خطورة التلاعب بالمصطلحات الشرعية
التلاعب بالمصطلحات الشرعية من أعظم ما يسعى إليه أعداء الدين، فمما يتعين الاعتناء به معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فعندما يحرِّم الله تعالى الربا فيجب أن نسميه باسمه "الربا"، وعندما يحرِّم الله تعالى الخمر فيجب أن نسميها باسمها الشرعي "الخمر"، وعندما يحرم الله تعالى علينا الزنا فيجب أن نسميه كذلك.
وعندما تتغير الأسماء تنقطع الروابط بين أحكام هذه الأشياء وبين الأدلة المنصوص فيها على أحكام هذه الأشياء، فهذه لعبة خطيرة يقوم بها أعداء الدين، والقصد واضح، إنه تحريف الدين، إنه التغيير في أحكام الله وتبديل أخلاق الناس، إنه التمويه والزخرفة، فأحيانًا يجمِّلون العبارات بألفاظ فيها تمويه وتزييف، فيها جمال ظاهري وخبث باطني وتلاعب شيطاني ومكر آدمي وتحريم رباني.
فعندما يقال عن الصلاة رياضة بدنية، وعن الحج مؤتمر عالمي، وعن الجهاد إرهاب دموي، وعن السنة تخلف ورجعية، ونحو ذلك، بدون أن تستعمل الألفاظ الشرعية، فهذه فيها خطورة أيضًا، وتأتي الشريعة بأسماء لأمور كانت في الجاهلية، فيبدل الاسم القديم، ويحل محله اسم جديد، فكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى يوم العروبة، فجاء الله سبحانه بهذا الاسم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهكذا جاءت النصوص بتسميته، فنُسخ ذلك الاسم حتى كأنه لم يعد شيئًا مذكورًا.
يقول الشيخ الإبراهيمي رحمه الله تعالى عن هذا التلاعب: إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم كلاهما منكر وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة وتغليط للتاريخ وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بني على هذه المقدمات الكاذبة (1).
والمصطلحات من أشد العناصر الثقافية فتكًا في ثقافات الشعوب، ومع أن المصطلح لا يتجاوز كلمة أو كلمتين؛ إلا أن هذه الكلمة بكثرة استعمالها وتكرارها قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها، ولها مفعول السحر الذي يستعصي فهمه على المنطق وقوانين العقل.. والمصطلح باختصار هو (حبة) أو (جرعة) سحرية، يتناولها فرد أو جماعة؛ فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى جهة إن لم تفقده التفكير أصلًا (2).
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن خطورة هذا التلاعب فيقول: وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان: هو حق من أحدهما، باطل من الآخر؛ فيوهم إرادة الوجه الصحيح ويكون مراده الباطل، فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانًا مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب، فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وألا يوقعك في هذه الظلمات (3).
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على ضرورة التمسك بالمصطلحات الشرعية القرآنية والحذر من المصطلحات الحادثة فيقول: والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن، أولى من التعبير عنها بغيرها؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها.. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثمّ قد يُجعل اللفظ حجة بمجرده، وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق (4).
فتنة التلبيس وتسمية الأشياء بغير اسمها:
إن تحريف الكلم عن مواضعه لمن أشد أنواع التلبيس والتضليل، وقد برز اليهود في هذا المكر والتحريف عن غيرهم من الأمم حيث حرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، وحرفوا معانيها، واتبعهم في ذلك الذين في قلوبهم زيغ، ولكن لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه العزيز من تحريف ألفاظه، وحال بين ذلك وبين كل من هم بذلك؛ فإن أحدًا من هذه الأمة أو من غيرها لم ولن يستطع تحريف ألفاظه.
