logo

الملل الدعوي


بتاريخ : الثلاثاء ، 29 جمادى الآخر ، 1438 الموافق 28 مارس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الملل الدعوي

دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟!» قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، حُلُّوه؛ لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد»(1).

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: «من هذه؟» قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله، لا يمل الله حتى تملوا»، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه(2).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل عمل شِرَة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل»(3).

قال البيضاوي: «الملل فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء؛ فيورث الكلال في الفعل والإعراض عنه»(4).

يقول سيد قطب عن هذه الآية: «إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يَجِدُّ الجد وتقع الواقعة؛ بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعًا ونكولًا وانهيارًا»(5).

هي واحدة من تلك الظواهر غير الصحية التي قد يصاب بها العامل في الحقل الدعوي، والتي قد تدفع به نحو أودية سحيقة من الإحباط واليأس واللامبالاة، وهو نفسه لا يستطيع أن يعيش بها؛ لأن سنة الله في كونه لا تقبلها، فالتجديد والتحسين والتغيير هو الثابت المرغوب في دورة حياة الإنسان، فما بالنا بالداعية الذي هو الثقل الذي يحفظ الأرض أن تميد بالناس، فهو الطليعة والقدوة ومحرك الناس ودافعهم للخير.

ولكن قد يُصاب الداعية بهذه الظاهرة خلال حركته اليومية، وفي ظلال تكرار المهام فيها، واستهلاكه لثقافته ومعلوماته.

وهذا ما يكون عادة ناشئًا من هبوط الإيمان، أو خلل في التربية الذاتية والإيمانية، وربما كان له أسباب خارجية، وقد تظهر صوره في الفتور الدعوي، أو كون الملتزم يصبح لا هَمَّ له ولا نشاط؛ فينكفئ على نفسه وخاصته، وربما ذهبت آثار السمت والاستقامة ليساير عامة الناس ودهمائهم، بعيدًا عن المسئوليات والتبعات، وهذا النوع قد يعود صاحبه، حيث أنه لا يُصيب بالعادة إلا تغيرات سطحية في المفاهيم، وخللًا في السلوك، فبتوفيق الله ثم بالمناصحة والعزم قد يعود صاحبه؛ لأنه غالبًا ليس مقتنعًا تمامًا بما هو عليه(6).

والملل حالة نفسية تصيب الإنسان، وتجعله يضجر مما يعرض عليه أو مما يقرؤه أو المكان الذي فيه، أو أي شيء يعمله أو يعمل له، وبالتالي يضعف التفاعل مع هذا الأمر، والمؤسسات الدعوية كغيرها من المؤسسات يعاني بعض أفرادها هذه المشكلة لأسباب متعددة.

مظاهر الملل الدعوي:

1- عدم حضور النشاط أو التأخر عنه.

2- ضعف الإنتاجية إلى درجة اللامبالاة.

3- عدم التفاعل مع النشاط والعمل على التجديد والتغيير فيه .

4- عدم التعقيب على المحاضرات أو التعقيب السلبي.

5- الإكثار من النظر في الساعة أثناء النشاط.

أسباب ظاهرة الملل الدعوي:

الناظر في حال شباب الأمة يجد تقهقرًا عن القيام بواجب الدعوة إلى الله، وتراجعًا عن الاشتغال بتلك الوظيفة، وحين نتلمس الأسباب التي أدت إلى ذلك، والصوارف التي صرفت أولئك عن الاشتغال بتلك الأعباء فإننا نجد أنها ترجع إلى أمور كثيرة، يمكن الإشارة إلى شيء منها في هذا المقام:

1- ضعف استشعار المسئولية، والغفلة عن استحضار ذلك الواجب، فلا يشعر المرء بأنه مطالب بعينه بالنهوض بالأمة، ومداراة عللها، وتضميد جراحها.

