خصائص الخطاب الديني
الخطاب هو المحاورة والمحادثة بين طرفين، ونسبته للدين يقصد فيها الخطاب الذي يعتمد على مرجعية دينية في مخاطبته وأحكامه وبياناته، والخطاب الديني هو ما يطرحه العلماء والدعاة والمنتمون إلى المؤسسات الإسلامية في بيان الإسلام والشريعة؛ سواء كان ذلك من خلال الخطب أو المحاضرات أو التأليف، أو البرامج الإعلامية الأخرى، وقد يدخل في ذلك المناهج الدراسية الدينية في المدارس والجامعات الشرعية، بل يمكن أن يوسع مفهوم الخطاب الديني ليشمل النشاط الإسلامي والنشاط الدعوي، وعمل الجماعات الإسلامية والمؤسسات الإسلامية بشكل عام؛ الفقهي منها والعلمي والدعوي والتربوي.
فالخطاب الديني هو البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين؛ لدعوتهم إلى الإسلام، أو تعليمه لهم، أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكرًا وسلوكًا، لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم فرديًا أو اجتماعيًا، روحيًا أو ماديًا، نظرية أو عملية.
ويتميز الخطاب الديني الإسلامي عن غيره من الخطابات الدينية الأخرى بعدة خصائص، بل إنه يتفرد بشكل واضح بمعالمه الخاصة، فهو خطاب عالمي لمخاطبة البشرية جمعاء، بغض النظر عن أعراقهم وأجناسهم وألوانهم واختلاف ألسنتهم، فهو جاء للناس كافة، كما أنه شامل لجميع مناحي الحياة المتعلقة بتنظيم العلاقات بين الناس، ويحقق الطمأنينة والسعادة والاستقرار والأمن في الحياة الانسانية، وإذا أقام المؤمنون الدين في الحياة كانوا هم المستخلفين في الأرض، وكان لهم التمكين كما كان لأسلافهم، ويتحقق لهم الأمن.
وهناك فرق بين الخطاب الديني والوحي المنـزل، بمعنى أن الخطاب الديني يعتمد على الوحي في كثير من الحالات، لكنه يبقى في حدود العمل العقلي البشري، أو العمل الاجتهادي الذي يرتبط بإمكانيات الإنسان وقدراته وطاقته، فهو مثل خطاب الفقهاء والوعاظ والمصلحين الذي يمثل اجتهادًا من عندهم.
إن تجديد هذا الخطاب ضرورة فطرية وبشرية؛ لأن هذا الخطاب الديني الحالي مفكك وفردي؛ بينما يشهد العالم تجمعات وتطورات هائلة في مجال التقنية والمعلومات والاختراعات، وأعتقد بأن أية نهضة أو تنمية في العالم الإسلامي التي ينادي بها المخلصون من دعاة الإصلاح إن لم تصدر من مفهوم ديني فهي محكوم عليها بالفشل، فلا بد من خطاب ديني واع ومعاصر ومنضبط، يستطيع أن يضع هذه النهضة، ويساعد عليها، ويدفعها لإخراج الأمة من هذا التيه.
إن هذا التجديد الحي قراءة واعية واعدة للنفس والآخر والواقع، وقراءة قادرة على إيجاد الحلول الشرعية المناسبة لمشكلات الواقع.
إنه لا مناص من التجديد، وإذا لم نؤمن بذلك فأمامنا خياران:
الأول: الجمود؛ ويعني ذلك الإطاحة بحق الحياة وسحقها في عصر تكتنفه الحركة الثائرة من كل جهة.
والثاني: الذوبان، وذلك معناه الإطاحة بحق الدين والشريعة والثقافة والتراث.
إن هذا التجديد يجب أن يكون بأيدي رجالات الإسلام، وعن طريق المتخصصين الإسلاميين، ولا أقول بالضرورة: الفقهاء، وإنما المختصون على العموم، ويجب أن تكون أدوات هذا التجديد ووسائله داخلية، تلمس مشاعره، وتتحدث من داخل إطاره، وعلينا أن نتفق على الضرورات والقواعد الشرعية والمحكمات الدينية الثابتة، كما يسميها ابن تيمية (الدين الجامع).
