خذوا زينتكم ولا تسرفوا
لقد ظهر في هذا العصر من أنواع الزينة ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر منه، وظهر من يشجع على انتشاره، من بيوت الأزياء، ومحلات التجميل، والمستشفيات، ووسائل الإعلام، من صحفٍ، ومجلاتٍ، وغيرها، تقود إلى ذلك دعاية وترغيبًا، بغية تغيير الخلقة، وإفساد الفطرة، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ثُمَّ تحقيق الأهداف الاقتصادية بابتزاز أموال المسلمين، في استهلاك هذه الكماليات، عدا ما فيها من أضرار مادية وصحية وأخلاقية واجتماعية.
وإن من صفات المسلم أن يكون وقَّافًا عند حدود الله تعالى، لا يتعداها ولا يقربها، يقتصر على ما أباح الله له من أنواع الزينة، ينظر بعين البصيرة، مهتديًا بشرع ربه، لم يفسد مزاجه، ولم تنحرف فطرته، وإن مما يؤسف له أن يعجب الإنسان بكل ما يصدر عنه، أو بكل ما يهواه، مهما بلغ من السوء؛ فيرى القبيح حسنًا، والتشويه جمالًا، وتغيير خلق الله زينة، وهذا انتكاس في الفطرة، وفساد في الذوق، ونبذ لتعاليم الإسلام، قال تعالى: {أَفَمَن زُيِِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، والشاعر يقول:
يُقْضَى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
إن ستر الجسد من الحياء، وهو فطرة خلقها الله في الإنسان، فكل ذي فطرة سليمة يحرص على ستر عورته، وينفر من انكشافها وتعريها، إذن فستر الجسد ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم؛ لتدمير إنسانيتهم وفق الخطة الصهيونية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون.
ومن هنا يمكن الربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم، وبين الدعوة السافرة إلى العري الجسدي، باسم الزينة والحضارة والموضة، وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانية الإنسان، والتعجيل بانحرافه؛ ليسهل استعباده والسيطرة عليه، فيصبح ألعوبة في أيديهم، يسخرونه لخدمة مصالحهم الخاصة.
إن قضية اللباس والزينة ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة؛ بل إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى:
أ- إنها تتعلق، قبل كل شيء، بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد، وشتى جوانب الحياة.
ب- كذلك تتعلق بإبراز خصائص الإنسان في الجنس البشري، وتغليب الطابع الإنساني في هذا الجنس على الطابع الحيواني، الذي هو سمة بارزة للجاهلية التي تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق، وتجعل العري الحيواني تقدمًا ورقيًا، والستر الإنساني تأخرًا ورجعية، وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائصه.
ج- إن الزينة الإنسانية هي زينة الستر، وأما الزينة الحيوانية فهي زينة العري، وهذه الحقيقة ثابتة، لا يغيرها ولا ينقص من قدرها انقلاب الموازين في شتى الأماكن والعصور.
د- إن اللباس ليس بأداة خارجية لستر بعض أعضاء الجسد، ووسيلة لحفظه من تقلبات الجو فقط؛ بل جذور متأصلة في نفسية كل أمة وحضارتها ومدنيتها، وتقاليدها وسائر شئونها الاجتماعية، فهو في واقع الأمر مظهر لتلك الروح التي تعمل عملها في جسد تلك الأمة(1).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله»، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها (أم يعقوب)، وكانت تقرأ القرآن فأتته، فقالت: «ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله؟»، فقال عبد الله: «وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله»، فقالت المرأة: «لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته»، فقال: «لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]»، فقالت المرأة: «فإني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن»، قال: «اذهبي فانظري»، فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئًا، فجاءت إليه فقالت: «ما رأيت شيئًا»، فقال: «أما لو كان ذلك لم نجامعها»(2).
أقسام الزينة:
تنقسم الزينة إلى ثلاثة أقسام:
الأولى: الزينة الخُلقية: وهي الصفات المحمودة التي أمر بها الإسلام، وأعلاها صفة الإيمان، التي هي منبع أحسن الصفات؛ كالتقوى، والصبر، والحلم، والكرم، والشجاعة ونحوها.