2- إهمال المنابع الإيمانية، وضعف الارتباط بها؛ كالمساجد، وحلق الذكر، ومجالس الإيمان، وعادة ما يكون للمتنسك بداية الطريق صلة بهذه المنابع، وهكذا حتى يُصيب البعضَ شيءٌ من التواني والتراخي في ذلك، فيقل عنده منسوب الإيمان، وتضمر لديه المعاني والمشاعر الإيمانية الوهاجة، ويكون على ارتباط هش بالمداومة على الصلوات في المساجد، والعمرة إلى العمرة، والحج إلى الحج، وتقليب صفحات المصحف، وتكمن المصيبة حين يعتقد بأنه قد توصل لمرحلة قد لا يحتاج فيها إلى مجالس الرقائق والإيمان، التي يزعم أنها للمبتدئين، ومن ثم ينكفئ على ذاته ونفسه، وهنا يبدأ في مناقشة ذاته ومحاورتها، بعيدًا عن المنهجية وأهل العلم، حتى يبدأ بالتنازلات والتقاعس والأخذ بالمفضول، ليسقط ويستسلم لقيد من قيود الأرض.

3- الانغماس في الدنيا وتبعاتها، والانهماك في المباحات واللهو والسفاسف، والغرق في المرابحة والتجارة، وقلة التورع في المعاملات المالية، لا سيما التي في دائرة الشبهة، والغرق الشديد في الرفاهية، وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل، وكل هذا مندرج تحت إظهار النعمة المكتسبة، أو عدم ترك الأبناء عالة يتكففون الناس!

ولقد قال تعالى في ذم اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر»(7).

4- الانهزامية والشعور بالضعف أمام تيارات الفساد، وتطرق الإحباط إلى النفوس من جراء كثرة الشر والباطل، وتفنن أهله في عرضه وترويجه، فوقع في بعض النفوس أن الأمر أكبر مما يمكن أن يقدمه، وأنه يتطلب جهودًا ليس هو من أهلها ولا من القادرين عليها.

وهذا يصيب العاملين والمجتهدين في ميدان الخير، فإذا شاهد جراحات الأمة في جسدها، وكيف تمر الدعوة وأهلها في هذه المرحلة، فيُصاب بداء اليأس والانهزام، ولم يكن هذا دأب المصلحين، ولا من سار على ذلك.

قال عز من قائل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحقر أحدكم نفسه»، قالوا: «يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟»، قال: «يرى أمر الله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس، فيقول: فإياي كنتَ أحقَّ أن تخشى»(8).

5- تصور بعضهم ضيق ميدان الدعوة، وأنه محصور في خطبة على منبر أو محاضرة مرتجلة أو كلمة أمام الجماهير، وهو غير قادر على شيء من ذلك، فينصرف عن الدعوة بالكلية.

6- الصدمات التي قد يتعرض لها بعض العاملين في حقل الدعوة، والمضايقات التي قد تحصل لبعض الدعاة، فربما كان ذلك سببًا في تطلب بعضهم للسلامة بزعمه، وقد وقع في العطب!

7- تقصير المنظِّرين والدعاة في تحفيز الشباب نحو العمل الدعوي، وفتح الآفاق أمامهم للولوج إلى ميدان الدعوة الفسيح، كل على حسب ما آتاه الله من علم ومقدرة وموهبة.

8- دعوى بعضهم أن المشكلة ليس من أسبابها جهل الناس وحاجتهم إلى التعليم والدعوة والبيان؛ بل إن الناس، بزعمهم، عاصون على بصيرة، ومعاندون للحق؛ فما ثمرة السعي في تعليمهم ما يعلمون وتبصيرهم فيما لا يجهلون؟!

9- ميل الكثيرين إلى الكسل والبطالة، أو كثرة الرحلات والمخالطات، وبعدهم عن الجدية في عموم أحوالهم وأمورهم؛ ومن ذلك أمر الدعوة إلى الله؛ فليس عند الواحد منهم استعداد لأن يناط به عمل أو يتحمل مسئولية؛ لا عجزًا، ولكن تهاونًا وكسلًا.