ماهية التجديد:
أما ماهية هذا التجديد فترتيبٌ لسلّم الأوليات، وتنظيم للأهم والمقاصد الكبرى للعلم والدعوة والإصلاح، واتفاق على ذلك، وتسهيل تطبيق ذلك، وتوجيهه في أرض الواقع، وإبراز لجانب القيم والأخلاق الإسلامية الإنسانية العامة التي يحتاج إليها الناس كلهم دون استثناء، وتطبيع قيم العدل التي يأمرنا بها الإسلام تجاه الخلق كلهم، ومعاملة الناس كلهم بالحسنى، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، قال ابن عباس: اليهودي والنصراني.
والتجديد يعني العناية بالنظريات العامة في الإسلام مثل النظريات السياسية والاجتماعية والفقهية الفرعية والأصولية، ودعم المشاريع العلمية التي تصل تراث الأمة بهذا العصر وتضيف إليها تراكمًا علميًا ومعرفيًا.
إن على دعاة التجديد أن ينتقلوا من ضيق الرأي والمذهب والجماعة إلى سعة الشريعة، مع أهمية هذه كلها في العلم الإسلامي والديني، ولكنني أدعو إلى الاعتصام بسعة الشريعة وبحبوحتها لتجديد الاجتهاد الإسلامي وتيسيره، يقول جل وعلا: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم} [النساء: 83] (1).
والتجديد ليس معناه تغيير معالم الدين، فالتجديد هو تجديد لأمر الدين ومكانته وليس تجديدًا للدين نفسه، فالدين في أصوله وكلياته العقائدية والتعبدية والأخلاقية والشرعية لا يتغير؛ ولكن الذي قد يتجدد هو أسلوب تعليمه والدعوة إليه لا محتوى هذا التعليم.
يقول القرضاوي: إذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائه قد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، والفتوى تتعلق بأحكام الشرع؛ فإن تغير الدعوى والخطاب أحق وأولى، فما يقال للمسلمين غير ما يقال لغير المسلمين، وما يقال للمسلم الحديث عهد بالإسلام غير ما يقال للمسلم الغير حديث عهد بالإسلام .... وما يقال للناس في قرية من قرى الخليج أو صعيد مصر أو ريف باكستان غير ما يقال للناس عبر قنوات الفضاء ويشاهده ويسمعه العالم، لا شك أن هناك أقدارًا مشتركة تقال للجميع ويخاطب بها الجميع؛ ولكن يبقى هنا خصوصية لكل فئة توجب على العالم والداعية أن يوجه لها خطابًا خاصًا يجيب عن تساؤلاتها ويحل مشكلاتها ويرد على شبهاتها.
يقول: وأقوى دليل على تغير الخطاب بتغير موجباته وتغير ملابساته هو القرآن ذاته، فموضوعات القرآن المكي تختلف عن موضوعات القرآن المدني، وأسلوبهما يختلف، ومن الأدلة على تطوير الخطاب ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (2).
إن التجديد المطلوب لا يمس الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان، من العقائد والعبادات وأصول الفضائل والرذائل والأحكام القطعية في ثبوتها ودلالاتها .... لا يمس الجديد هذه الثوابت إلا من جهة أسلوب عرضها، أما غير الثوابت فهي التي يدخلها الاجتهاد والتجديد، وهي معترك لأفهام أهل العلم الأصلاء، ففيها مجال للاجتهاد الجزئي والكلي، والاجتهاد المقيد والاجتهاد المطلق، والاجتهاد الانتقائي والاجتهاد الإنشائي (3).
أما المسيري فيرى أن هناك نوعين من الخطاب قد مرا بالساحة الإسلامية المعاصرة، خطاب قديم وخطاب حديث، وهو هنا يقسم النوعين طبقًا لتعاملهما مع الحضارة الغربية:
يقول المسيري: هناك خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي القديم، وظهر خطاب آخر كان هامشيًا، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي الجديد.
ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية، فرؤية القرضاوي إذن تقوم على إمكانية تحديث الخطاب الديني من عصر إلى آخر بغير المساس بثوابته، أما رؤية المسيري فهي ارتباط هذا الخطاب بالحضارة الغربية.
