logo

الرأي العام وكيفية توجيهه


بتاريخ : السبت ، 25 محرّم ، 1437 الموافق 07 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الرأي العام وكيفية توجيهه

الرأي العام الإسلامي سليم العقل، صحيح الفكر، راسخ العقيدة، لا يخدع بالأضاليل، ولا ينقاد بالأباطيل، ولا يلقي لها بالًا، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله.

والرأي العام لا يكون صحيحًا ولا مطمئنًا إليه إلا إذا كان الشعب نفسه على تربية معينة تؤهله؛ فالرأي العام في الإسلام لا بد أن يصدر عن مسلمين عندهم أصالة إسلامية في الفكر والأمانة، ودون ذلك لا يعتبر رأيًا عامًا.

والرأي العام بحاجة إلى قادة؛ وهم الذين يتمتعون بالقدرة التأثيرية على القناعات لدرجة قد تصل إلى تغيير الرؤى والتصورات؛ بحيث تتحكم فيها أو تعدِّلها، ويلعب الإعلام الموجَّه دورًا كبيرًا، بلا شك، في تشكيل الرأي العام.

مراعاة الشريعة للرأي العام:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟»، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة»، فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد(1).

وفي سيرة ابن هشام أن عمر t قال: مُرْ به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال: لا، ولكن أذن بالرحيل، فرحل في ساعة ما كان يرحل فيها، فلقيه أسيد بن حضير، فسأله عن ذلك فأخبره، فقال: فأنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل...

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فقال: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا»...

فكان بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين ينكرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «كيف ترى يا عمر؟، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته»(2).

لقد كان من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضايا العامة حرصه على سمعة الإسلام، وتنزيهه عن الأقوال والأفعال التي قد تسبب تشويهه، أو وصمه بصفات هو منها بريء.

والناس الذين يمكن أن يقولوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، هم من الكفار، وأما المسلمون فلا يعترضون على ما يقوله أو يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أقواله وأفعاله شرع يُتعبَّد به؛ ففي هذا الحديث اعتدَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتفسير الكفار لفعله، وهو ما يؤكد الاعتداد بالرأي العام الصادر من الكفار لو تعلق بذلك جلب مصلحة للمسلمين، أو درء مفسدة عنهم.

ألا ليت هذا البُعد يكون موجودًا في تفكير المسلمين اليوم، وفي طريقة تعاطيهم مع الأحداث التي تموج بها بلادنا، ولكن، للأسف، كثيرًا ما يغيبُ عنا هذا البُعد في كثير من تصرفاتنا؛ بل ربما وصل الأمر إلى تعمد تحدث الناس أن هذا الفريق من المسلمين مضادون لأصحابهم، وراغبون في إسقاطهم(3).

إن المجتمع الإنساني آنذاك وهو يشاهد هذا الدين الجديد، وهذه الدولة الوليدة على أساسه وتشريعاته، فإنهم يرمقون اتجاهات قائدها، ويراقبون قراراتها، إلى الحد الذي سبروا معه تاريخ هذا القائد منذ مولده وطبيعة تعاملاته وأخلاقه.

وفي ضوء ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن الناس من حوله لن يتفهموا سبب الحكم بالإعدام الذي تقضي به الدول نحو من يخونها من رعاياها، فترك ذلك رعايةً لمصلحة أعلى؛ وهي حماية سمعة الرسالة الخاتمة التي كلفه الله بإبلاغها للثقلين.

ولعل من ذلك ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك في مسألة هدم الكعبة وإقامتها على قواعد إبراهيم عليه السلام، فقال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون»(4).

فالناس لحداثة عهدهم بالكفر ربما لا يقبلون نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، ويرون في ذلك عدم تعظيم للكعبة لما استقر في نفوسهم من تعظيم أمر الكعبة، ورغم أن إعادة بنائها على قواعد إبراهيم هو الصواب، إلا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راعى موقف الناس منه، وهو الذي يُعَد ممثلًا للرأي العام؛ بل إن الرأي العام من الممكن اعتباره والاعتداد به، ولو كان من الكفار، إذا كان ذلك مما تتعلق به مصالح المسلمين فيجلب مصلحة أو يدرأُ مفسدة.

وقد وجه الشارع الحكيم المسلمين للاستفادة من الرأي العام في تغيير منكر والقضاء عليه، من غير لجوء إلى عقوبة أو استخدام قوة؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال: «اذهب فاصبر»، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك في الطريق»، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به، وفعل، وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه(5).

