الداعية وأهل البادية
إن الميزات العظيمة لهذا الدين أنه جاء بالتعامل الحسن، والخلق الحسن، إنه يكفل السعادة للمنتسبين إليه، إنه دين فيه أخذ وعطاء، واجتماعية وتعايش، إنه دين قائم على الاحترام، وإعطاء الحقوق، وهذه قضية غفل عنها كثير من المسلمين، فصار تعامل بعضهم مع بعض فظًا أجوفًا غليظًا، حتى صار كثير منهم يقطع بعضًا، وكثير منهم يظلم بعضًا، وكثير منهم يهجر بعضًا، ولا يوجد في كثير من الأحيان أخلاق إسلامية في التعامل، حقوق ضائعة، وعلاقات متقطعة، وصار الواحد همه في حاله وماله وشأنه، لا يهمه الآخرون.
إن حسن التعامل مع الناس ميزة عظيمة في هذا الدين، فقد جاء هذا الدين بحسن التعامل مع الوالدين، ومع الأقرباء، ومع الأولاد، ومع الجيران، ومع الأيتام، ومع الخدم، ومع الإخوان والأصدقاء، والسائلين والمحتاجين، والجلساء، وكبار السن والعمال، وحتى الحيوانات والبهائم، فما أعظمه من دين جاء بهذا الخلق العظيم، حسن التعامل مع الناس.
وقال الله عز وجل: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، هذه عبارة قرآنية من كلام الرب جل وعلا، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} كم من الناس يمتثلها اليوم؟ كم من الناس يتعاملون بالقول الحسن فيما بينهم؟
الطبيعة البدوية:
والأعراب هم ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، وليست قبائل بعينها، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقل علمًا، قال ابن الجزري: والأعراب ساكنو البادية من العرب، الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، وكذا قال الشوكاني في (فتح القدير).
قال تعالى: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:97].
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفًا ثابتًا متعلقًا بالبدو وبالبداوة، فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفرًا ونفاقًا، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
والجدارة بعدم العلم بما أنزل الله على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم، وما تنشئه في طباعهم من جفوة، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة، وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع، ويرفع من تلك القيم، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية.
وجُفَاة الْأَعْرَاب من حديثي العهد بالإسلام، الذين أساء بعضهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صبر وحلم على جفائهم وغلظتهم معه؛ بل وأحسن إليهم، فكان مثالًا للمعلم والمربي الذي يدرك أحوالهم, وطبيعة بيئتهم وحياتهم المتصفة بالشدة والقسوة، فكان يبين لهم برفق، ويعاملهم بحكمة على قدر عقولهم وتفكيرهم وطبيعتهم؛ بل اتسع حلمه عليهم حتى جاوز العدل إلى الإحسان إليهم، فكان بهم رحيمًا، ولهم محسنًا ومصلحًا.
فما أحوج الأمة الإسلامية الآن في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن إلى المنهج النبوي في الدعوة إلى الله؛ ليكون الداعي على بصيرة بما يدعو، فالدعوة إلى الله تعالى من أشرف الأعمال وأجلها، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
إِن الناظر في أحوال العرب في جاهليتهم، وما فيهم من قسوة الطباع، وقوة العصبية، والتعلق بعبادة الأصنام، وطاعة الجان والكهان، وتقديس التقاليد والعادات، وموروث الآباء والأجداد من غير تأمل ولا برهان، ليعجب كيف تحولت أخلاقها وتبدلت طباعها في وقت وجيز، فصارت أمة ذات علم وحضارة، وأخلاق سامية، وجهاد في سبيل الله لهداية الخلق جميعًا إِلى الهدى والنور، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلًا لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، قال عبد الله بن الزبير: «أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس؛ أي يتجاوز عن أخطائهم وما لا ينبغي من أقوالهم وأفعالهم»(1).
كيفية التعامل مع أهل البادية:
1- تحمل جفوتهم:
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب، منها:
عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن»(2).
«من سكن البادية جفا»؛ أي: غلظ طبعه؛ لقلة مخالطة الناس.
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولًا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى} [يوسف:109].
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يهابون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلونه؛ حتى إنهم لا يطيقون النظر إليه إجلالًا له واحترامًا وتوقيرًا، ويعجبهم الرجل يأتي من البادية لا يستحي أن يسأل عن دينه، فيستفيدون بما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الصحابة ما كانوا يجرءون على أن يسألوا بهذه الأشياء، أما الأعرابي فإنه بما عنده من جفاء وغلظة يجرؤ على أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب، فيتعلمون مما علمه.