فلما أعجزهم ذلك توجهوا إلى تحريف معانيه وتأويلها وليها؛ ليلبسوا على الناس دينهم، ويحرفوا معاني الألفاظ عن الفهم الشرعي الصحيح لها، وقد برز هذا التلبيس بعد الخلافة الراشدة وبزوغ أهل البدع والضلالات، وترجمة كتب فلاسفة اليونان والإغريق والهنود والفرس، فانتشرت البدع ومقالات أهل الفلسفة والمنطق والكلام، واستمر هذا طيلة التاريخ الإسلامي، حتى جاء زنادقة زماننا من الباطنيين والمنافقين العلمانيين واللبراليين، ومن هو سمَّاع لهم من ضعاف الإيمان، فبرزت هذه الفتنة -أعني فتنة التلبيس وتسمية الأشياء بغير اسمها- وظهرت في صور كثيرة وخطيرة، ساعدهم في نشرها وظهورها وسائل الإعلام المتنوعة التي لم يبق بيت وبر ولا مدر ولا جيب رجل ولا امرأة إلا دخلته؛ فعظمت بذلك الفتنة واشتد لهيبها، فاحتاج الناس إلى من يتصدى لها ويبين عوارها ويطفئ نارها، وهذا دور أهل العلم والبيان والدعوة والجهاد في هذه الأمة (5).
نصيحة من الشاطبي:
إليك ما كتبه الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس (الاعتصام) عن أهل زمانه، وما رموه به من الأسماء المحرفة والتهم الباطلة، وذلك بتسمية ما كان عليه رحمه الله تعالى من اتباع السنة والحق بأسماء باطلة يتلاعبون بها ويحرفون معانيها، حيث يسمون الحق باطلًا والباطل حقًا، قال رحمه الله تعالى: فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئًا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة، وفوق إليّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة.. وربما ألموا –في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي– بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.
فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه -كما يعزى إلى بعض الناس- بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة –رضي الله عنهم-، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت –في التكليف والفتيا– الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذًا في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات.
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله تعالى، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين –بزعمهم– لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها –وهي الناجية– ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان...
وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال (6).
هذه الافتراءات التي وجهت للإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، والتي تتضمن صورًا من التهم الباطلة التي يلبسها أهل البدع لبوسًا شرعيًا، ويوجهونها إلى أئمة السلف لتنفير الناس عنهم؛ وهناك الكثير من الصور المعاصرة التي يتلاعب فيها زنادقة زماننا ومنافقوهم بالمصطلحات والمسميات، ويسمون الأمور بغير اسمها تارة لتقبيح الحسن وتارة لتحسين القبيح والباطل، وهي على سبيل المثال لا الحصر.
من صور تقبيح الحسن وتشويه الحق:
الصورة الأولى: تسمية الإسلام والعقيدة والأخلاق بأنها التراث الثقافي:
لا شك أن التراث الإسلامي أمره مهم والعناية به واجبة، وعلى رأس هذا التراث: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهما أعظم تراث وأفضل تراث وأنفع تراث، وهما أصل دين الإسلام وأساسه، خلفهما لنا رسولنا ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، والله يقول في كتابه العظيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وعلى رأس المصطفين رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم صحابته الكرام، ثم أتباعهم بإحسان.
على أن طائفة من أهل الزيغ والضلال يستعملون هذا المصطلح في مقامين منحرفين:
المقام الأول: إطلاق ذلك المصطلح على نصوص الوحي المنزل، من كتاب الله وسنة رسوله، لا بقصد التعظيم، ولا بقصد المعنى اللغوي السليم من الميراث الشرعي، والنبوي؛ بل بقصد أن نصوص الوحي من جملة التراث القديم الذي يمكنهم أن يتخطوه إلى الحديث والجديد، أو أن يعامل هذا التراث كما يعامل تراث الأقدمين السالفين من الأمم السالفة جميعًا، فيقبلون منه ويردون، أو يتأولونه وفق مناهجهم المنحرفة في نزع القداسة –التي هي التعظيم والتوقير والإجلال، والقبول والتسليم– عن النص الشرعي، ليتعاملوا به كما يتعاملون مع النص الأدبي الموروث، في طرائق فهمه وتحليله، وأيضًا نقده.