الثانية: الزينة الخارجية: وهي كل ما يُدْرَك بالبصر، سواء كان في الإنسان؛ كحسن الوجه، وجمال البشرة، واعتدال القامة، وسعة العيون ونحو ذلك، أو كان حول الإنسان؛ كالسماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وكالأرض وما فيها من الحيوان والنبات والجبال ونحو ذلك.
الثالثة: الزينة المكتسبة: وهي كل زينة خارجة عن الجسم المزين بها؛ كاللباس، والكحل، والطيب، والخضاب ونحو ذلك.
ومن كملت له هذه الزينات الثلاث فقد كمل حسنه وجماله(3).
قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].
قال ابن العربي: «الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة...
وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خَلْقها بالتصنع؛ كالثياب، والحلي، والكحل، والخضاب».
قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقال ابن عباس: «كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة»، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة، وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة، ويوم العيد، والطيب؛ لأنه من الزينة، والسواك؛ لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد؛ فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر»(4).
وعن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم»(5).
ويُروى أن تميمًا الداري اشترى رداءً بألف وكان يصلي فيه(6).
ورغّب الإسلام في الزينة للرجال والنساء؛ لما فيها من زيادة الحسن والجمال الذي يحبه الله، واهتم الإسلام بزينة المرأة وحسن لباسها وَزِيِّها أكثر من اهتمامه بزينة الرجل ولباسه؛ لأن الزينة أمر أساسي للمرأة، فإن الله قد فطرها على حب الظهور بالزينة والجمال، ومن أجل هذا أباح الإسلام للمرأة من الزينة أكثر مما أبيح للرجل؛ لأن الزينة تلبية لنداء الأنوثة، وإدخال السرور على الزوج، وحسنها وجمالها يزيد من رغبة الزوج بها ومحبته لها.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32].
وقال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، قال رجل: «إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة»، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس»(7).
وعن أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: «ألك مال؟»، قال: «نعم»، قال: «من أي المال؟»، قال: «قد آتاني الله من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق»، قال: «فإذا آتاك الله مالًا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته»(8).
من الزينة لبس الثياب:
المراد من الزينة في القرآن لبس الثياب، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، يعني الثياب، وأيضًا فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات؛ ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سُنَّة، وأيضًا قوله تعالى في الآية المتقدمة: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة، ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية، فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة، وأيضًا فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هاهنا لبس الثوب الذي يستر العورة، وأيضًا في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف:31]، أمر، والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملًا بالنص بقدر الإمكان(9).
قال ابن عباس: «إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلًا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترًا تعلقه على حقويها لتستتر به عن الحمس، وهم قريش، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانوا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتًا، ولا يأكلون دسمًا، فقال المسلمون: (يا رسول الله، فنحن أحق أن نفعل ذلك)؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ أي: البسوا ثيابكم، وكلوا اللحم والدسم، واشربوا ولا تسرفوا»(10).
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله.
وروى مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة»(11).
قال ابن عبد البر: «أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف، الذي يصف ولا يستر؛ أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة»(12).
قال تعالى في مَعرِض المَنِّ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]، فيبدو من الآية الكريمة أن الإنسان يتأثَّر نفسيًّا بما يُحيط به من أشكال وألوان، قال طاوس: «مَن زعم أن الثياب لا تُغير القلوب فقد كَذَب، إني لأغسل ثوبيَّ هذين فأُنكِر نفسي ما داما نقيين».
فقد حثت الشريعة الإسلامية، قرآنًا وسُنَّة، على التزين والتجمل، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، كما يُنكر على أولئك المغالين الذين يُحرِّمون الزينة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]، وقال تعالى أيضًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، والزينة نعمة من نعم الله؛ لذلك أمر بالتحدث بها، بإظهارها كوجهٍ من أوجه الشكر عليها.
كان سعيد بن المسيب يلبَس الحُلَّة بألف درهم ويدخل المسجد، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أجالس ربي»، وقيل: «المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة»(13).