10- قلة العلم، والجهل بأحوال الفتور والشِّرَّة، وأعني بالعلم العلمَ الشرعي والتربوي، الذي يساير الفرد حتى موته، وأخذه من العلماء الراسخين، وطلبة العلم الموثقين، ولا يكون الهوى والانكماش على الذات هو المسير الوحيد للسلوك، وإنا نجد في تعاطي الصحابة والسلف الصالح لهذه القضية نموذجًا حيًا، يمثل مشهد العلم والتعلم وبذل الوقت والجهد فيه, فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه بلغه عن رجل من أصحاب رسول الله حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشام، وهو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فابتاع بعيرًا، وشد عليه رحله، وانطلق يسمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذاك شعبة رحمه الله يرحل شهرًا كاملًا في طلب حديث سمعه من طريق لم يمر عليه.

11- اشتغال بعضهم بالتنقيب عن عيوب الناس، وخصوصًا العاملين في حقل الدعوة، وإظهار تلك العيوب ونشرها وتضخيمها، وربما لبَّسَ عليه الشيطانُ بأن هذا في سبيل الإصلاح، وأنه محسن في ذلك قائم بأمر الدعوة.

12- اشتغال بعضهم بالنظر في الواقع، وتتبع ما يجري في الساحة، والمبالغة في ذلك إلى حد الانهماك فيه، ثم يظن أنه بذلك قدم شيئًا للأمة بمجرد هذه المتابعة وحصوله على هذا الفقه، وهو بهذا قد لا يعدو أن يكون نسخة مما تحتفظ به أجهزة الإعلام من أخبار وتقريرات وتحليلات!!

13- عدم التوازن والاعتدال لدى بعض الشباب في توزيع الحقوق والواجبات؛ فربما انهمك في جانب على حساب الجوانب الأخرى، كمن ينهمك في طلب العلم أو في تربية النفس وتهذيبها، أو في جانب من جوانب الخير على حساب أبواب أخرى من الخير؛ كالدعوة إلى الله سبحانه؛ حتى ربما اعتقد أنه إذا خرج عن هذا الأمر الذي رسمه لنفسه قد ضيع زمانه وأهدر جهده فيما لا ينفع.

14- تثبيط القاعدين وتحبيط المتقاعسين عن القيام بأمر الدعوة، فلا يكتفي أولئك بقعودهم وتقاعسهم؛ بل ربما سعوا إلى تثبيط غيرهم، والحط من قدر أعمالهم، وأنه لا فائدة من جهودهم، فربما قاد ذلك بعض الضعفاء إلى التأثر بذلك الهذيان؛ ومن ثم إخلاء الميدان(9).

15- آثار الذنوب والمعاصي، فيلخصه ابن القيم رحمه الله في أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم تَرُدّه عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعًا يصعب تداركه، والله المستعان(10).

16- أعمال القلوب، وإهمال العناية بها، ودرء أمراض القلوب وإهمال التنبؤ لها، وهذا هو سر عميق علمه من علمه، وجهله من جهله، إذ هناك دقائق وخفايا حري بنا تعلمها والعمل بها أو دونها، قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «فواحسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها، فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية»(11).

وقد قال أحدهم: أجمع العارفون على أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وعبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات، فالعناية بالخشية والرجاء والمحبة وكل أعمال القلوب مطلب، والبعد عن الكِبْر وحب التصدر وطلب الرياسة والعشق والشهوات المضلة وسائر أمراض القلوب مُهم؛ بل ومن ضرورات الثبات، وزيادة الإيمان، ومعرفة الواحد الديان.

17- ضغط بيئة الأسرة، وهم الزوجة والأقرباء، والبيئة المجاورة؛ كالصديق ونحوه، وربما كان منشؤه الغيرة، أو حتى التعتيم الإعلامي السيئ للمصلحين، فيستسلم لهذا الضغوطات ويكون أسيرًا لها، وربما استخدمت تجاهه أصنافًا من الوسائل في سبيل تخليه من قيمه، ولا أدل من قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ حين أرادت أمه أن ينكص من الإسلام، وبذلت حتى روحها في سبيل ذلك؛ ولذا فإن من جاهد نفسه، وواظب على دعوتهم والبعد عن مصادمتهم، وبحث سبل الهداية لهم، بعيدًا عن الانهزامية والتخاذل، سيجد نتائج ربما إيجابية صرفة، قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه132]، وحتى الأصدقاء والزملاء ربما لا يضطر أن يواصل معهم الغدوة والروحة إذا لم يحترموا رأيه، ويقدروا شخصه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(12).