عن جابر بن عبد الله أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما المدينة كالكير؛ تنفي خبثها وينصع طيبها»(3).
قال بعض العلماء: كان هذا الأعرابي من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النبي عليه السلام في الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله في الإسلام، فأبى عليه السلام ذلك في الهجرة؛ لأنها عون على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر؛ ولذلك دعا لهم الرسول فقال: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم»(4).
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي، قال: «لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي»(5)؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن؛ مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.
قال الأصحاب: وإنما خص من ذكر؛ لأنهم مشهورون بسماحة النفوس وقلة الطمع، وعلى هذا يكون للموهوب له الرد إن لم يرض الواهب بالبدل.
عن عائشة قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، قالوا: لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟»(6).
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب، حتى بعد الإسلام، فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم، أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم، وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية(7).
وعن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعته؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، فقال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى، قد ابتعته منك»، فطفق الأعرابي، يقول هلم شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد؟»، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين(8).
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن الأعرابي يدعي ملكية الفَرس محل النزاع، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر ما يدعيه الأعرابي، ولكنه صلى الله عليه وسلم دفع دعوى الأعرابي بدعوى مقابلة، وهي انتقال الفرس إليه صلى الله عليه وسلم بطريق الشراء من الأعرابي، وقد أنكر الأعرابي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أثبت صلى الله عليه وسلم صحة دفعه بشهادة خزيمة رضي الله عنه، وهذا ما يعرف بدفع الدعوى.
استعمال الحلم:
وعن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذه جَبْذَة، حتى رأيت صفح أو صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جَبْذَته، فقال: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضَحِك ثم أمر له بعطاء(9).
لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف بين الحلم والصبر على جفاء الأعرابي وغلظته، وبين الإحسان إليه؛ بل أضاف إلى الموقف الابتسامة والضحك.
قال النووي: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه»(10).
«وفيه بيان حلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة من بعده في خلقه الجميل؛ من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن»(11).
الحكمة في معالجة الخطأ:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء، أو قال: ذنوبًا من ماء»(12).
فحِكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هذا الرجل، ورفقه صلى الله عليه وسلم به، وهذا شأنه صلى الله عليه وسلم مع الجاهل، أما المعاند فيختلف التعامل معه.
وتأمل رفقه صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ في مسجده صلى الله عليه وسلم، فلم يزد عليه الصلاة والسلام أن قال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن»(13).
الإحسان وترك المعاقبة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس»، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم(14).
ففي هذا الحديث ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء، والعفو عنه إن أحب، وفيه: صبر الرسول وحلمه وصفحه عن الجهال، وفيه: شجاعته وبأسه وثبات نفسه صلى الله عليه وسلم، ويقينه أن الله ينصره ويظهره على الدين كله(15).
التغافل وليس الغفلة:
عن زيد بن أرقم قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه، فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيًا، فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه، فانتزع حجرًا فغاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي، رأس المنافقين، فأخبره، وكان من أصحابه، فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، يعني الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدًا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده.
ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال زيد: وأنا ردف عمي، فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، قال: فجاء عمي إليّ فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون.
قال: فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال شيئًا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال أبشر! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين»(16).
التأثير القلبي:
وروى المطلب بن حنطب أن أعرابيًا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة؟! قال: «نعم»، فقال الأعرابي: واسوأتاه! مرارًا، ثم قام وهو يقولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان»(17).
وعن زيد بن أسلم أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني مما علمك الله، فدفعه إلى رجل يعلمه، فعلمه إذا زلزلت، حتى إذا بلغ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، قال: حسبي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوه فإنه قد فقه»(18).
قال الأصمعي: «كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله، قال أعد، فأعدت: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ثم تنبهت فقلت: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: الآن أصبت، فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا، عزيز حكيم فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع»(19).
الأعرابي الذي سئل: «لماذا آمنت بمحمد»، فقال: «ما رأيت محمدًا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدًا يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول افعل»(20).
البشارة بالخير:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟، فقال له: «أبشر»، فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: «ردَّ البشرى، فاقبلا أنتما»، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة(21).
قال النووي في الحديث: «وفيه استحباب البشارة، واستحباب الازدحام فيما يتبرك به وطلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه»(22).
الإشعار بالأمن والاطمئنان:
وعن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنه بينما يسير هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقفله من حنين، فَعَلِقَهُ الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذابًا ولا جبانًا»(23).