والمقام الثاني، وهو شعبة من تلك الضلالة، إلا أنها أخف أمرًا منها: ليس شغلها بالنص الشرعي المقدس، من كتاب وسنة؛ بل شغلها بكتب أهل العلم، وميراث الأمة من العلم المحقق عن الأئمة الماضين، فيطلق هؤلاء المنحرفون كتب التراث على ذلك الميراث، تهوينًا من شأنه، وتقليلًا لمرجعيته، وتزهيدًا من الصدور عنه، والرجوع إليه.
وكلاهما ضلالة، وانحراف، وبعض الشر أهون من بعض.
ومن كلام الرجل، وسياقه، ومقاصده: يتبين المصلح من المفسد، ومن غرضه سليم بذلك الإطلاق، ممن هو مفتتح باب ضلالة (7).
الصورة الثانية: تسمية الأحكام والحدود الشرعية بالعادات والتقاليد:
ومن ذلك؛ فَصْلُ عبوديَّة الحجابِ، والإبقاءُ على كونه عادة، حتى يسهُلَ تحكُّمُ الأهواء به؛ لأن الأهواءَ كأَهْوِيةِ الرِّيَاح، لا تحمل معها إلا الخفيف، وتخفيف الثقيل ثم إزالَتُه، أهون من إزالته وهو ثقيلٌ.
وقد ظهرت دعوات تجعل من حجاب المرأة والستر عمومًا عادةً وتقليدًا، لا عبادةً ودينًا؛ لأن العبادة لا تقبل الهدم إلا بنزع أدلتها، وأدلتها إن كانت ثابتة راسخة لا تقبَلُ النَّزْعَ إلا بمواجهةِ الشريعة كلها؛ لأن من جحد شيئًا من الدين بالضرورة، كان كمن جحده كله.
وأدلةُ حجابِ المرأة في القرآن والسنة أقوى وأرسخ من أن تنزعها الأهواء، ولكنها تقدر على استدبارها وراء ظهرها، ثم تدعي أنها لا تراها، وكل شيء تستدبِره أو تغمض عينيك عنه لن تراه، ولو أغمض الإنسان عينيه عن نفسه لم يرَ نفسه، وإن كانت هذه حجة فليس بعد هذا مثقال ذرة من عقل! والشرائع أقوى هيبةً وحفظًا من العادات في نفوس الناس، حتى وإن قصروا في دينِهم في العملِ الظاهر؛ إلا أن عاداتهم تتغير كثيرًا عبر القرون، ويبقى دينهم محفوظًا بهَيْبَتِه في النفس، يذهبون ويرجعون إليه، وأما العادات الخالصة فإن ذهبت فغالبًا لا تعود.
ولما كان الستر عمومًا -وحجاب المرأة خصوصًا- عبادة ربانية تمتزج مع الفطرة البشرية، كان مِن وسائل الشيطان وأعوانه: فصل عبودية الحجاب، والإبقاء على كونه عادةً، حتى يسهل تحكم الأهواءِ به؛ لأن الأهواء كأهوية الرياح، لا تحمل معها إلا الخفيف، وتخفيف الثقيل ثم إزالَتُه، أهون من إزالته وهو ثقيل (8).
الصورة الثالثة: التلاعب بالقضية الفلسطينية:
الشـرق الأوسط أم المشرق الإسلامي:
مصطلح "الشرق الأوسط" جاء كمقدمة ضرورية للتعايش مع اليهود، ولإفساح مكان للكيان اليهودي في المنطقة العربية الإسلامية، وذلك للإقرار أن يكون اليهود عضوًا في جسم الدول العربية والأمة الإسلامية، مما يعطي اليهود صفات الجوار ووحدة المصير ومشاركة القرار، لتكييف المواطن العربي المسلم على تقبل "الكيان المعتدي"، والصواب أن نطلق على هذه المنطقة: المشرق الإسلامي، أو العالم العربي، أو المنطقة العربية الإسلامية.
الكيان اليهودي وليس دولة إسرائيل:
في إطلاق مصطلح دولة إسرائيل على "الكيان اليهودي" الغاصب، اعتراف بدولتهم وسيادتهم على أرض فلسطين، وحقهم في الوجود على تلك الأرض المغتصبة، وفي ذلك تطبيع للمواطن العربي المسلم على تقبل الكيان المعتدي ليصبح جزءًا في منظومة المنطقة العربية والإسلامية، واعتبارها دولة لها سيادتها وقانونها واحترامها!!، لتعويد العقل العربي والإسلامي على قبول طمس اسم فلسطين ومحو رسمها من خريطة العالم.