وقيل أيضًا: المظهر عُنوان الشخصية، فتلمح أثرَ المظهر على صاحبه من خلال هذا الموقف.
دخل على الإمام أبي حنيفة يومًا رجلٌ له هيبة العالِم، فجلس بين يدي الإمام مع الجلوس، فهابه الإمام، وكان الإمام مادًّا قدميه، فلما جلس الرجل استجمعهما الإمام، وأخذ الطلاب يسألون ويُجيبهم الإمام، إلى أن سأل الرجل سؤالًا لا يسأله إلا أحمق، فقال الإمام: «آن لأبي حنيفة أن يَمُدَّ قَدَميه».
وهذه الزينة، التي وصى الله تعالى بها عباده، لم تأتِ على سبيل الاستقصاء، وإنما حث عليها وأمر بها، وجبَل الإنسان عليها، ولم يترك له العِنان في طلبها، ولكن وضع لها قيودًا وحدودًا لا يجوز تَجاوُزها، وربما كانت الحكمة من عدم تفصيلها على هيئة صور وأشكال؛ لأن التفصيلَ يقتضي الإلزام، فلو تم ذلك لكان لازمًا، والأخذ بغيره محرَّم، والزينة من الأمور المتغيرة التي تختلف من مجتمع لآخر، ومن عصر لآخر، فكان ذلك منه سبحانه على سبيل التيسير والتخفيف.
من رحمة الله تعالى ببني آدم أن جعل الأصل في الأمور الإباحة، فما لم يَرِد فيه نص لا بالإباحة ولا بالمنع فهو مباح، والمباح لا يصير حرامًا إلا بنص من الكتاب أو السنة، إلا أن الشارع الحكيم قد وضع ضوابط تحكم تناوُلَ الإنسان لما هو مباح، وهذه الضوابط وُضِعت لسلامة الفرد بصفة خاصة، والمجتمع بصفة عامة.
زينة الأرض:
ومن الزينة في القرآن زينة الأرض، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، معنى الآية، كما يقول العلامة القرطبي، التشبيه والتمثيل؛ أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي: مثل الماء؛ أي فاختلط الماء بالأرض، فأخرجت ألوانًا من النبات، اختلط النبات بالمطر؛ أي شرب منه فتندّى وحَسُن واخضر، والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض، وقوله تعالى: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ}؛ أي: من الحبوب والثمار والبقول، {وَالأَنْعَامُ} من الكلأ والتبن والشعير، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا}؛ أي: حسنها وزينتها، والزخرف كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب: زخرف، {وَازَّيَّنَتْ}؛ أي بالحبوب والثمار والأزهار.
والمعنى الإجمالي للآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالي شبه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها، وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سُلِبها بغتةً أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر، فيغتر به، ويظن أنه قادر عليها، مالك لها، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةً، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا منها؛ فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
وقال الله تعالي: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا}، أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل الدنيا دارًا فانية مزينة بزينة زائلة، للابتلاء والاختبار، كما أخبر أنه خلق الموت والحياة لذلك، وخلق السماوات والأرض لهذا الابتلاء أيضًا.
والزينة: كل ما على وجه الأرض، فهو عموم لأنه دال على بارئه.
عن ابن عباس: «أراد بالزينة الرجال»، وعنه أيضًا أن الزينة الخلفاء والأمراء، وروي عنه أنه قال: «العلماء زينة الأرض»، وقالت فرقة: أراد النّعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه؛ كالحيات والعقارب.
والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه(14).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة، والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون»(15)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا»، قيل: «وما زهرة الدنيا؟»، قال: «بركات الأرض»(16)، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها؛ كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملًا؛ أي مَن أزهدُ فيها وأتركُ لها، ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زيّنه الله إلا أن يعينه، وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها؛ بل همته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلة، وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه.
زينة المؤمنات:
من الزينة في القرآن الكريم زينة المؤمنات، قال الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور:31].
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: «بلغنا أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: (ما أقبح هذا!)، فأنزل الله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية»(17).
