logo

الدين النصيحة


بتاريخ : السبت ، 1 ربيع الأول ، 1437 الموافق 12 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدين النصيحة

عن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»(1).

وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»(2).

هذا الحديث العظيم الجليل يدل على عظم شأن النصيحة، وأنها الدين؛ لأن المسلمين متى تناصحوا فيما بينهم، وتعاونوا على البر والتقوى، وتواصوا بالحق والصبر عليه استقام أمرهم، وعلا شأنهم، واتحدت كلمتهم وصفهم، ونصرهم الله على عدوهم، ومتى تخاذلوا، وغش بعضهم بعضًا، وخان بعضهم بعضًا؛ تفرقت الكلمة، وتكدرت القلوب، وحصل التباغض والفرقة والاختلاف، ولهذا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النصيحة فقال: «الدين النصيحة».

والنصيحة هي الإخلاص في الأمور، وعدم الغش فيها والخيانة، أن يكون كل واحد ناصحًا في أعماله كلها؛ ناصحًا في عمله لله، وفي عمله في كتاب الله، وفي عمله مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي عمله مع الأئمة والقادة، وفي عمله مع العامة، هكذا يكون المؤمن ناصحًا أينما كان، وفي أي عمل كان.

الدين النصيحة، يقال: ذهبٌ ناصح؛ أي: خالص ليس فيه غش، ويقال: عسل ناصح؛ أي: مصفي ليس فيه شيء من الغش ولا من الشمع، فالمعنى: الدين الإخلاص والصدق والصفا في كل شيء من أمور العبد مع ربه، ومع القرآن، ومع السنة، ومع العامة، ومع الخاصة(3).

فالنصح: قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله، وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار، ويكون بالعمل؛ كقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91].

وفي قوله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]، المراد بالنصح هنا هو ما سماه قومه بالجدال؛ أي: هو أولى بأن يسمى نصحًا؛ لأن الجدال يكون للخير والشر(4).

إن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، ألا ترى أن رسول الله بايع جريرًا على النصح، كما بايعه على الصلاة والزكاة، سوى بينهما في البيعة؟

وقد جاء عن الرسول أنه سمى النصيحة دينًا على لفظ الترجمة.

والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، وأما إن خشي الأذى فهو في سعة منها(5).

قال الإمام الخطابي رحمه الله: «النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له»، قال: «ويقال هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه».

قال: «وقيل النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح، فيما يتحراه من صلاح المنصوح له، بما يسده من خلل الثوب، قال: وقيل إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط».

قال: «ومعنى الحديث عماد الدين وقوامه النصيحة؛ كقوله: «الحج عرفة»، أي عماده ومعظمه عرفة»(6).

قوله: «الدين النصيحة» فيه دلالة صريحة على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان، كما فسر الدين بذلك في حديث جبريل المشهور، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء الفرائض واجتناب المحرمات، ويستلزم ذلك الاجتهاد بالتقرب إليه بنوافل الطاعات وترك المكروهات، والنصيحة لغة: الخلوص من الشوائب، واصطلاحًا: قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلًا، والنصيحة ضربان:

1- نصيحة واجبة لله، باتباع محبة الله في أداء الفرائض وترك المحرمات.

2- نصيحة مستحبة، بإيثار محبة الله على محبة نفسه في فعل المسنونات واجتناب المكروهات(7).

وأما تفسير النصيحة قالوا: أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعادة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها، والتلطف في جميع الناس، أو من أمكن منهم عليها(8).

قال الخطابي رحمه الله: «وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح».

فالنصيحة لله صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، وتنزيهه عن جميع النقائص والعيوب، وإثبات أسمائه وصفاته على الوجه اللائق به وتوحيده في أفعاله وأفعال الخلق بالتأله له، وعدم الإشراك به أحدًا من خلقه، وتحكيم شرعه، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه، والبغض فيه، وتعظيمه، وخشيته، ورجاؤه، ومحبته، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه، وشكره عليها.

«وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى؛ فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه، وتعظيم أهله وإلى ما ذكرناه من نصيحته.

وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابها إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك»(9).

وقال الآجري: «والنصيحة لرسول الله على وجهين: فنصيحة من صَاحَبَهُ وشاهده، ونصيحة من لم يره، فأما صحابته، فإن الله شرط عليهم أن يعزروه ويوقروه وينصروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كل مسلم، فَوَفُّوا بذلك وأثنى الله عليهم به.

وأما نصيحة من لم يره فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها، ويعلموا الناس شريعته ودينه، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، وعدم إطرائه والغلو في محبته ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

وأما النصيحة لأئمة المسلمين: المراد بأئمة المسلمين الذين تلزم طاعتهم الحكام ومن ينوب عنهم في الولايات والعلماء الربانيون، أهل الحل والعقد الذين شهدت لهم الأمة بالإمامة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، قال ابن عباس: «هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم»، وقال أبو هريرة: «هم الأمراء والولاة»، قال ابن كثير: «والظاهر، والله أعلم، أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء».

وقد قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة:63] وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني»(10)، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء(11).

فهي على قدر الجاه والمنزلة عندهم، فإذا أمن من ضرهم فعليه أن ينصحهم، فإذا خشي على نفسه فحسبه أن يغير بقلبه، وإن علم أنه لا يقدر على نصحهم فلا يدخل عليهم، فإنه يغشهم، ويزيدهم فتنة، ويذهب دينه معهم.

وقد قال الفضيل بن عياض: «ربما دخل العالم على الملك ومعه شيء من دينه فيخرج وليس معه شيء»، قيل له: «وكيف ذلك؟»، قال: «يصدقه في كذبه، ويمدحه في وجهه».

عن كعب بن عجرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنها ستكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ويعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض»(12).

قال الخطابي: «وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم».

قال الخطابي رحمه الله: «ومن ا