18- ضعف البصيرة بالواقع، وسوء مجاراة برامجه للواقع المعاصر، فنجد البعض لا زال عطاؤه منذ سنين عديدة هو ذات العطاء، وذات المادة والمحتوى، وذات الوسيلة، وربما أسقط التهم وضعف الفائدة في الجديد والمفيد.

19- امتهان شخصية المتربي، وإهمال الحاجات النفسية والعاطفية؛ كالحاجة للحب والتقدير، وإعطاء الثقة في النفس، والبعد عن إشباعها والعناية بها، والعكس صحيح في وجود التدليل والسكوت عن الأخطاء، وإرجاء عمل الحلول لها بهدف تحبيبه وعدم مجابهته مبكرًا، وكل ذلك يُفضي إلى تدهور إيمان المتربي وسقوطه، ولا غرو أن يسجل المربي الأول في ذلك رقمًا سابقًا، عن عثمان رضي الله عنه قال: «إنا، والله، قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناسًا يعلموني به، عسى ألا يكون أحدهم رآه قط»(13).

20- استنزاف الجهود بأعمال يومية وإدارية، دون انجازات جديدة تذكر.

وعلى الداعية أن يحارب كل ما يدفع به وبإخوانه إلى الملل والضجر والسأم، عليهم أن يرفضوا الجمود ويفروا منه، ليواصلوا المسير في درب الارتقاء، وعليهم أن ينتفضوا على روتينية الأعمال؛ خشية إصابتهم بجفاف يخسرون فيه أنفسهم قبل الناس من حولهم.

ويبقى في كتاب الله الزاد والهدى، فالمتأمل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، سيجد أن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة(14).

لذا هي دعوة للتجديد والتطوير وطرق أبواب التغيير بين الحين والآخر، فإن البقاء على الجمود والقديم، والثبات على الوسائل البدائية، ما هي إلا لهواة جمع التحف، وذلك سبب في تخلف العمل الدعوي وفقده لأهم أهدافه.

العلاج المقترح:

1- تربية النفس ومجاهدتها وتزكيتها، وأطرها على الحق أطرًا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته(15)، وهذا يمثل أحد جوانب التزكية عند أفضل الأمة إيمانًا، وقال أنس رضي الله عنه: «سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودخل حائطًا فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله، لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك»، وقال البختري بن حارثة: «دخلت على عابد بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات»(16).

2- الدوام على الطاعة والعمل الصالح، وهو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما تروي أمنا عائشة رضي الله عنها فتقول: «كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يداوم عليه صاحبه»(17)، وهنا لفتة جميلة؛ وهي المداومة؛ لأنها كالزاد للمسافر ليسده في طريقه، وأما الانقطاع عن الطاعات وإهمالها فذلك منفذ خطير على قلب العبد وسلوكه.

3- تتبع قصص السلف، ومعرفة آثارهم وأقوالهم.

4- دراسة ظروف الأفراد كل على حدة؛ للتوصل لمعرفة سبب الملل، فقد يكون سببًا شخصيًا لا علاقة له بأنشطة المؤسسة.

5- تغيير المكان والزمان يساعد على كسر الملل، فإن روتينية الأعمال وألفتها في الحقل الدعوي قد يفقدها أُبَّهتها وجمالها، وإن استهلاك الجهود في الحركة اليومية كفيل بتوجيه العمل الدعوي إلى أسر الركود والجمود والتوقف، وهذا ما بات يشعر به جزء كبير من أبناء العمل الإسلامي، بالإضافة إلى قصور بعض الوسائل والخطط، وفشلها في تحقيق الآمال والطموحات؛ مما يؤدي ذلك إلى انعكاسات سلبية على الدعاة العاملين؛ حيث إن هذه الآفة تجعل صاحبها ينصرف عن الجد والاجتهاد، والحرص والمتابعة، وتحقيق كثير من الطموحات العظام التي يسعى لها كل إنسان؛ بل وإن هذه الظاهرة التي تقود، بتزايدها وتراكمها، إلى اليأس والركود والضعف، وإلى ضعف الإنتاجية وعدم التفاعل مع الأنشطة والفعاليات المختلفة؛ بل والغياب عنها لأبسط الأعذار وأقلها شأنًا لديه.