ويقسم المسيري الخطاب الإسلامي من حيث القائمين به إلى ثلاثة أصناف:
الخطاب الجماهيري الشعبي؛ وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، هذه الجماهير تحاول التمسك والتشبث بالإسلام (فهي تعرفه جيدًا) إلى أن يأتي الله بالفرج؛ فهي تتحرك بموروثها الإسلامي، وتستغيث في الوقت نفسه من خلال هبَّات تلقائية غاضبة ضد أشكال التغريب المتطرف والغزو الاستعماري تارة، وتارة أخرى من خلال فعل الخير الفردي (إعطاء الصدقات)، والاجتماعي (تأسيس مساجد ومستشفيات ومدارس وموائد الرحمن… إلخ).
والخطاب السياسي؛ وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة من المهنيين والأكاديميين وطلبة الجامعات والتجار، ممن شعروا –أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة، وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف.
والخطاب الفكري، وهو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الحركة الإسلامية.
يقول الدكتور المسيري: وهذا التقسيم لا يعني انفصال مستويات الخطاب الثلاثة؛ فالخطاب الجماهيري والسياسي متداخلان، وقل الشيء نفسه عن الخطابين السياسي والفكري، ورغم انفصال الخطاب الجماهيري عن الخطاب الفكري إلا أن تداخلًا يحدث بينهما من خلال الخطاب السياسي وهكذا (4).
سمات الخطاب الإسلامي:
رؤية الدكتور المسيري لسمات الخطاب الإسلامي:
الموقف من الحداثة الغربية هو نقطة الانطلاق الأساسية التي تتفرع عنها كل السمات الأخرى عند الدكتور عبد الوهاب المسيري، والتي يمكن أن نوجزها فيما يلي: أنه يراه ليس اعتذاريًا، وما يرفضه الخطاب الإسلامي في واقع الأمر هو المركزية والعالمية التي يضفيها الغرب على نفسه.
كما يرفض الخطاب الإسلامي الإمبريالية الغربية، وعمليات النهب والقمع التي قام بها في الماضي، والتي تأخذ أشكالًا جديدة في الحاضر لا تقل ضراوة عن سابقتها، وهو يرفض الجوانب السلبية في الحداثة الغربية، ويدرك أزمتها تمام الإدراك.
وهو خطاب جذري توليدي استكشافي، فهو يبدأ من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة، باختصار شديد: الخطاب الجديد –انطلاقًا من أرضية إسلامية- يفتح باب الاجتهاد بالنسبة للمنظومة الغربية والموروث الثقافي الإسلامي.
وهو خطاب يصدر عن رؤية معرفية شاملة، ويتسم بأنه بالضرورة خطاب شامل، فهو يتعامل مع كل من اليومي والمباشر والسياسي والكلي والنهائي؛ أي أن الخطاب الإسلامي الجديد يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة: أخلاقية وسياسية واقتصادية وجمالية، فهو منظومة إسلامية شاملة تفكر في المعمار والزواج والاقتصاد، وبناء المدن والقانون ،وفي كيفية التحلي والتفكير، وفي توليد مقولات تحليلية مستقلة، ولذا فالخطاب الإسلامي الجديد لا يقدم خطابًا للمسلمين فحسب؛ وإنما لكل الناس، حلًا لمشاكل العالم الحديث، تمامًا مثلما كان الخطاب الإسلامي أيام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهو خطاب قادر على الاستفادة من الحضارة الغربية؛ فمقولات مثل: العدل الطبقي، وضرورة التوزيع العادل للثروة، وقضية المرأة، وأثر البيئة على تشكيل شخصية الإنسان: هي قضايا كانت مطروحة داخل المنظومة الإسلامية، ولكن حساسية الخطاب الجديد وإداركه المتعمق لها ازداد من خلال احتكاكه بالحداثة الغربية.
كما أن حملة الخطاب لا مانع عندهم من الاستفادة بهذه الحداثة في اكتشاف آليات الحلول أو حتى الحلول ذاتها، طالما أنها لا تتناقض مع النموذج الإسلامي.، وهو كذلك خطاب يحرص على أسلمة المعرفة الإنسانية:
إذ يدرك الخطاب الإسلامي أن العلوم الإنسانية ليست علومًا دقيقة عالمية محايدة (كما يدعي البعض)، وأنها تحتوي على تحيّزات إنسانية عديدة تختلف بشكل جوهري عن العلوم الطبيعية.