وهذه الآية الكريمة تعد أكثر الآيات القرآنية اشتمالًا علي الضمائر.
ولا بد من إبراز أهم المبادئ والأسس التي تقوم عليها فكرة اللباس والزينة في الإسلام؛ لأهميتها العظمى في واقعنا الإنساني الذي نعيشه ونحياه.
وهذه المبادئ هي:
1- إن اللباس من النعم الكبرى التي امتن الله به على عباده، شرعه لهم ليستر ما انكشف من عوراتهم، وليكون لهم، بهذا الستر، زينة وجمالًا، بدلًا من قبح العُري وشناعته.
2- إن ستر الجسد من الحياء، وهو فطرة خلقها الله في الإنسان، فكل ذي فطرة سليمة يحرص على ستر عورته، وينفر من انكشافها وتعريها، إذن فستر الجسد ليس مجرد اصطلاح وعُرْف بيئي، كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم؛ لتدمير إنسانيتهم وفق الخطة الصهيونية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون.
3- الإسلام دين الفطرة فهو، لذلك، لا يسلك في كل شأن من شئون الحياة إلا طريقًا يتفق مع العقل العام، ويتجاوب مع الفطرة السليمة، فهو لم يقرر للإنسان نوعًا خاصًا من اللباس، أو أسلوبًا خاصًا للمعيشة، ما دام قد تطور وترقى بأسلوب فطري سليم، إلا أنه وضع مجموعة من المبادئ والقواعد الأساسية من الوجهة الخُلقية والاجتماعية الخاصة، وهو يريد من كل أمة أن تتولى الإصلاح في لباسها وفي طريقها للمعيشة، حسب هذه المبادئ والقواعد الأساسية لا غير.
ومن قواعد الشريعة في اللباس ما يلي:
أ- ما يختص بملابس الرجال:
1- أن تكون ساترة للعورة، وأن تكون نظيفة ومرتبة.
2- أن يراعى فيها حد الاعتدال، فلا إسراف ولا تضييق، بحيث تتناسب ومقدار إنعام الله على عبده.
3- ألا تكون مما نُهي الرجال عن لبسه؛ كالحرير والذهب.
4- ألا يقصد بها الفخر والشهرة والكِبْر.
5- ألا تشبه ملابس النساء.
ب- ما يختص بملابس النساء:
- إن لملابس النساء من الأهمية ما يجعل الأمر بالنسبة لها أكثر دقة وأعمق تفصيلًا من ملابس الرجال.
- لقد كرم الإسلام المرأة وارتفع بها عن مستوى المهانة والازدراء، فهو يريدها أن تكون أداة تشييد وبناء المجتمع الذي تعيش فيه، لا أداة تخريب وهدم؛ ولذلك ابتعد بها عن كل ما يثير غرائز الرجل ويهبط به إلى دركات البهيمية، ومن أجل هذا فقد اشترط في لباسها ما يلي:
1- أن تكون ثيابها واسعة فضفاضة بحيث تستوعب جميع أجزاء البدن، وألا تبرز شيئًا منه أو تجسمه، وخاصة مواضع الفتنة منها.
2- أن تكون سميكة صفيقة، بحيث لا تشف فيظهر ما تحتها من الأعضاء.
3- ألا تكون الملابس زينة في نفسها، كأن تكون ذات ألوان مثيرة تلفت إليها الأنظار؛ بل عليها أن تختار الألوان الهادئة التي تخلو من الإثارة والإغراء.
4- ألا تشبه ملابس الرجال؛ لمنافاة ذلك لأنوثة المرأة ووظيفتها.
5- إن الإسلام قد راعى في المرأة أنوثتها وحبها للزينة والجمال، فأباح لها ما يناسب هذه الأنوثة كالحرير والذهب، كما لم يحرم عليها اللباس الفاخر إذا كانت ممن أنعم الله عليها، بشرط عدم الإثارة والإغراء كما تقدم، وكذلك عدم تضييع أو تعطيل حق من الحقوق الشرعية.