6- استشعار المسئولية العظمى المناطة بكل مسلم تجاه دينه وأمته، وخصوصًا الشباب الصالح الذي تربى على الخير، واغترف من معين الحق؛ فهو أجدر من يتصدى للنهوض بأمته، ورفع الجهل عنها، ورأب صدعها، ومعالجة عللها وأدواتها، ويزيد من عظم الأمر أن واقع الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ملحة إلى دعاة كثيرين؛ بل إلى استنفار عام من قِبَل كل طالب علم وصاحب غيرة؛ ليؤدي دوره، وبخاصة أن الدعاة الموجودين اليوم لو اجتمعوا في بلد واحد لما سدوا الحاجة القائمة؛ فكيف مع قلتهم وتوزعهم؟

7- معرفة حقارة الدنيا وأنها لا تستحق انصراف القلب إليها وانهماك البدن في الاشتغال بها، وأن قيمتها الحقيقية تكمن في كونها ميدانًا للأعمال الصالحة والجهود المباركة، التي تنفع المرء في آخرته، ومن ذلك العمل الدعوي ونفع الخلق بجميع صور النفع.

8- الثقة بنصر الله، واليقين بوعده، وأنه تعالى يؤيد حملة هذا الدين، ولكن لا بد من الابتلاء، والامتحان، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد:4].

9- إدراك اتساع ميادين الدعوة والعمل لهذا الدين يتيح للجميع فرصة المشاركة، كل فيما يخصه وما أعطاه الله من مواهب وقدرات.

10- فهم أن ابتلاء أصحاب الدعوات سنة ماضية، ولا بد من توطين النفس على التعرض لشيء من الابتلاء القولي وربما الفعلي: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] .

11- التفاؤل في الأعمال الدعوية مطلب، وهو حافز للعمل ودافع إليه، ومع ذلك فلا تفترض سلفًا عدم جدوى شيء من هذه الأعمال، ولا تُصَب بالإحباط حينما لا ترى الثمرة ماثلة للعيان؛ لأنك مطالب ببذل الأسباب، والنتيجة أمرها إلى رب الأرباب، وليس بالضرورة أن يرى المرء ثمرة دعوته وقد يراها غيره، وربما كان الغرس على يده وجنى الثمار على يد غيره.

12- الجدية وعلو الهمة مطلب في حياة الشاب الملتزم: فلا بد من البعد عن مظاهر الكسل والبطالة والإخلاد إلى الراحة؛ بل المبادرة بملء الوقت بمعالي الأمور، من علم وعمل ودعوة، مع إجمام النفس الفينة بعد الأخرى.

قال الشاعر:

وإذا كانت النفوس كبارًا       تعبت في مرادها الأجسام

13- إدراك أن الاشتغال بالجدل والمراء مما يورث قسوة القلب والضغائن بين الناس، ويصمد القلب عن الاشتغال بما ينفع العبد وينفع أمته، فليبتعد المرء عن المراء والجدال، وليشتغل بنشر الخير وتأليف القلوب على الحق.

14- التنقيب عن عيوب الأنام سمة اللئام، وليست من خصال أهل الإسلام، وتزداد قبحًا وسوءًا حينما يصورها الشيطان بأنها من مناصرة الحق وتقويم الخلق، فيصد العبد بذلك عن نشر الخير وإيصاله إلى الناس بتتبع عثراتهم وإبراز عيوبهم، خصوصًا القائمين بالحق منهم، فعلى من كانت هذه سمته أن يتقي الله ويشتغل بعيبه عن عيوب الناس، ويمحض الناس النصح والتوجيه، ويجتهد في إيصال الخير إليها بكل طريق.

