logo

الخلل في مفهوم الوسطيَّة


بتاريخ : الأحد ، 8 ذو القعدة ، 1444 الموافق 28 مايو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
الخلل في مفهوم الوسطيَّة

إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله.. وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة، وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام (1).

فمن الأخطاء العقدية أن بعض الناس إذا رأى المستمسك بدينه، المحافظَ على السنة قال له: لا تشدد وكن وسطًا، وهذا من المفاهيم الخاطئة؛ لأن مؤدَّى ذلك نقد منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة.

يقول الإمام الشاطبي: الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخِذ من الطرفين بقسط لا مَيْل فيه، الداخلِ تحت كسْبِ العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال (2).

وهنا جملة أمور:

أولًا: إن الوسط ورد في القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].

والمعنى: أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم وسط بين الأمم كاليهود والنصارى وغيرهم.

إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..

وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا..

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..

{أُمَّةً وَسَطًا} في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.

{أُمَّةً وَسَطًا} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.

{أُمَّةً وَسَطًا} في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان..

ولكن مزاج من هذا وذاك.

{أُمَّةً وَسَطًا} في الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.

ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.

{أُمَّةً وَسَطًا} في المكان، في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا، وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.

{أُمَّةً وَسَطًا} في الزمان، تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.

وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصيغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها (3).

ثانيًا: أن المتمسكَ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمسك بالوسطية، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها غلوًا ولا تقصيرًا.

أما ما يرد عند عامة الناس ونحوهم من قولهم: كن وسطًا في دينك، فهذا فيه تفصيل، فإن قُصد به ترك السنن وترك التزامها في العبادات والمعاملات واللباس وغيرها، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن الحق إنما هو الالتزام بالسنة.

أما إن وجّه إلى من غلا في السنَّة وجاوز الحد فيها أو قّصَّر، وقيل له: كن وسطًا، فهذا صحيح، لكن له أمثلة خاصة، كمن قال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أتزوج النساء، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم ولأمثالهم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (4).

 ويقابل هؤلاء أولئك الذين يتركون جميع النوافل، نوافل الصلاة والصيام والزكاة والأذكار، ويؤدِّي ذلك إلى تقصيرهم في الفرائض وغيرها، هذا أيضًا مقصّر.

 فالأول قد أفرط في جانب، والثاني قد فرّط وأهمل وقصّر، والوسط هو الصحيح.

ولا شك أنّ الدين الإسلاميّ دين توسّط واعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو فيه ولا جفاء، وشريعته خاتمة الأديان والشرائع السماوية المنزّلة من الله للناس جميعًا في مغارب الأرض ومشارقها حامل دعوتها أشرف المرسلين نبيّه محمد عليه الصلاة والسلام، للقويّ والضعيف، وللذكر والأنثى، وللغني والفقير، وللمريض والصحيح.

الوسطية هي العدل والخيار، وهي أفضل الأمور وأنفعها للناس، كما تعرّف على أنّها الاعتدال في كلّ أمور الحياة ومنهاجها، ومواقفها، وتصرفاتها، فالوسطية ليست مجرد موقف بين التشديد والانحلال بل تعتبر موقفًا سلوكيًا وأخلاقيًا ومنهجًا فكريًا.

شروط الوسطية والاعتدال:

- التوسط والاعتدال يكون بالاستقامة على طاعة الله والخضوع لأوامره ونواهيه، والبعد عن معاصيه باطنًا وظاهرًا دون الغلوّ ولا التقصير ولا الإفراط ولا التفريط.

- التوسّط والاعتدال يكون بلزوم الصراط المستقيم، فالدين الوسط هو الصراط المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، ولا يتردد فيه سالكه ولا يتحيّر، ولا يضل (5).

الوسطية في الاعتقاد:

الوسطية من أبرز ملامح العقيدة الإسلامية؛ إذْ هي موافِقةٌ للحق، ومؤيَّدةٌ بالحقِّ، وهي مناسِبةٌ للفطرة، لا إفراط فيها ولا تفريط، فالعقيدة الإسلامية متوسطة بين إفراط النصارى وتفريط اليهود، وبين غلوِّ النصارى في المسيح وتطرفِّ اليهود في عصيان أنبيائهم، وتنطعِهم في السؤال والجدال؛ وتتجلَّى وسطية الأمة المحمدية في نواحٍ شتى من مسائل الاعتقاد (6).