الاستسلام وليس التطبيع:
التطبيع كمصطلح وإستراتيجية برز لتذويب العداء مع اليهود وكيانهم المغتصب لأرض فلسطين، ولإجراء عملية تغيير في النفسية العربية والإسلامية وتعديلها لتتواءم وتتعايش وتتقبل الكيان اليهودي كجزء طبيعي مع حفاظ اليهود الصهاينة بمشروعهم العدواني، والتسليم بالكيان اليهودي كحقيقة قائمة والاستسلام لإرادته ومخططاته، ولهذا أصبحت مصطلحات السلام والتعايش مع اليهود مصطلحات تتكرر على مسامعنا ويشدو بها الإعلام صباح مساء.
الحقوق الفلسطينية وليست المطالب الفلسطينية:
يصف اليهود الحقوق الفلسطينية بأنها مطالب، وهم يريدون بهذا تهوين حقوق أهل فلسطين، فأصبحت بذلك قضية المستوطنات حقًا يهوديًا، وأصبحت عودة الفلسطينيين إلى أرضهم ووطنهم مطلبًا فلسطينيًّا، وأصبحت القدس كعاصمة أبدية حقًا يهوديًا، وحقنا في القدس مطلبًا فيه نظر؟ وبعد أن كانت عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم حقًا لا تنازل عنه، أصبحت مطلبًا يمكن استبداله بالتعويض.
المحتلـون وليس المهاجرون:
حقيقة ما يطلق عليه اليهود هجرة إنما هو استعمار إحلالي، بمعنى: انتقال كتلة بشرية من مكانها إلى مكان آخر، وطرد السكان الأصليين، ويعتمد حتى الآن على الهجرة اليهودية لزيادة عددهم في فلسطين لدعم القدرة العسكرية التي تحافظ على ديمومة الاحتلال، والأصح أنهم محتلون مغتصبون، وفي إطلاق مُسمى "مهاجرون" عليهم إبعادٌ لصفة الاغتصاب والاحتلال لأرض فلسطين وإعطاؤهم شرعية إقامة المستعمرات، وغصب الأراضي، وتوجيه السلاح لحماية ممتلكاتهم المزعومة.
الجهاد ومقاومـة الاحتلال وليس الإرهاب والعنف الفلسطيني:
يصف الإعلام اليهودي مقاومة الاحتلال داخل فلسطين بالإرهاب والعنف لنـزع صفة الشرعية عن تلك المقاومة ونبذها، وتهييج الإعلام العالمي على كل من يُقاوم الكيان اليهودي المغتصب لأرض فلسطين، بهدف إعطاء اليهود المبرر والذريعة لاستمرار مكائدهم وجرائمهم واعتداءاتهم على المسلمين في فلسطين، وإقصاء المصطلحات والمسميات الجهادية، لتنحية الإسلام في الصراع على فلسطين، وتغييب شعيرة الجهاد من واقع الأمة المسلمة، وإخماد كل صوت ينادي باسم الجهاد حتى لا ترتفع راية جهاديةٌ.
الأرض مقابل السلام أم الاستسلام مقابل السلام:
حقيقة السلام الذي يريده اليهود وهو الاستسلام الذي يعني قبول العرب والمسلمين بالكيان اليهودي كدولة مستقلة ذات حدود آمنة، وهذا اعتراف بحقوق اليهود في فلسطين، ولا يخرج هذا السلام المزعوم عن محاولة يهودية لتكريس الاحتلال والاعتراف بالمحتل وإِعطائه الأمن والأمان واستمراره تحت مسميات تتناسب ولغة العصر الحديث، فقالوا: الأرض مقابل السلام، ثم تراجعوا وقالوا: الأمن مقابل السلام، ثم غيروا وبدلوا وقالوا: السلام مقابل السلام!
