على مختلف أنواعها التي يمكن أن يقع فيها، ومن الشر وأهله، وأسباب الوقوع فيه، وأساليب أهله في إيقاع غيرهم فيه.

- التلقين: بأن يلقنه مثلًا السور من القرآن، وبعض الأحاديث والأدعية والأذكار.

- التعويد: أن يعوده على العادات والفضائل المحمودة.

- الترغيب والترهيب: بأن يشجعه أحيانًا بالكلمة الطيبة، وبالهدية أحيانًا، وقد يلجأ إلى ترهيبه وإخافته من فعل شيء أو ترك شيء.

- الموعظة: يعظه بأسلوب جيد لين، فيه من الموعظة و الحكمة ما يحميه من الزلل.

- القراءة: تعويده على قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، أو بعض القصص المفيدة ونحو ذلك.

- زرع مراقبة الله في نفسه: حتى يشعر أن عليه رقيبًا في كل أحواله، وبهذا يعمل العمل الجميل ولو لم تره، ويتجنب العمل القبيح ولو لم تره.

- العقوبة: قد يلجأ إليها المربي بعد أن يستنفد التوجيه والإرشاد والوعظ والهجر، وهذا الضرب يراعى فيه التدرج من الأخف إلى الأشد، وألا يعامل الولد دائمًا بالعقوبة، وألا يعاقب من أول زلة، وألا يجعل عقوبات الأخطاء متساويةً مع اختلاف الأخطاء صغرًا وكبرًا.

- تقبل الطفل على ما هو عليه، وذلك من خلال تنمية استبصار الطفل بذاته وقدرته على تقييم نفسه بشكل واقعي، واكتشافه لإمكاناته واستعداداته وقبولها.

- إيجاد طريقة مناسبة لنقل أحاسيسنا إليهم، فالكلمات التي نريد أن نقولها لأطفالنا إمّا أن تكون خيّرة وإلا فلا نقولها.

- الحوار، فقبل أي محاولة من جانب الآباء لتغيير سلوك معين في الأبناء أو زرع سلوك آخر، لا بد وأن تكون قنوات الاتصال بينهم وبين الأبناء مفتوحة.

ثانيًا: بيئة المدرسة:

ميزة المدرسة أنها تجمع في مكان واحد عددًا كبيرًا من الأطفال المتساويين في السن، والذهن، والاهتمام؛ لذلك فمن السهل أن يتم غرس كثير من المبادئ الأخلاقية والسلوكيات الصحيحة فيهم، لكن المدرسة، مع مرور الوقت، ركزت كل جهودها تقريبًا على تزويد التلاميذ فقط بالمعلومات، وكلفتهم بحفظها واسترجاعها عند الاختبارات والامتحانات، وبذلك أهملت الجانب الأخلاقي في التربية.

إن الحديث عن المدرسة لا يمكن فصله عن الحديث عن المجتمع؛ إذ إن المجتمع يتكون من مجموعة أفراد لهم عادات وتقاليد وقيم مشتركة، والمدرسة تتلقى أبناء هذا المجتمع وتهيئهم لأن يحتلوا مكانتهم في المجتمع كأعضاء ومواطنين صالحين لأن يعيشوا مع غيرهم.

ولهذا تنظر التربية الحديثة إلى المدرسة باعتبارها مجتمعًا صغيرًا شبيهًا بالمجتمع الكبير الذي تقوم فيه.

وعلى هذا فالمدرسة تقوم بإعداد الطفل وتنمية قواه ومواهبه إعدادًا فرديًا، وتتيح له الفرص للنمو الكامل والتحسن الجيد، كما يجب أن تراعي المدرسة تغيرات المجتمع، والتطورات التي صاحبت تطور التكنولوجيا الحديثة بظهور وسائل علمية متطورة، تتطلب منا المزيد من التقدم في العلم والتطور في الفكر، وإلا فإنها تصطدم مع الواقع ولا يمكن، حينها، التوافق بينهما، فتكون قد قصرت في وظيفتها، إذ ليس من المعقول أن تكون خبرات وتجارب المتعلم ومعارفه وأخلاقه ومبادئه تمثل عصرًا مضى وانقضى، فمثل هذا المتعلم حينما يخرج للحياة العملية يشعر بالنقص وعدم القدرة على تكييف سلوكه وتفكيره مع العالم الذي يعيش فيه.