وأخطر ما يكون الغلو والتأويل والانتحال في العقائد والتصورات؛ لأنَّ فساد العقيدة يؤدي إلى فساد التفكير، ومنه فساد العمل، وقد ظهرت داخل الأمة الإسلامية بعض الفرق انحرفت عن جادة الصواب، وانحرف بها المسار من الطريق الوسط والعدل إلى ذات اليمين وذات الشمال؛ فغلت في الأسماء والصفات بين التعطيل والتمثيل، وبعضها غلت في الصحابة ففضَّلوا البعض، وكفَّروا آخرين، وبعضها تركت العمل واعتمدت على التوكل، وبعضها فعل العكس، وبعضها فصلت الدِّين عن الحياة (7).

وقد جعل اللهُ هذه الأُمَّةَ هي الأُمة الوسط في جميع أبواب الدِّين، فإذا انحرف غيرُها من الأمم إلى أحد الطرفين كانت هي في الوسط، كما كانت وسطًا في باب أسماء الربِّ تعالى وصفاته بين الجهمية والمُعطلة والمُشبهة المُمثلة، وكانت وسطًا في باب الإيمان بالرُّسل بين مَنْ عَبَدَهم، وأشْرَكهم بالله؛ كالنصارى، وبين مَنْ قَتَلَهم، وكذَّبهم، فآمَنوا بهم وصَدَّقوهم وتركوهم من العبودية، وكانت وسطًا في القدر بين الجبرية... وبين القدرية... وكذلك هم وسطٌ في المطاعم والمشارب بين اليهود؛ الذين حُرِّمَت عليهم الطيبات عقوبةً لهم، وبين النصارى؛ الذين يستحِلُّون الخبائث... فأحل الله لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وكذلك لا تجدُ أهلَ الحقِّ دائمًا إلا وسطًا بين طَرَفي الباطل، وأهلُ السُّنة وسطٌ في النِّحل، كما أنَّ المسلمين وسطٌ في الملل (8).

المسألة الثانية: الوسطية في العبادات:

من أبرز سمات الشريعة الإسلامية الوسطية في العبادات والطاعات، فالمتأمل في النصوص -قوليةً وفعلية- يلحظ أنها مليئة بالمنهج الوسط وذلك في نواحٍ شتَّى، ومن أهمها:

أولًا: الوسطية والاعتدال في أداء العبادات: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (9).

إنَّ الذي دعا هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى الاستكثار من العمل الصالح هو ظنُّهم أنَّ الله تعالى غفر لنبيه الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي مقابل ذلك ليس عندهم كثير عمل، فشدَّدوا على أنفسهم في العبادة؛ متأوِّلين بأنهم سَيُدركون السُّنة، فإذا بهم يجانبون سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويخرجون عن الوسطية والتوازن في حياتهم، ولذا جاءهم التوجيه الكريم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له».

قال ابن حجر رحمه الله: فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيدٍ في العبادة، بخلاف غيره، فأعْلَمَهم أنه مع كونه يُبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله، وأتقى من الذين يُشَدِّدون، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ المُشدِّد لا يأمن من المَلَل، بخلاف المُقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخيرُ العملِ ما داوم عليه صاحبُه (10).

وقال ابن تيمية رحمه الله: والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة، في بيان أنَّ سُنَّته؛ التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات، خيرٌ من رهبانية النصارى؛ التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلوِ في العبادات صومًا وصلاةً، وقد خالف هذا؛ بالتأويل، ولعدمِ العلم طائفةٌ من الفقهاء والعُبَّاد (11).

ثانيًا: الوسطية في تطبيق العبادات، والتحذير من الغلو في الدِّين:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته «القط لي حصى» فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول «أمثال هؤلاء، فارموا» ثم قال: «يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (12).

قال ابن تيمية رحمه الله: قوله: «إياكم والغلو في الدين» عامٌّ في جميع أنواع الغلو؛ في الاعتقادات والأعمال. والغلوُّ: هو مجاوزة الحدِّ، بأنْ يُزاد في حَمْدِ الشيءِ أو ذمِّه على ما يستحق ونحو ذلك... وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخلٌ فيه، فالغلو فيه؛ مثل رمي الحجارة الكبار، ونحو ذلك، بناءً على أنه قد بالَغَ في الحصى الصِّغار، ثم علَّلَ ذلك بأنَّ ما أهلك مَنْ كان قبلنا إلا الغلوُّ في الدِّين كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي أنَّ مُجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأنَّ المُشارِك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه أنْ يكون هالكًا (13).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» (14).