6- لقد حرص الإسلام على المرأة حرصًا شديدًا فصانها، وحافظ عليها، ولم يسمح لأحد أن ينظر إلى أي جزء من جسمها، أو يكشف عنه إلا لضرورة أو حاجة اقتضتها مصلحتها الخاصة، أو المصلحة العامة للأمة؛ كمداواة، أو خطبة، أو شهادة مثلًا.
7- ألا يكون لباسها شهرة، وأن يخلو عن الطيب عند الخروج من البيت، والخروج من البيت شرط في جميع ما تقدم.
8- ترك الإسلام للمرأة حرية اللباس والزينة داخل البيت للزوج؛ حيث الفتنة نائمة، فلها أن تختار ما تشاء من أنواع الثياب وألوانها، وأن تتزين وتتجمل لزوجها كيفما تشاء، وبهذا تحافظ على زوجها، مع بقائها بعيدة عن كل ما يعرضها ويعرض المجتمع معها إلى الانحراف.
وقد زاد الإسلام المرأة تزكية وطهرًا أن كلفها زيادة علي الرجل بعدم إبداء الزينة لغير المحارم من الأقرباء، وفرض عليها الحجاب الشرعي؛ ليصون لها كرامتها، ويحفظها من النظرات الجارحة، والعيون الخائنة، ويدفع عنها مطامع المغرضين الفجار.
ولما كان إبداء الزينة والتعرض بالفتنة من أهم أسباب التحلل الخلقي والفساد الاجتماعي؛ لذلك فقد أكد الباري تبارك وتعالى على ذلك الأمر للمؤمنات؛ بتجنب إظهار الزينة أمام الأجانب؛ ليسد نوافذ الفتنة، ويغلق أبواب الفاحشة، ويحول دون وصول ذلك السهم المسموم، فالنظرة بريد الشهوة، ورائد الفجور، ولقد أحسن من قال:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبًا بسرور جاء بالضرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها(18).
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان تزنيان وزناهما النظر...»(19).
زينة الحياة الدنيا:
ومن الزينة في القرآن الكريم زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، وفي هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة.
وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالًا ونفعًا، وفي البنين قوة ودفعًا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة، فلا تُتبعوها نفوسكم.
وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى؛ كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة، وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال؛ لأنه فَيْءٌ ذاهب، ويكفي في هذا قول الله تعالى: {إنما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15](20).
وقوله تعالي: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، أخبر الله سبحانه وتعالي في هذه الآية الكريمة أن هذا الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أماني طلابها.
مَن المُزيِّن:
قالت فرقة: الله زيَّن ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي التنزيل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} [الكهف:7]، ولما قال عمر: «الآن يا ربِّ حين زيّنتها لنا» نزلت: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ} [آل عمران:15].
وقالت فرقة: المزيِّن هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال: «مَن زينها؟ ما أحد أشد لها ذمًا من خالقها».
فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجِبِلّة على الميل إلى هذه الأشياء، وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة، وتحسين أخذها من غير وجوهها(21).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسرافٍ ولا مخيلة»(22).
***
________________
(1) اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية، ص137.
(2) أخرجه مسلم (2125).
(3) موسوعة الفقه الإسلامي (4/ 87).
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5905).
(5) أخرجه أبو داود (3878).
(6) مختصر تفسير ابن كثير (2/ 15).
(7) أخرجه مسلم (91).
(8) أخرجه أبو داود (4063).
(9) تفسير الرازي (14/ 229).
(10) المصدر السابق (14/ 228).
(11) أخرجه مالك (2/ 913).
(12) التحرير والتنوير (18/ 206-207).
(13) المستطرف في كل فن مستطرف، ص276.
(14) تفسير القرطبي (10/ 354).
(15) أخرجه ابن ماجه (4000).
(16) أخرجه مسلم (1052).
(17) تفسير ابن كثير، ت سلامة (6/ 44).
(18) اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية، ص137.
(19) أخرجه أحمد (8507).
(20) تفسير القرطبي (10/ 413).
(21) المصدر السابق (4/ 28).
(22) أخرجه البخاري (5782).