15- معرفة الواقع والاطلاع عليه وسيلة وليس غاية في نفسه؛ فإن لم يكن اطلاعك عليه طريقًا إلى القيام بالمسئولية تجاهه وبذل الأسباب في معالجته فلا تعدو أن تكون أقمت الحجة على نفسك، وأعلنت أمام الله والملأ بقلة مبالاتك!!

فاتق الله ولا تجعل الاشتغال بتتبع الأخبار ورصد الواقع غاية في نفسه؛ فتظن أنك بذلك قدمت شيئًا للإسلام؛ بل استثمر ذلك في القيام بما يجب عليك نحوه حسب استطاعتك.

16- التوازن في الأمور مطلب شرعي، فلا يكن اشتغالك بجانب من جوانب الخير سببًا في اشتغالك عن جوانب أخرى ربما كانت واجبة؛ كالدعوة إلى الله تعالى، وليست العبرة في ذلك بالميول القلبية والرغبات النفسية، فالشرع هو الميزان في ترتيب الأولويات وتوزيع الواجبات.

17- مجانبة المتقاعسين والبعد عن مخالطة القاعدين؛ فالمرء على دين خليله، فإذا بُليت بمثل أولئك فكن معهم ببدنك لا بقلبك، ولا تكترث بتثبيطهم، واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به، من غير أن يصيبك الإعجاب بالنفس؛ فالله هو المانُّ عليك بذلك.

18- الإخلاص أعظم الحوافز نحو العمل الدعوي ونفع الخلق؛ لما يرجوه العبد من الثواب ويؤمله من الأجر، كما أنه سبب من أسباب الثبات على الطريق مهما حصل من إخفاقات.

كما أن الإخلاص من عوامل الاستمرار في دعوة الناس مهما أعرضوا؛ لأن المخلص لا يزال يؤمل صلاحهم، كما أنه يرجو الثواب في استمراره في دعوتهم، فلا يضيره إعراضهم.

وكذلك فإن الإخلاص يجعل المرء يرضى بما يناط به من عمل في أي مشروع خيري أو دعوي؛ فهو لا يشترط منصبًا أو مكانًا معينًا إن حصل له وإلا فإنه لا يعمل؛ لأن همَّ المخلص أن يقدم خيرًا لأمته في أي موقع كان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة»(18)، فهمه الجهاد ونصرة هذا الدين، فلا يبالي في أي موقع وُضِعَ، وحيثما وضع نفع؛ وهذا لا يعني ألَّا يسعى المرء إلى أن يقدم لهذا الدين وينفع الأمة من خلال القدرات والمواهب التي يحسنها؛ لكن الكلام هنا في أن المخلص لا يسعى للصدراة والظهور والرئاسة؛ بل هو مجتهد مستجيب لكل ما يناط به مما له قدرة عليه.

19- علم المرء بفضائل وثمرات الدعوة إلى الله من أعظم ما يدفعه نحو الاشتغال بذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال عليه الصلاة والسلام: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَم»(19).

وقال أيضًا: «من دَلَّ على خير فله مثل أجر فاعله»(20)، فكم يكون لك من الأجر إذا كانت الأعداد الكبيرة من الناس تعمل على ضوء ما أرشدتهم إليه! وكم من الأجر يلحقك من آثار ذلك حتى وأنت مفارق للدنيا في قبرك! أسأل الله أن يجعلني وإياك من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر بِمَنِّه وكرمه(21).

20- تشجيع الأفكار الجديدة، ونزع هواجس الخوف من تجريب الجديد.

21- تصفير المشكلات والخلافات لتنقية الأجواء من أية ملوثات معيقة للعمل.

22- دراسة ظروف الأفراد لرصد هذه الظاهرة.

إن التجديد والتجدد والتطوير والتطور سنَّة إلهية لاستمرار الحياة، وبدونها لا تكون حياةٌ ولا استمرار لهذه الحياة، حتى الإسلام، وهو منهج الله تعالى ورسالته الخاتمة، تجري عليه هذه السنَّة، التي هي سبب استمراره وحفظه، والتي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنةٍ مَن يُجدِّد لها دينها»(22).