قال النووي رحمه الله: فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التَّعمُّق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فَتَر فليقعد حتى يذهب الفتور (15).

ثالثًا: الوسطية في أماكن العبادات:

كانت الأمم المُتقدِّمة لا يصلون إلاَّ في كنائسهم وبِيَعِهم؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: «وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم» (16).

وهذه الوسطية في العبادة في كل جوانبها مما رغب المسلمين في إسلامهم؛ إذ دفع عنهم المللَ، ووافق الفطرة والطبع السهل الميسر، والنفس تهوى ما كان سهلًا ميسرًا، وتمقتُ ما كان صعبًا مُتكلَّفًا، وهذا وجهٌ من وجوه عظمةِ السنة، وهو موافقتُها الفطرةَ، ومراعاتها الطَّبعَ والجبلَّة، فأين لها ذلك، والنبيُّ أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يطَّلع على علم النفس؟! لا سبيلَ إلاَّ أن ذلك كلَّه من لدن حكيم خبير، وهو ربُّ العالمين.

المسألة الثالثة: الوسطية في المعاملات:

توسطت الشريعة الإسلامية في شأن المعاملات؛ سواء كانت عقودًا مالية أو أنكحة، أو أحكامًا وأقضية، أو غيرها مما يتعامل فيه الناس مع بعضهم البعض، وسوف نقتصر هنا على بعض أحكام العلاقات الأُسرية بإيجازٍ شديد؛ للتدليل على هذه الوسطية، ومن أمثلة ذلك:

1- الوسطية في التعامل مع الحائض: جاءت الشريعة الإسلامية بالوسطية في التعامل مع الحائض بين إفراط اليهود؛ الذين يحرِّمون السكن مع الحائض والتعامل معها، وبين تفريطِ النصارى؛ الذين يُبيحون وَطْأَها في تلك الحال، عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه (17).

قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يُجامعون الحُيَّض، فأمر اللهُ بالقصد بين هذين (18).

والقصد: هو التَّوسُّطُ بين الإفراط والتفريط، الموافِقُ للحقِّ، والبعيدُ عن التَّأثُّر بموقف هؤلاء أو هؤلاء، إذْ لا اعتبار لموقفهم في التشريع؛ لأنَّ التشريع الإسلامي لا يأتي ردَّةً لفعلٍ معاكسٍ أو مُغاير، وإنما هو الحكمةُ بعينِها، فمَوقِفُه ابتداءً في كلِّ أحواله وتشريعاته.

وقال ابن تيمية رحمه الله: وقال أولئك -أي: اليهود- النجاسات مغلظة؛ حتى أن الحائض لا يُقعد معها ولا يؤكل معها، وهؤلاء -أي: النصارى- يقولون: ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان، ولا غسل من جنابة، ولا إزالة نجاسة، مع أنَّ المسيح والحواريين كانوا على شريعةِ التوراة (19).

2- الوسطية في الزواج: الشريعة الإسلامية جاءت بالوسطية في شأن الزواج؛ بمراعاتها مصالح العباد في تشريعه، والفطرة البشرية، والتوازن النفسي والاجتماعي، والزواج ميثاق غليظ، مؤكَّد عليه في الشريعة، وتترتب عليه حقوق وواجبات وشروط وأحكام؛ من مرحلة الخِطبة ومروراً بالعقد إلى العشرة الزوجية، وأحكام الزواج وشروطه وأركانه وواجباته وآدابه فيها من الاعتدال والوسطية الشيء الكثير؛ لذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم من سُنَّته المباركة، وأنكر على الرجل الذي لا يُريد الزواج بحجَّة العبادة، قائلًا له: «والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (20).

ويكفي أنْ نعلم أنَّ العزوف عن الزواج هو من فعل بعض رهبان النصارى وبعض طوائفهم الغلاة الذين يُفضِّلون التَّبتُّل على الزواج، ويُحرِّمون الطلاق بعد الزواج، فيضيِّقوا على الناس بذلك، ويُوقعوهم في الحرج (21).