الصواب: العمليات الجهـادية وليست العمليات الانتحارية:
يصف اليهود أي مقاومة لكيانهم الغاصب بأوصاف تدل على شنيع الفعل والهدف، ومن تلك المسميات إطلاق مصطلح عمليات انتحارية، وعلى منفذيها انتحاريين لما يحمله الانتحار من معنى قتل النفس بسبب مشاكل نفسية أو مالية أو ضجر ويأس المنتحر من الحياة، وكذلك ينعتونها بالعمليات الجبانة، ووصف منفذها بالجبن، وذلك لإبعاد دوافع الجهاد والنكاية بالعدو اليهودي الصهيوني الغاصب.
المغتصبون اليهود وليس المستوطنون اليهود:
المستوطن في اللغة هو الذي يتخذ الأرض وطنًا له، والحال في فلسطين أن اليهود أخذوا الأرض غصبًا وقهرًا، فهم "مغتصبون"، فإطلاق اليهود لمصطلح "مستوطنون" على أولئك المغتصبين لأرض فلسطين، فيه الكثيرُ من التلطيف والتسمية الحسنة، وحقيقتهم أنهم أتوا إلى أرض فلسطين محاربين مغتصبين، وطردوا أهل فلسطين، واحتلوا مساكنهم وممتلكاتهم، فكانوا هم الأداة التي حقق قادة اليهود بها حلمهم من إحلال شتات اليهود مكان شعب فلسطين، وحتى تسمى الأشياء بأسمائها فالأصح أن يطلق على هؤلاء "المغتصبون"، "فالمستوطنون" هم "مغتصبون"، "والمستوطن" هو "مغتصب" (9).
ثانيًا: صور تحسين القبيح:
الصورة الأولى: تسمية المفسدين أنفسهم بالمصلحين، وتسمية المصلحين بالمفسدين والسفهاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 11 - 13].
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.
والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية (10).
الصورة الثانية: تسمية الوهن في عقيدة الولاء والبراء ومداهنة الكفار بالتسامح والتقارب بين الأديان، أو التقارب بين السنة والشيعة، وتسمية البراءة منهم وعداوتهم فرقة وطائفية وكراهية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع عليه أهل الإيمان بالله ورسوله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ولم يبتدع المسلمون شيئًا من ذلك من تلقاء أنفسهم كما ابتدعت النصارى كثيرًا من دينهم، بل أكثر دينهم، وبدلوا دين المسيح وغيّروه، ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام (11).
فوصف اليهود أو النصارى بأنهم مؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالله يعتبر هدمًا للإسلام من أساسه؛ لأن هذا يضيع الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، فالدلالة واضحة من الآيات في القرآن الكريم والسنة على ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]، وكذلك تكفير القرآن الكريم لليهود وأمثالهم.
الصورة الثالثة: تسمية الفساق الخائنين لأماناتهم العالمين بأمور الدنيا أو الكفار الصادين عن سبيل الله تعالى بالعقلاء والظرفاء والحكماء، وهذا يذكرنا بحديث زيد بن وهب قال: حدثنا حذيفة، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة» وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان»، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا رده علي الإسلام، وإن كان نصرانيًا رده علي ساعيه، فأما اليوم: فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا (12).
قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس وقلة أمانتهم في آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونه إلا من طريق الوحي (13).
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه في أمر العامة» (14).
الصورة الرابعة: إظهار التبديل في أصول الدين وقواعده الشرعية القائمة بأنها تجديد للخطاب الديني الذي تراعى فيه تغيرات العصر وأحواله.
فأدعياء التنوير والتقدم من اللبراليين والعلمانيين والتغريبين، ومن لفَّ لفَّهم من عبيد الفكر الغربي، يريدون بمصطلح "تجديد الخطاب الديني" تغيير ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، ويهدفون إلى هدم قيمه ومبادئه الإسلامية، واستبدالها بأخرى محرفة ومبدلة، وهم في الحقيقة يقصدون جعل دين الإسلام متوافقًا مع النظرة الغربية للدين، بحجة جعل الإسلام متلائمًا مع ظروف العصر.