الإيمان نفسه، الذي يمثل حالة العافية العقديَّة لدى الإنسان، هو يخضع أيضًا لنفس المعادلة، والحديث النبوي يؤكِّد ذلك على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم»(23)، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنادون لتجديد الإيمان.

فالشخص الذي لا يتغير، ويبقى هو نفسه الذي يعطي ويتابع ويدير، بالرغم من تغيُّر المراحل والظروف، سيكون مدعاةً لملل الآخرين منه وملله منهم.

والموجِّه والخطيب والداعية والمرشد الذي لا يقدِّم جديدًا سيكون مُمِلًّا في توجيهه وخطبته وإرشاده، ومثل هؤلاء كمثل الطبيب الذي إن لم يسعَ، دائمًا وباستمرارٍ، إلى زيادة ثقافته الطبيَّة، ومتابعة مستجدَّات المهنة سيصبح تقليديًّا بالتالي، ويعيش على هامش الحياة الطبيَّة، وشأنه كذلك كشأن المهندس والمحامي والصناعي والتاجر والمعلِّم وغيرهم إذا هم رضوا بواقعهم، ولم يعملوا على التجديد والتطوير في إمكاناتهم.

إنَّه لا بد من إعادة النظر في المربِّي، ومنهج التربية، وآلية ووسائل التربية، وفي تغيُّر المكان والزمان، فليست كلها سواء.

وفوق هذا وذاك فمطلوب من المربي أن تكون تربيته بلسان حاله قبل لسان مقاله؛ ذلك أنَّ لسان الحال أوقع من لسان المقال، وصدق علي بن أبي طالبٍ حيث يقول: «من نصَّب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلِّم الناس ومهذبهم»(24).

وهذه المشكلة تعكس حالة الجمود وعدم التجدد في واقع العمل الإسلامي المعاصر، فضلًا عن التخلُّف عن واقع العصر، وعدم الأخذ بالأسباب والإمكانات المتوافرة فيه.

إن السبب الرئيسي لهذه المشكلة يكمن في سوء فهم المقاصد التربوية والدعوية، وبذلك تبقى التربية استفادةً بدون إفادة، كما تبقى الدعوة أخذًا بدون عطاء.

أمَّا المنهج الإسلامي، قرآنًا وسنَّةً وسيرةً وتاريخًا، فيَعتبر العطاء ثمرة الأخذ والتلقِّي، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»(25).

وهل أَدَلّ على هذا المعنى من قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].

وفي ضوء هذا التصوُّر تصبح التربية، كما الدعوة، مفرداتٍ في إطار المشروع الإسلامي، الذي يهدف إلى إصلاح وتغيير الواقع الاجتماعي، كما يصبح لكل فردٍ دوره في هذا المشروع(26).

***

_________________

(1) أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784).

(2) أخرجه البخاري (43).

(3) أخرجه ابن خزيمة (2106).

(4) فيض القدير (4/ 354).

(5) في ظلال القرآن (2/ 712).

(6) نكوص الهداة، موقع: الدرر السنية.

(7) أخرجه البخاري (6421).

(8) أخرجه ابن ماجه (4008).

(9) الفتور الدعوي عند الشباب.. الأسباب والحلول، مجلة البيان (العدد:166).

(10) الجواب الكافي، ص140.

(11) صيد الخاطر (1/ 63).

(12) أخرجه أحمد (8015).

(13) المسند الجامع (12/ 477).

(14) في ظلال القرآن (6/ 3489).

(15) مختصر منهاج القاصدين، ص403.

(16) المرجع السابق.

(17) أخرجه أحمد (25945).

(18) أخرجه البخاري (2886).

(19) أخرجه البخاري (2942).

(20) أخرجه مسلم (1893).

(21) الفتور الدعوي عند الشباب.. الأسباب والحلول، مجلة البيان (العدد:166).

(22) أخرجه أبو داود (4291).

(23) صحيح الجامع (1590).

(24) موارد الظمآن (4/ 43).

(25) أخرجه البخاري (3461).

(26) أسباب ملل الدعاة وفتورهم، المجلس اليمني.