ولذا فالخطاب الإسلامي يحاول أن يؤسس علومًا إنسانية لا تستبعد الإنسان، ومن ثم فهي مختلفة في منطلقاتها وطموحاتها ومعاييرها عن العلوم الطبيعية، ولا نزعم أنها محايدة منفصلة عن القيمة، بل تعبّر عن المنظومة القيمية الإسلامية (وهذه هي إسلامية المعرفة).
وهو كذلك خطاب يميز بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية، فمثلًا: في حالة انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة في الغرب يحاول الخطاب الإسلامي الاستفادة من العلم والتكنولوجيا، وكل ثمرات الحضارة الغربية النافعة؛ دون أن يتبنى رؤيتها للكون والقيم، بحيث يمكن مزاوجة الرؤية العلمية الحيادية والمنظومة القيمية الإسلامية.
وهو خطاب يعمل على تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية، فهو مدرك تمامًا لمشكلة البيئة، ولعل من أهم القضايا التي تشغل الخطاب الجديد هي نظرية التنمية؛ فالخطاب الجديد يرى أن نظريات التنمية الإسلامية لا بد أن تكون مختلفة جذريًا عن نظريات التنمية الغربية التي تروج لها المنظمات التي يقال لها دولية، والتي أثبتت فشلها في الممارسة، والتي أدت إلى الأزمة البيئية.
والخطاب الإسلامي يدرك القضية الفلسفية الأساسية في العالم الحديث، وهي قضية النسبية المعرفية التي تؤدي إلى العدمية، وهو يطرح في مقابلها ما أسماه (النسبية الإسلامية).
ويؤمن كذلك بالحركة والتدافع كأساس للحياة، وأن العالم ليس في حالة جمود؛ وإنما هو في حالة حركة، والتدافع ليس بالضرورة الصراع، حتى إن أخذ هذا الشكل أحيانًا، وثمة إيمان -أيضًا- بفكرة التداول، وقبول التعايش مع الآخر واكتشاف الرقعة المشتركة معه، ومن هنا ظهر فقه الأقليات الحديث، سواء الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية أو الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، وهذا الفقه يصدر عن مفاهيم العدل والمساواة في الإسلام، في إطار الأحكام الشرعية المقبولة (5).
وهو خطاب قادر على الرؤية المتكاملة للشريعة وإنزالها على الواقع المعاصر، فالخطاب الإسلامي في المجتمعات الإسلامية التقليدية هو الشريعة.
فالشريعة لا تزال هي الخطاب الإسلامي القديم والجديد، ولكن الخطاب الجديد يحاول أن يحل ما خفي من هذا المصطلح، بحيث يمكن استخلاص الحكمة الكامنة فيه وإنزالها إلى الواقع المعاصر، ومثل هذا الاجتهاد سيساعدنا على زيادة المقدرة التوليدية للمنظومة الفقهية، كما سيساعد المسلمين على ترسيخ أقدامهم على أرضيتهم العقائدية.
وهو خطاب قادر على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه، هذا النموذج يأخذ شكل هرم على قمته شهادة أن لا إله إلا الله، تليها القيم الأساسية، ثم تأتي بعد ذلك الأحكام الجزئية المختلفة، ومن ثم يمكن توسيع نطاق الاجتهاد دون خوف كبير من الزلل؛ إذ أن الاجتهاد سيتم في إطار النموذج المعرفي الهرمي الذي تم استخلاصه (عبر الاجتهادات المستمرة) من القرآن والسنة، وهذا النموذج سيكون هو وحده المعيار الذي يتم من خلاله إصدار الأحكام.
رؤية القرضاوي لسمات الخطاب الإسلامي:
تعتمد رؤية القرضاوى للخطاب الدينى على مفهوم الوسطية التي جعلها المحور الأساسي لسمات الخطاب الإسلامي من وجهة نظره، فهو يقول: إن خصائص هذا الخطاب: أنه، يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسان، فهو يحرص على العقيدة وأيضًا يراعي فطرة الإنسان وغرائزه، ويعمل على تصريفها في الحلال، ويشرع الاستمتاع بالزينة والطيبات في غير إسراف ولا اعتداء، ويرعى كرامة الإنسان حيًا وميتًا، ويرعى حرمة دمه وماله وعرضه، ويحرم الظلم والتفرقة العنصرية بين الناس على أي أساس غير التقوى.
كذلك فإن هذا الخطاب يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل، فالإسلام يحترم العقل لأننا به نفهم خطاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبه نعرف الكون والحياة.