وأما دعاة الإسلام وعلماؤه وفقهاؤه، فمنهم من يقصد بمصطلح "تجديد الخطاب الديني" تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، ومنهم من يقصد بيان حكم الإسلام في النوازل المستجدة، ومنهم من يقصد تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش، ومراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة وتمحيص، وتقريب الفقه للناس وتيسيره، ونحو ذلك من المعاني الشرعية (15).
الصورة الخامسة: تسمية نشر الإلحاد والسخرية من الدين بحرية الرأي والفكر:
إنَّ الاستهزاء بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر كفرًا والعياذ بالله لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65- 66].
فهذه الآية نزلت في بعض المنافقين كما قال ابن كثير رحمه الله: قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنًا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إلى قوله تعالى: {مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 65- 66].
وذكر ابن كثير رحمه الله بعض الروايات الأخرى في سبب نزول الآيات: منها أن جماعة من المنافقين كانوا يسيرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى غزوة تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر-قتال الروم– كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين (16).
لذلك فإن الاستهزاء بدين الله والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بسنته عليه الصلاة والسلام يعد كفرًا مخرجًا عن دين الإسلام، وإن الاستهزاء بمن يلتزم بأحكام الشرع، هو استهزاء بالشرع ذاته.. وهذا كفر والعياذ بالله، ولا فرق بين أن يكون المستهزئ جادًا، أو مازحًا هزلًا (17).
سبل الاعتصام والنجاة:
هناك بعض الأسباب التي ينبغي الأخذ بها للتحصن بإذن الله تعالى من هذه المسميات والتلبيسات أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ومن أهمها:
أولًا: سؤال الله عز وجل والتضرع بين يديه في أوقات الإجابة الهداية للحق، والاستعاذة به من فتن الشبهات والشهوات، كما جاء في الدعاء المأثور: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (18).
ثانيًا: الاعتصام بالكتاب والسنة والعض عليهما بالنواجذ، وألا نحيد عما تضمناه من المصطلحات الشرعية، والوقوف عند معانيها بفهم الصحابة رضي الله عنهما والتابعين لهم بإحسان.
ثالثًا: الحذر من المصادر المعرضة عن الكتاب والسنة لما فيها من الشبهات والتلبيسات والمغالطات؛ ككتب الفلاسفة وأهل الكلام وكتب المنافقين المعاصرين من لبراليين وعلمانيين وعصرانيين، والحذر من مجالستهم والدخول إلى مواقعهم.
رابعًا: مجالسة أهل العلم الصادقين المتبعين للأثر، المعظمين للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم والقراءة في كتبهم.
خامسًا: بيان الحق والمصطلحات الشرعية للناس بدءًا من الأهل والأولاد والأقارب، وبيان الباطل وتلبيساته، وتحصينهم من كل ذلك، الأب في بيته والخطيب في منبره والمعلم في مدرسته والمربي في محضنه (19).
-----------
(1) عيون البصائر (2/ 571).
(2) نحن أسرى المصطلحات الغريبة/ مجلة البيان (العدد: 9).
(3) الصواعق المرسلة (3/ 927).
(4) النبوات (ص: 333).
(5) فتنة السنوات الخداعات/ ناصحون.
(6) الاعتصام (1/ 25) وما بعدها باختصار.
(7) انظر كتاب: معركة النص/ للعجلان.
(8) الحجاب عبادة وعادة/ عبد العزيز الطريفي.
(9) مصطلحات صهيونيه يتداولها العرب والمسلمون/ طريق الإسلام.
(10) في ظلال القرآن (1/ 44).
(11) الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح (ص: 126).
(12) أخرجه البخاري (6497)، ومسلم (143).
(13) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 38).
(14) أخرجه ابن ماجه (4036).
(15) نظرات شرعية في مصطلح "تجديد الخطاب الديني"/ طريق الإسلام.
(16) تفسير ابن كثير (2/ 367).
(17) حكم الاستهزاء بأحكام الشريعة/ إسلام أون لاين.
(18) أخرجه مسلم (770).
(19) فتنة السنوات الخداعات/ ناصحون.