فصلاح المجتمع يتوقف إذًا على إصلاح المدرس والمدرسة أولًا، فإذا أولينا العناية والاهتمام بهما فإن الإنتاج يكون وافرًا، وهذا ما يزيد من تطور البلاد وازدهارها ونموها إلى الرقي ومسايرة موكب الحضارة المتطورة.

ثالثًا: دور الإعلام:

يخطئ من يقلل من تأثير الاعلام في الوقت الراهن، فقد أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس، والذي يرفض متابعته لا يمكنه أن يمنع أفراد أسرته، وأصدقاءه، وزملاءه في العمل من أن يحكوا له ما شاهدوه هم بأنفسهم، وهنا لا بد من أن يتكامل دور الإعلام الحديث في المجتمعات الإسلامية مع منظومة التعليم الموجودة به.

والغريب أنه عندما تتم معاتبة أهل الاعلام في عرضهم موادًا تتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية يردون بإجابتين عريضتين: الأولى أن هذه المواد موظفة من الناحية الفنية لخدمة غرض أخلاقي، والثانية عبارة عن سؤال استنكاري: ولماذا تشاهدونها ما دامت تؤذي أخلاقياتكم؟! والاجابتان، كما هو واضح، ساقطتان؛ لأنه من الممكن أن ندين الشر دون أن نقدمه بصورة جذابة تفتن أبناءنا وبناتنا، كذلك فإن الاعلام أصبح يدخل بيوتنا دون استئذان، ولا يمكننا أن نتجنب رؤيته أو متابعته، إن التعارض بين التعليم والإعلام يؤدي إلى ما ذكره الشاعر القديم في قوله الحكيم:

وهل يبلغ البنيان يومًا تمامه       إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

رابعًا: دور المنظومة القانونية:

وهنا لا بد من الاعتراف بأن القوانين التي يتم سنها يمكنها أن تساعد كثيرًا في ضبط اتجاه التربية الأخلاقية وتطبيقاتها العملية في المجتمع، وبناء على ذلك لا ينبغي أن يصدر قانون إلا بعد التأكد من عدم معارضته لقيمة أخلاقية، كما يستحسن أن تؤكد القوانين على أسس التربية الأخلاقية وتوجهاتها الإسلامية.

إن كل وظيفة في الدولة لا توجب فقط على شاغلها أن يقوم بواجباتها الوظيفية المقررة، بل لا بد أن يضم إليها الجانب الأخلاقي، الذى يعني مراقبة الموظف لضميره وهو يؤدي عمله أكثر من إرضاء رؤسائه، أو التقيد الشكلي بمواعيد الحضور والانصراف.

خامسًا: تحديد مناهج التربية الإسلامية:

وفى اعتقادي أنه قد آن الأوان لوضع المناهج الحديثة التي يتم على أساسها تطبيق التربية الإسلامية في المجتمع، وبيان الأساليب الجزئية التي تصلح لكل حالة على حدة.

ومن المهم هنا أن نؤكد على أن التقدم في معرفة الإنسان بجوانبه المتعددة: الجسمية والنفسية والوجدانية والروحية؛ مما يؤدي إلى حسن التعامل التربوي معه.

ولعلنا نلاحظ أن ما يصلح لتوجيه طفل قد لا يصلح هو نفسه لتوجيه طفل آخر.

كذلك فإن النصح التربوي قد لا يصلح في كل وقت، وأن الجزاء البدني قد لا يؤدي بالضرورة إلى الاصلاح المنشود.

سادسًا: تأهيل القائمين بالتربية:

ولا يمكن أبدًا أن ينجح مجتمع إسلامي في مجال التربية إلا بعد أن يتم تأهيل القائمين بها، سواء مع الأطفال أو الشباب.

ونحن نعلم جيدًا أن القدوة ومحاكاتها من أهم ما يؤثر في كل منهما، وليس مجرد الكلام، سواء كان نصحًا مباشرًا، أو عتابًا، أو تأنيبًا، وهكذا إذا لم يتوافر في المربي الأخلاقي هذا القدر الكافي من الصدق والإخلاص لما أثمر عمله، ولانقلب إلى ضده، ولعلنا نشاهد جميعًا نظرة الازدراء التي ينظر بها المجتمع الإسلامي إلى المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويبطنون ما لا يظهرون.