كذلك فهو خطاب يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية، ذلك أن الإنسان كائن مزدوج؛ فالجانب الروحي يشمل الإيمان والعبادة والتقوى وفعل الخيرات، والجانب المادي يشمل عمارة الدنيا بالمباح والتمتع بالمال المباح والاستمتاع بالطيبات.
وهو خطاب يعني بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية، فمنظومة الأخلاق الإسلامية منظومة شاملة كاملة، والإسلام لا يقبل الفلسفة القائلة إن الغاية تبرر الوسيلة، ومثل المسلمين في أخلاقهم هو نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وهو خطاب يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة كما يدعو إلى التسامح والحب، فالمسلم لا يساوم على دينه ولا يتهاون فيه بحال، ولا يبيعه بمثل الدنيا وما فيها، ويصبر عليه حتى يلقى ربه، وهو يدعو إلى التسامح مع المخالفين، ويدعوهم إلى الإسلام، ويبذل وسعه في الدعوة إلى الإسلام.
وهو خطاب يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع، فالإسلام ينشد الفرد المثالي ولكنه يعترف بقدرة الإنسان وضعفه وإمكانية وقوعه في الخطأ.
وهو خطاب يدعو إلى الجد ولا ينسى الترويح، فالمسلم لا بد له في أحيان أن يستريح إذا تعب ويسعد إذا مل.
وهو خطاب يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة، فلا يتقوقع على الماضي وحده ولا يعيش في الكتب القديمة وحدها؛ ولكن الحياة تتطور، فهو ابن زمانه ومكانه وبيئته، وهذا التجديد لا يعني التنكر للقديم، وهذه المرونة لا تعني التنكر للثوابت، ولكن هناك ثباتًا للأهداف وتطورًا للوسائل.
وهو خطاب يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوى، وهو يرجح التيسير على التعسير في الفقه؛ لأن الشريعة مبناها على اليسر، ولأن الناس في عصرنا أحوج ما يكونوا إلى اليسر، وهو خطاب ينصف المرأة ولا يجور على الرجل، ويثبت حقوق الأكثرية ولا يجور على الأقلية (6).
الخطاب الإسلامي والاجتهاد:
فمن خصائص خطابنا الإسلامي في عصرنا هذا أنه ينادى بالاجتهاد في فهم الشريعة؛ جزئيًا وكليا، انتقائيًا وإنشائيًا، بوصفه طريقًا شرعه الإسلام لاستنباط الأحكام من النصوص، ومما لا نص فيه، ولا يقيم حربًا بين نصوص الشريعة ومقاصدها، بل يفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية.
ما يهمنا أن يفتح باب الاجتهاد لأهله في محله، فلا يدخل هذا الباب إلا من كان أهلًا له، ومن يملك الشروط التي اتفق عليها العلماء للمجتهدين، الخطر يكمن حين يدخل الاجتهاد من ليس أهله، أو يكون الاجتهاد في غير محله.
إن الدخلاء على العلم الشرعي هم الذين يفسدون حيث يزعمون أنهم يصلحون، ويهدمون من حيث يعلنون أنهم يشيدون.
كما ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده، إن الواجب أن يخضع الواقع للشرع، لا أن يخضع الشرع للواقع، لأن الشرع يمثل كلمة الله، وكلمة الله هي العليا.
كما ينبغي في القضايا الجديدة الكبيرة ألا نكتفي بالاجتهاد الفردي، وأن ننتقل من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي؛ الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصًا فيما يكون له طابع العموم، ويهم جمهور الناس.
فرأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأى الفرد، هذا الاجتهاد الجماعي يتمثل في صورة مجمعات علمية إسلامية عالمية تضم العلماء (7).
فالخطاب الديني الذي نريده أن يسود وينتشر، وتتضافر كل الجهود على إشاعته وإذاعته بكل الوسائل والأساليب؛ ليس هو مهمة الإمام والواعظ والكاتب في مواضيع الدين المختلفة فقط؛ بل مهمة الجميع في تكامل وانسجام واتفاق على المرامي والأهداف التي لا يمكن أن تكون إلا واحدة؛ وهي أن نعيش معًا في انسجام واحترام متبادل، واعتراف بحقوق بعضنا البعض، وأن نسعى متكاملين متعاونين من أجل الحفاظ على ما نعتبره –ويعتبره التفكير السليم القويم- مكاسب لا سبيل إلى التفريط فيها فلا نترك أحدًا (فردًا أو جماعة) يتهددها.