فهذا التدبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد فيه إلى صناعة رأي عام رشيد، يضغط لتغيير الواقع السيئ.

وقد راعى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الرأي العام من الأنصار؛ لمَّا وجدوا في أنفسهم شيئًا، عندما أعطى قريشًا والعرب من الغنائم ولم يعطهم شيئًا، فجمعهم، واستمع لمقالتهم، وردَّ عليهم، وطيَّب أنفسهم، ولم يهمل موقفهم، ولم يقل: إني رسول الله، ويجب عليهم التسليم بما حكمتُ، ولو قاله لكان حقًا، لكنه صلى الله عليه وسلم آثر الطريق الأولى، التي فيها مراعاة الرأي العام، والتصرف المناسب حياله.

فعن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.

فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار شيء.

 قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟»، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا؟ قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة»، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجِدَة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم؟»، قالوا: بل الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل، قال: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟»، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل؟ «أما والله، لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوَجَدتُم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألَّفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا(6).

فاستمع الرسول صلى الله عليه وسلم لمقولتهم وأجاب عنها، وأزال ما في نفوسهم، وزاد على ذلك بأن طيب خاطرهم بأجمل العبارات.

وعن عبيد الله بن عبد الله قال: حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فلما كان آخر حجة حجها عمر، فقال عبد الرحمن بمنى: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل قال: إن فلانًا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانًا، فقال عمر: «لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم»، قلت: لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس، يغلبون على مجلسك، فأخاف ألَّا ينزلوها على وجهها، فيطير بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة، دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها، فقال: «والله، لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة»، قال ابن عباس: فقدمنا المدينة، فقال: «إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل آية الرجم»(7).

جاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: «(فيطير بها كل مطير)...؛ أي: يتأول على خلاف وجهها، قلت: معناه ينقلها كل ناقل بالسرعة والانتشار، لا بالتأني والضبط».

تَنَبَّه الصحابة في العهد الأول كما في الحديث، فكان الانتقاء لأهل الرأي والعلم، فجعل الأمر إلى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة، ولم يثار الأمر مع الذي جاءوا من الأمصار المختلفة، فوضع الأمر في نصابه، وبيد أهله؛ حفاظًا على العقول، والدين، والأنفس، والأعراض، والأموال، وضروريات الحياة.

وتتفق خطوات دراسة الرأي العام تمامًا مع خطوات ومراحل البحث الوصفي، من حيث التزامها بخطوات المنهج العلمي؛ وهي تحديد المشكلة، وتحديد المجتمع الذي سيدرس رأيه، أو العينة التي ستكون موضوع الدراسة، وأيضًا تحديد أداة التعرف على الرأي العام، ومن ثم استخلاص النتائج وتنظيمها.

وتستخدم في هذه الدراسات الاستبيانات والمقابلات الشخصية والاتصال الهاتفي، ويختار الباحث لذلك عينة بدقة وعناية، وذلك بغية الوصول إلى معلومات يوثق بها، ونشير إلى الأهمية البالغة لهذه الدراسة بالنسبة للسياسة في المجتمعات الغربية، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعهد غالوب المشهور(8).

المبادئ الإسلامية للرأي العام:

ويتكون الرأي العام في المجتمع الإسلامي نتيجة للإطار الثقافي الذي وضع القرآن الكريم حدوده، وبينته السنة المشرفة، والمبادئ الإسلامية التالية من شأنها أن تبين معالمه:

1- من مبادئ الإسلام أن يرجع المسلم في أموره كلها إلى حكم الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} [الأحزاب:36].

{وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

والصورة التي يرسمها هذا النص هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث، ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال.

وإشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعًا من التراخي، مهما تكن الأوامر باليقظة؛ لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية.

كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكًا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف، وقد تكون كذلك القاضية، وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه، أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معًا.

أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة، واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.

وهكذا كان القرآن يربي؛ فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة، ويعلم نظام الجندية في آية واحدة؛ بل بعض آية، فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلًا مذيعًا له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة، ووسطها يعلم ذلك التعليم(9).

2- من مبادئ الإسلام ألا يتسرع المسلم بالحكم على شيء قبل معرفة حكم الله فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].

فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيًا مع خالقه، تقوى منه وخشية، وحياءً منه وأدبًا(10).