إن التربية الأخلاقية تعد امتدادًا لعمل النبوة، فكما كوّن الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال قدوته وتوجيهاته معًا، مدرسة أخلاقية متميزة، ينبغي على كل المجتمعات الإسلامية أن تواصل هذا العمل الجليل، والذى يمتد إلى كل مجالات الحياة، وعلى أساسه ينهض المجتمع قويًا بأبنائه المتمسكين بالخلق القويم، والمطمئنين على مستقبل أبنائهم وأحفادهم.

وإذا نظرنا إلى هدف العولمة من التربية الخلقية نجد غاية ذلك إعداد الفرد ليعيش مع غيره، ويستمتع بهذه الحياة الدنيا فقط، أما التربية الخلقية الإسلامية فتهدف إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهي تهدف إلى تحقيق غاية كريمة للفرد مع الجماعة في هذه الحياة، وكذلك تحقيق رضوان الله سبحانه وتعالى، والفوز بالنعيم والنجاة من الجحيم يوم القيامة.

ولا شك في أن التربية الخلقية تحتاج إلى مقومات تقوم عليها وتكون سندًا لها، فمن تلك المقومات وجود القواعد والضوابط التي تنظم تلك الأخلاق، والتي تحدد أطرها، وتبين نظمها، وتحدد الحسن منها من السيئ، كما تحدد الجزاء على حسنها والعقاب على سيئها، ولا شك في أن هذا التنظيم موجود بالإسلام بصورة النصوص الشرعية، أما في غيره فإن هذا الإجراء التنظيمي يتمثل فيما يضعه البشر من القواعد والنظم أو العرف السائد فيما بينهم، وذلك كله محتمل للصواب والخطأ، إضافة إلى قصور النظرة البشرية ومحدوديتها.

ومنها الدوافع والموانع، أما الدوافع فهي تلك الأمور التي تدفع الفرد للتحلي بتلك الأخلاق، وهذا نجده في التربية الإسلامية بشكل واضح؛ كطلب رضا الله سبحانه وتعالى والفوز بالجنة، لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: «تقوى الله وحسن الخلق»(18)، أما الموانع فهي الأمور التي تجعل الفرد يمتنع عن الأخلاق السيئة.

ومن المقومات وجود القدوة الخلقية المثلى، وهذه القدوة في التربية الإسلامية تتمثل في شخصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان غير حي فإن تفاصيل خُلُقه حية محفوظة للعالم مع بعده منه صلى الله عليه وسلم، فالأمم التي لا تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن لا تمتلك قدوة عالمية في هذا المجال.

ويضاف إلى تلك المقومات موافقتها للفطرة البشرية، فإن العولمة لا تدرك ذلك، فكم هي الأخلاق التي تسود العالم وهي مخالفة للفطرة البشرية، ولكن التربية الخلقية الإسلامية لا يمكن أن تقر خلقًا مخالفًا لفطرة البشر.

فالتربية الخلقية الإسلامية إذًا هي التربية التي تمتلك المقومات العالمية والأهداف السامية، وبالتالي هي التي يجب أن تسود العالم، ولكن متى؟

إذا أدرك المسلمون ذلك وكانوا دعاة بأخلاقهم قبل أن يكونوا دعاة بأقوالهم(19).

كانت للعرب في الجاهلية أخلاق أهَّلتهم لحمل الرسالة، إلا أنها كانت كثيرًا ما تتجاوز حدها الطبيعي، وقد جاء الإسلام فزكَّى هذه الأخلاق ونقاها من الأخلاق الرديئة، ونستطيع أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تأيّد في الأخلاق بلون من الإعجاز، تمثل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(20)، وقد احتوى القرآن الكريم في التربية الأخلاقية على حقيقتين، هما: النفي والإثبات، النفي لما تعلق من رواسب الجاهلية، وتثبيت أركان البناء الخلقي.