قال المهلب: «فيه أن الرئيس قد يشجع في بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوة، وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكن النبي لما رأى الفزع المستولى علم أنه ليس يكاد بما أخبره الله في قوله: {واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله؛ فلذلك أمن صلى الله عليه وسلم فزعهم باستبراء الصيحة، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغي له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه»(24).
قال ابن حجر في هذه الأحاديث وفي معناها: «ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود، والصبر على جفاة الأعراب»(25).
حلمه مثل سنا الشمس وهل لسنا الشمس يُرى من جاحد
مراعاة المصلحة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: فلما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله، إن هذه القسمة ما عُدِل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصِرف (صبغ أحمر)، ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!»، قال: ثم قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثًا(26).
يقول ابن القيم: «ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله، يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولعمر الله، إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله»(27).
الوفاء بالوعد:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورًا من أعرابي بوسق من تمر الذّخيرة (العجوة)، فجاء منزله فالتمس التمر فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: «عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذّخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده»، فقال الأعرابي: واغدراه، واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا، فقال: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا»، فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثًا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: «اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية، فقل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لك: إن كان عندك وسق من تمر الذّخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى»، فذهب إليها الرجل ثم رجع قال: قالت: نعم، هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: «اذهب فأوفه الذي له»، فذهب فأوفاه الذي له، قال فمرَّ الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرًا، فقد أوفيْتَ وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك خيار الناس الْمُوفُونَ الْمُطَيِّبُون» (الذين طيب الله أوصافهم)(28).
ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خُلُقًا مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عظيم أخلاقه وجميل صفاته، التي ظهرت في مواقفه مع الأعراب وغيرهم، حلمه على من جهل عليه، وعفوه عمن ظلمه، وإحسانه مع من أساء إليه، امتثالًا لقول الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
يعفو ويصفح قادرًا عمَّن جَنى عملًا بقول الله فاعف واصفح
التعليم والتفهيم:
عن ميمون بن مهران أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال: «قتلت صيدًا وأنا محرم، فما ترى علي من الجزاء؟»، فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: «ما ترى فيما قال؟»، فقال الأعرابي: «أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟»، فقال أبو بكر: «وما تنكر؟ يقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به»(29).
لقد وصف الله تعالى الأعراب أوصافًا ثلاثة:
أحدها: بالكفر والنفاق.
والثاني: بأنه يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر.
والثالث: بالإيمان بالله وباليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول.
قال الأصمعي: «أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدًا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل علي منه شيئًا، فقرأت: {وَالذَارِيَاتِ ذَرْوًا} إلى قوله: {وَفِي السَمَاءِ رِزْقُكُمْ}، فقال: يا أصمعي، حسبك!! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل، وولى نحو البادية وهو يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام، فقرأت: {والذاريات} حتى وصلت إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقًا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23]، قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثًا وخرجت بها نفسه»(30).
عن يوسف بن مَاهَك قال: «جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام، قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93]، قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، فجعل لله عليه إن شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا، قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم»(31).
عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم (نهاوند)، فقال الأعرابي: والله، إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني! فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله، ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله ورسوله: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ} [التوبة:97](32).
***
______________
(1) صحيح الأثر وجميل العبر، ص44.
(2) أخرجه أبو داود (2859).
(3) أخرجه البخاري (7211)، ومسلم (1383).
(4) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (4/ 552).
(5) أخرجه الترمذي (3945).
(6) أخرجه مسلم (2317).
(7) في ظلال القرآن (3/1700).
(8) أخرجه أبو داود (3607).
(9) أخرجه البخاري (3149).
(10) شرح النووي على صحيح مسلم (7/147).
(11) عمدة القاري (21/312).
(12) أخرجه أبو داود (380).
(13) أخرجه مسلم (285).
(14) أخرجه البخاري (4134).
(15) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (5/101).
(16)أخرجه الترمذي (3313).
(17)الدر المنثور (6/ 381).
(18)تفسير القرطبي (20/153).
(19)تفسير الرازي (11/357).
(20) زهرة التفاسير (3/1343).
(21)رواه البخاري (4328).
(22) شرح النووي على صحيح مسلم (12/59).
(23) أخرجه البخاري (2821).
(24) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (5/ 33).
(25) فتح الباري (6/254).
(26) أخرجه مسلم (1062).
(27) زاد المعاد (2/425).
(28) سبل الهدى والرشاد (2/ 20).
(29) تفسير ابن كثير (3/193).
(30) تفسير القرطبي (17/42).
(31) تفسير الطبري (6/ 11).
(32) في ظلال القرآن (3/ 1700).