التوسط والاعتدال يكون بالاستقامة على أمر الله تعالى وطاعته:

والاستقامة هي العمل بطاعة الله ظاهرًا وباطنًا، والبعد عن معصية الله ظاهرًا وباطنًا، دون ميل لا إلى إفراط ولا إلى تفريط، لا إلى غلو ولا إلى تقصير.

فقد قال ربنا سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112]، أي: فاستقم كما أمرك ربك في كتابه على اعتقاد الحق، والعمل الصالح، واجتناب المعصية وترك الباطل، أنت ومن معك من المؤمنين، {وَلَا تَطْغَوْا} أي ولا تتجاوزوا ما حَدّ لكم في الاعتقاد والقول والعمل.

روى البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: يا معشر القراء؛ استقيموا فقد سبَقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالًا، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا (22).

وما أخذ قومٌ بالاستقامة إلا صلح حالهم، وزاد على الخير إقبالهم، واطمأنت نفوسهم، وتحقق أمنُهم، وزال الخوف والحزن من قلوبهم، فقد قال ربنا سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30- 32]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].

التوسط والاعتدال إنما يكون بلزوم الصراط المستقيم:

فالدّينُ الوسَط هو الصراط المستقيم، الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف فيه، لا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطًا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] (23).

فمن أراد النجاة فليَسلك الطريق الوسط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط فيه ولا تفريط، وليَحْذرِ الشيطانَ، فإنه لا هَمّ له إلا أن يَصُدّ العباد عن الطريق المستقيم؛ إما بميلهم إلى الإفراط أو إلى التفريط.

فقد قال تعالى عنه في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16- 17].

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: وما أمَرَ الله بأمْرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو.

ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه؛ كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافيَ عن الأمر مُضيّع له، فالغالي فيه مُضَيّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحدّ.

وقد نهى الله عن الغلو بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] (24).

الدّينُ الوسَط هو الطريق الذي سلكه أهل الفضل والشرف، ممن أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين.

قال تعالى مرشدًا عباده إلى طلب الهداية منه في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6- 7].

فمن اقتفى أثر المنعَم عليهم فهو على الطريق الوسط المستقيم، ومن خالفهم في هديهم فقد انحرف عن الطريق المستقيم؛ إما إلى إفراط وإما إلى تفريط، وقد قال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}. [المؤمنون: 74].

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله؛ كأن هذه موعظة مًودّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، فإنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (25).

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة؛ أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم (26).

وقال علي رضي الله عنه: خير الناس هذا النمط الأوسط؛ يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي (27).

مظاهر ومعالم الوسطية في الإسلام:

والحَقّ أنّ كلّ تعاليمِ الإسلام، وأحكامِ الشريعة تحمِل الناسَ على منهج التوسط والاعتدال. ومن أبرز معالم الوسطية والاعتدال:

1- التيسير على الناس والرفق بهم:

والتيسير مقصِدٌ من مقاصد هذا الدين، وصفة عامّة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها، فربنا سبحانه بمنِّه وكرَمِه لم يكلِّف عبادَه بما يشقّ عليهم ويغلبُهم، ولم يُرِدْ بهم العنَتَ والحرَج، بل أنزل دينَه مُيَسّرًا مُطاقًا مستَطاعًا، قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].

فالإسلام دينٌ ميَسّر، ليس فيه ما يُحرج الناسَ، ويُرهِقهم ويُؤذِيهم، وليس فيه تكليفٌ فوق طاقتهم واستطاعتهم، فقد قال سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].

أحكامُ الشرع وتكاليفُ الإسلام تَطبَع في نفس المسلم السماحةَ والبعدَ عن التكلّف والمشقة، والتعلقَ الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحِه وغفرانه، كما قال عز وجل: {لَا يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].

وكل التكاليف في الإسلام نعمة ورحمة وفوز وفلاح؛ فقد قال عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

ومعالمُ اليُسر ومظاهرُ التيسير، جَليّة وواضحة في كتاب ربنا سبحانه، وفي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أصول الدين وفروعه.

أما القرآن الكريم؛ فقد أنزله الله ميسَّرَ التلاوة والحفظ، وميسَّر التدبّر والفهم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال عز وجل: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} [طه: 1- 3].