3- حدد الإسلام المصدر الوحيد لتلقي الثقافة، وهو الكتاب والسنة، ولا يجوز للمسلم أن يشوه فكره بثقافة مغايرة، وعلى أولي الأمر في المجتمع الإسلامي أن يحموا أفراد المجتمع من منابع الفكر الغريب المنحرف، حتى لا تقع الأمة في مدارس فكرية مختلفة، فيحصل الانقسام، والفرقة، والتفكك.

وظيفة الرأي العام:

للرأي العام في المجتمع الإسلامي وظائف عديدة، من أهمها:

1- رعاية تطبيق الأحكام الشرعية:

الأمة الإسلامية مخاطبة جميعها بتطبيق الأحكام الشرعية، والخطاب في القرآن في هذا المجال يتناول أَفراد الأمة جميعًا، فقوله تعالى في سورة النور مثلًا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، موجه لكل فرد في الأمة، ونظرًا لأن الأفراد لا يستطيعون القيام بهذه المسئولية متجمعين، فلا بد أن يختاروا من يقوم عنهم بهذه المهمة، وهو الحاكم أو الإمام، فالحاكم في الدولة الإسلامية وكيل الأمة في إقامة أحكام الله المطلوبة منهم جميعًا.

ومن هنا كان للرأي العام سلطانه في دعوة الحكومة لتطبيق أحكام الله تعالى والتقيد بها، وعدم الخروج عنها إلى قوانين وضعية أو مشاريع مستوردة.

يقول الإمام النسفي في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، والخطاب للأئمة؛ لأن إقامة الحد من الدين، وهي على الكل، إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع، فينوب الإمام منابهم.

2- حراسة المبادئ الإسلامية في المجتمع:

وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية ودعاها مجتمعة متعاونة لترفع صوتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومساندة العلماء الذين يقومون بهذه المسئولية، والأمر بالمعروف يعني الأمر بما قرره الكتاب والسنة من مبادئ وقيم وأحكام للمجتمع، والنهي عن المنكر يعني النهي عما نهى عنه الكتاب والسنة من معاصي تعتبر خروجًا عن المبادئ الإسلامية وقيمها.

قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا, وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»(11).

فالرأي العام مدعو هنا للتوجيه وإصلاح الخطأ وإنقاذ نفسه مع إنقاذ المرتكبين للخطأ، إن الحديث الشريف يحذر الجماعة من شعور (اللامبالاة)، وعدم الاهتمام بقضايا الجماعة العامة، بحجة أن الذين يرتكبون الفساد قوم غيرهم.

إن دعوة الرأي العام في المجتمع المسلم ليقف في وجه الانحراف والفساد، ومحاولات الخداع والتمويه تظهر صريحة في حديث النبي الكريم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(12).

ويحذر الإسلام أفراد المجتمع المسلم من الجبن في نصرة الحق، والوقوع في ذلة الجبن والخور أمام رأي الأكثرية الفاسدة.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُحقِّرَن أحدكم نفسه»، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أن عليه مقالًا ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول خشية الناس، فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى»(13).

ويحذر الله الجماعة المسلمة أن يفلت من يدها زمام الأمر فتغلب المعاصي، وتنتشر الفاحشة، فيستحقوا عذاب الله، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث»(14).

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:160]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»(15).

3- والرأي العام في الإسلام حين يخاصم ويقاطع هدفه الإصلاح والعلاج، لا التشهير والهدم، وهذا ما يميزه عن المجتمعات المادية، فالثلاثة الذين خلفوا عن الجهاد بغير عذر، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بمقاطعتهم، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح الرأي العام هذا وسيلة صالحة لإبراز أثر التخلف عن الجهاد على الأمة، وقيام الأمة جميعها بواجب المقاطعة، حتى أقارب المقاطع وزوجه يقاطعونه.

حتى إذا حققت المقاطعة ثمرتها التربوية للمتخلفين خاصة، وللأمة عامة، نزل الحكم من السماء بإنهاء المقاطعة، والتوبة على الذين تخلفوا وتابوا وأنابوا.

قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة:117-118].

إن سلاح المقاطعة يمثل قمة التربية الإيمانية للشخصية المسلمة حين تحب في الله، وتبغض في الله، وتصل في الله، وتقطع في الله، وتحارب في الله، وتسالم في الله.

وإن العقيدة التي توحد رأي أبنائها في إصدار حكم على شخص بمقاطعته؛ لأنه تخلف عن الجهاد أو ج