إن الخطاب الديني الذي نروم نشره والتوعية به هو انعكاس صحيح وتطابق كامل لمقاصد الدين وغاياته وأهدافه النبيلة، والتي هي خير كلها، ورحمة كلها، ومصلحة كلها.
فالخطاب الديني بهذا المعنى وبهذه الخصائص هو خطاب التحرير والتنوير، وهو خطاب التبصير والتذكير، وهو خطاب جمع الكلمة ووحدة الصف، إنه خطاب السماحة والرفق والرحمة واللين، والدفع بالتي هي أحسن، وهو خطاب التسامح والتعاون على البر والتقوى، وهو خطاب التوكل الصحيح والأخذ بالأسباب وتغيير ما بالنفس، إنه خطاب الأمل والعمل، وهو خطاب الرقي والتقدم والتمدن والتحضر.
الخطاب الديني المنشود والذي هو وفي لنصوص الشرع ومقاصده؛ خطاب ينبذ التعصب والتزمت والانغلاق والتحجر، يقاوم الفرقة والفتنة، ويحارب كل ما يمكن أن ينال من كرامة الإنسان ويتصادم مع حقوقه الأساسية، إن الخطاب الديني يأبى على المؤمن أن يظل في تخلف وتقهقر وضعف ومهانة ومذلة، إنه خطاب يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، والعزة الفعلية {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ولن تتحقق الخيرية بالشعارات والأماني «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي»، ولن تتحقق الخيرية بالمظاهر والصور «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (8)، ولن تتحقق المباهاة يوم القيامة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة متهالكة متصارعة ترزح تحت نير الجهالة والتخلف والفقر والأمية.
إن الخطاب الديني الصحيح والايجابي البناء الذي يرضى الله ورسوله والمؤمنين هو خطاب الدفع إلى الأمام، ومعاضدة كل الجهود الخيرة التي تبذل من أجل إسعاد المسلمين السعادة الحقيقية الشاملة الكاملة.
الخطاب الديني بكل قنواته ووسائله وفي طليعتها خطبة الجمعة والدرس والمحاضرة والمقال والدراسة، هو خطاب المعاضدة لكل عمل بناء، ولكل مبادرة خيرة تنفع العباد والبلاد.
الخطاب الديني هو الدافع إلى الانخراط بصفة كلية وتلقائية -رغبة في الحصول الأجر والثواب- في كل ما من شأنه أن ينفع الناس إذ «أحب الناس إلى الله، أنفعهم للناس، يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينًا، أو يطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة- شهرًا» (9)، ومجالات الإيمان وشعبه تتعدى العقائد والعبادات إلى المعاملات، إذ «الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (10).
ومن هنا فإن الخطاب الديني يجب أن يكون خطاب وحدوي، يقوم على صهر الناس من خلال المفاهيم في بوتقة العقيدة الإسلامية؛ ليكونوا أمة واحدة تربطهم عقيدة الإسلام، وهو لا يقبل الارتباط بغير العقيدة الإسلامية، واعتبر الروابط الأخرى من أمر الجاهلية، وأنها لا تصلح لأن تربط بني الإنسان ببعضهم، لأنها روابط منحطة لا تليق بالإنسان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، فرابطة العقيدة لا تتقطع باختلاف النسب، ورابطة النسب تتقطع باختلاف العقيدة (11).
***
__________________
(1) تجديد الخطاب الديني، سلمان العودة.
(2) أخرجه أبو داوود (4291).
(3) انظر: خطابنا الإسلامي في عصر العولمة للقرضاوي.
(4) معالم الخطاب الإسلامي الجديد، عبد الوهاب المسيري.
(5) الخطاب الإسلامي مقاربة منهجية/ موقع مداد.
(6) المصدر السابق.
(7) الخطاب الإسلامي مقاربة منهجية/ موقع المسلم.
(8) أخرجه مسلم (2564).
(9) صحيح الترغيب والترهيب (2623).
(10) أخرجه مسلم (35).
(11) الخطاب الديني خطاب جمع الكلمة، صيد الفوائد.