ومن النماذج الفريدة في ذلك: موقف عثمان بن أبي طلحة، عندما رأى أم سلمة تريد الهجرة وحيدة للمدينة، حيث منعت أول الأمر من الهجرة مع زوجها، فقال لها: «والله، ما لك من مترك»، فأخذ بخطام البعير، تقول: «فانطلق معي يهوي بي، فوالله، ما صحبت رجلًا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني...»، إلى أن قالت: «فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: (زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله)، ثم انصرف راجعًا إلى مكة»(21).

ومن ذلك خلق الجوار الذي استفاد منه المسلمون وهم مستضعفون في مكة؛ كجوار النجاشي، وجوار المطعم بن عديّ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف، ودخول أبي بكر في جوار ابن الدَّغِنَةِ؛ ولهذا يجوز للمسلمين الدخول في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة، سواء كان المجير كتابيًّا؛ كالنجاشي، أو مشركًا؛ كأبي طالب، وقد يكون الجوار في عصرنا على شكل بلاد مفتوحة أمام المهاجرين، كما عرف في مصطلح الدبلوماسية المعاصرة بـ(حق اللجوء السياسي).

ويمكن القول: إن المنهج الأخلاقي قد استكمل بناؤه في نفوس المسلمين في المرحلة المكية من جهة، بتوجيه القرآن الكريم، ومن جهة أنها تجلت في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن جهة أن بعض الأخلاق الحميدة كانت متأصلة في نفوس العرب منذ الجاهلية، وقد لعبت دورًا إيجابيًّا لمصلحة الدعوة مرحلة الاستضعاف.

إذن، فهما جهادان: جهاد داخل النفس لإصلاحها، وجهاد خارج النفس لإصلاح المحيط من حولها، غير أن جهاد النفس كان توطئة وإعدادًا للمواجهة الخارجية، وهذه المواجهة مفروضة على المؤمنين؛ لأنها في حقيقتها معركة عقيدة وسُنَّة ربانية لا محيص عنها.

التربية بالأخلاق في الفترة المدنية:

فقد وجد الصحابة في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال الذي يُحتذى، فكان أشجعهم، يسبقهم حين الفزع، ويثبت حين ينكشف المسلمون؛ بل يلوذ به شجعان الصحابة، وفي تأمل مواقف أبي دجانة وأنس بن النضر وعلي بن أبي طالب وقادة مؤتة الثلاثة ما يستوقف القارئ عجبًا، على أن الشجاعة ليست إقدامًا وجرأة في القتال وحسب؛ بل هناك أوصاف تتفرع عنها؛ كإغاثة الملهوف، وحب النجدة، والسماحة، والصفح، والمروءة.

وخلاصة القول: إن أخلاق الصحابة كان لها أثر على المدعوين من الأمم الأخرى، ففتحوا القلوب كما فتحوا الآفاق(22).

***

__________________

(1) القرآن منهاج حياة (2/ 64).

(2) أخرجه أبو داود (4682).

(3) أخرجه البخاري (3759).

(4) الإيمان، لابن تيمية، ص4.

(5) أخرجه الترمذي (2004).

(6) الفتنة وموقف المسلم منها في ضوء القرآن، ص506.

(7) أخرجه أبو داود (4798).

(8) أخرجه الترمذي (2018).

(9) أخرجه الترمذي (1084).

(10) أخرجه البخاري (5090).

(11) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/ 143).

(12) حضارتنا في عيون الغربيين، موقع: صيد الفوائد.

(13) الشريعة، للآجري (1/ 477).

(14) التربية الأخلاقية، منتدى خاص بطلاب ماجستير MBA النيلين.

(15) بحث كامل عن الأخلاق، منتدى الشــامل.

(16) أهمية التربية الأخلاقية في مؤسساتنا الإسلامية، جريدة الشرق الأوسط (العدد:8285).

(17) فيض القدير (3/ 394).

(18) أخرجه الترمذي (2004).

(19) التربية الخلقية بين الإسلام والعولمة، موقع: لها أون لاين.

(20) الأدب المفرد (273).

(21) الموسوعة القرآنية (1/ 92).

(22) التربية النبوية بالأخلاق، د. محمد أمحزون، موقع: المسلم.