أما رسولنا وحبيبُنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد بعثه الله رحمةً للعالمين أجمعين، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يُعْنِتُهم ويشقُّ عليهم، يضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: {لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فالإسلام دينٌ يدعو إلى التيسير، وينهى التعسير، يدعو إلى اللين والرفق، وينهى عن الشدة والعنف، يدعو إلى الرحمة، وينهى عن القسوة.

2- الموازنة بين متطلبات الروح والبدن:

فلا ينبغي لأحد أن يَحْرم نفسه مما أحله الله له، بل عليه أن يتقرب إلى الله بفعل المباح، كما يتقرب إليه بفعل المأمور به. والإنسان روح وجسد، للروح حقها، وللبدن حقه، فليعطِ كل ذي حق حقه، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى في قصة قارون مع قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله قال: «فلا تفعل؛ صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقُا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله»، فشددت، فشدد علي قلت: يا رسول الله إني أجد قوة قال: «فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تزد عليه»، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: «نصف الدهر»، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم (28).

3- محبة الخير للناس كافة:

وهذه سمة ظاهرة في هذا الدين، وأصل أصيل في أحكامه وتشريعاته، فخير الناس أنفعهم للناس، ومن تمام الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه، أن يحب الخير للناس كافة، ويسدي المعروف إلى الناس كافة، وأن يتعايش ويتعاون مع الناس كافة، وألاّ يتكبرَ على أحد، ولا يستعلي على أحد، قال ربنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبلغت»، قالوا: بلغ رسول الله، ثم قال: «أي يوم هذا؟» ، قالوا: يوم حرام، ثم قال: «أي شهر هذا؟»، قالوا: شهر حرام، قال: ثم قال: «أي بلد هذا؟» ، قالوا بلد حرام، قال: «فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم»، قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم، أم لا، «كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا؛ أبلغت؟»، قالوا: بلغ رسول الله، قال: «ليبلغ الشاهد الغائب» (29).

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (30).

أن تحبّ لأخيك الخير، وأن تعينه على الخير، وتدله على الخير، وأن تتمنى له من الخير والفوز والفلاح ما تحبه لنفسك.

ومِن محبة الخير لأخيك أن تدعوَ له بدلَ أن تدعوَ عليه، أن تنصحَه بدلَ أن تشتمَه، أن تسترَه بدلَ أن تفضحَه، إن أساء فلا تفضحْه ولا تغتبْه ولا تطعنْ في عِرضه، ولكنْ تنصَحُه وتعلمُه وتُرشِده؛ فالدين النصيحة، ومن ستر مسلمًا ستره الله، والدال على الخير كفاعله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن دعا لأخيه بخيرٍ قال الملَك الموكّل به: آمين ولكَ بمثلٍ (31).

---------

(1) في ظلال القرآن (1/ 129).

(2) الموافقات (2/ 279).

(3) في ظلال القرآن (1/ 130- 131).

(4) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).

(5) مفهوم الوسطية والاعتدال في الإسلام/ موضوع.

(6) الوسطية من أبرز خصائص الأمة، مجلة البيان (العدد: 114).

(7) انظر: الوسطية في السنة النبوية (ص: 208).

(8) مفتاح دار السعادة (2/ 242).

(9) أخرجه البخاري (4776).

(10) فتح الباري (9/ 105).

(11) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 105).

(12) أخرجه ابن ماجه (3029).

(13) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 106).

(14) أخرج البخاري (1150)، ومسلم (784).

(15) شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 73).

(16) أخرجه أحمد (7068).

(17) أخرجه مسلم (302).

(18) تفسير القرطبي، (3/ 81).

(19) مجموع الفتاوى (28/ 610- 611).

(20) أخرجه البخاري (4776).

(21) الوسطية والاعتدال في الشريعة الإسلامية/ موقع الألوكة.

(22) أخرجه البخاري (7282).

(23) أخرجه أحمد (4142).

(24) مدارج السالكين (2/ 465).

(25) أخرجه أبو داود (4607).

(26) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 306).

(27) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 100).

(28) أخرجه البخاري (1975).

(29) أخرجه أحمد (23489).

(30) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).

(31) التوسط والاعتدال مفهوم الوسطية ومعالمها/ منتديات الألوكة.