logo

حكم تارك الصلاة


بتاريخ : السبت ، 7 رجب ، 1439 الموافق 24 مارس 2018
حكم تارك الصلاة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فإن الصلاة ركن ركين من أركان الدين، ومن أهم الشعائر عند المسلمين، وإن مما لا يختلف فيه المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه معرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة.

وقد تنازع أهل العلم سلفًا وخلفًا، في حكم تاركها؛ فقال الإمام أحمد: تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، ويقتل إذا لم يتب ويصلي. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: فاسق ولا يكفر، ثم اختلفوا؛ فقال مالك والشافعي يقتل حدًا، وقال أبو حنيفة: يعزر ولا يقتل.

وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر؛ لأن كل واحد يرى أن الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج عن الملة.

أما الكتاب: فقوله تعالى في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وقوله في سورة مريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}.

وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»(1).

وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»(2).

والمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فصلًا بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.

وأما ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة، فإنه لا يقاوم أدلة ما استدل به من يرى كفره؛ لأن ما استدل به أولئك إما ألا يكون فيه دلالة أصلًا، وإما أن يكون مقيدًا بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيدًا بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عامًا مخصوصًا بأدلة تكفيره(3).

وعليه، فلا يزيد ما ذكروه عن مجرد كونه شبهات، وفيما يلي بيان مختصر في الرد على هذه الشبهات.

الشبهات:

الشبهة الأولى: المعاصي لا تدخل أحدا في الكفر، والذي يكفر به المرء هو الاعتقاد، بينما الصلاة عمل، فتاركها داخل فيما دون ذلك، وهو الذي يغفره الله لمن يشاء.

الجواب:

  هذا مخالف لمعنى قول السلف قاطبة: «إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل».

وليس معنى قولهم: إن أي عمل تركه كفر، لكن من الأعمال ما تركه كفر، وهو شرط في صحة الإيمان؛ كالصلاة، ومنها ما ليس كذلك؛ كغير الصلاة من الأركان.

والمكفرات القولية والعملية المخرجة من الملة هي ما دل الدليل على كونها كذلك، وهي مضادة للإيمان من كل وجه، وتدل على كفر الباطن ولابد(4).

الشبهة الثانية: لو قلنا بكفر تارك الصلاة لزمنا القول بتكفير تارك الزكاة؛ لأنها قرينتها في الكتاب والسنة، ولم يكفر أحدًا تارك الزكاة، وهذا ما فهمه أبو بكر لمَّا ساوى بينهما، وقال: «لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة».

الجواب:

كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى(5)، وهذا القول وإن كان مرجوحًا بالدليل الواضح من السنة، فإن الأدلة من الكتاب والسنة جاءت تفيد كفر تارك الصلاة، فكيف يسوى بين الحكمين؟!

ومن ناحية المعنى: فإن ترك الزكاة مرجعه إلى البخل بالمال، والمؤمن قد يكون بخيلًا، قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}، وقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

وأما ترك الصلاة فمعناه ترك الخضوع لله، وإباء السجود لعظمته، ورفض الامتثال لأمره، وشأن تارك الصلاة شأن إبليس حيث امتنع عن السجود؛ فترك السجود في حد ذاته كفر أكبر؛ لما تضمنه من جحود لاستحقاق الرب تبارك وتعالى.

وهذا في الحقيقة جحود بالفعل وإن لم يتلفظ به باللسان.

ولهذا لما ذكر الله استحقاق الكفار دخول سقر قال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، وقال أيضًا مخبرًا عن حالهم في الدنيا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}.

وأما قولكم: إن ما فهمه أبو بكر عدم تكفير تارك الصلاة، لما قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فهذا قول عار عن الصحة؛ بل إن من العلماء من يذهب إلى أن أبا بكر قاتل هؤلاء القوم لردتهم، وعليه فيمكن أن يقال: إن تارك الصلاة كذلك، لكن الصحيح أن المقام، ومدار اختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كان في المقاتلة لا في التكفير.

وممن ذهب إلى أن مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر لم يكن لهم تأويل سائغ، فحكم بكفرهم، شيخ الإسلام بن تيمية؛ قال: «وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة، وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله»(6).

ثم إن مقتضى قولكم، فيما ذكرتموه عن أبي بكر، قتال تاركي الصلاة، وقتال تاركي الزكاة، فهل تقولون به؟

الشبهة الثالثة: النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة تحمل على من تركها جاحدًا لوجوبها؛ لئلا تتعارض مع النصوص الدالة على فضل التوحيد، وأن من حققه، وأتى بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإنه من أهل الجنة.

الجواب: من وجوه:

الأول: غاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمتنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة، والخاص مقدم على العام.

الثاني: لا يجوز حمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحدًا لوجوبها؛ لأن فيه محذورين:

الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود، ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة دون الإقرار بوجوبها، لم يقل الله تعالى: {فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة}، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة»، أو: «العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر».

ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}، وقال تعالى مخاطبًا نبيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.

الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطًا للحكم؛ فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه، سواء صلى أم ترك، فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافرًا مع أنه لم يتركها.

فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، كما جاء ذلك صريحًا فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تتركوا الصلاة عمدًا، فمن تركها عمدًا متعمدًا فقد خرج من الملة)»(7).

الثالث: القول بكفر تارك الصلاة كما أنه مقتضى الدليل السمعي الأثري، فهو مقتضى الدليل العقلي النظري، وإلا فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة، التي هي عمود الدين، وجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها، ويخوف بالمصير الوارد لتاركها، ثم يصر على تركها؟! فلا شك أنه مع وجود هذه الحال لا يبقى إيمان مع التارك.

الشبهة الرابعة: يراد بالكفر في حديث تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة، أو الكفر الأصغر، وليس الكفر الأكبر المخرج من الإسلام، فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»، وقوله: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، ونحو ذلك.

الجواب:

أولا: المراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة؛ وذلك لوجهين:

الأول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فصلًا بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام، فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.

الثاني: ورد في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: «أفلا نقاتلهم؟»، قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»(8).

وورد فيه أيضًا من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار ائمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل: «يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟»، قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»(9).

ففي هذين الحديثين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا الصلاة.

ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفرًا صريحًا عندنا فيه برهان من الله تعالى، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)»(10).

وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة، الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم منابذتهم وقتالهم بالسيف، كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان.

ثانيا: الأصل إبقاء المصطلحات الشرعية الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، وحملها على المتعارف عليه بمقتضى الأدلة الواردة دون تأويل، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يفيد أن تارك الصلاة ليس بكافر، أو أنه مؤمن.

ثالثا: هذا الاحتمال الذي يذكره المعارضون، فيما يتعلق بالمراد بالكفر، والتنظير له لا يصح لوجوه:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حدًا فاصلًا بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.

الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركنًا من أركان الإسلام، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلًا من أفعال الكفر.

الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا عن الملة، فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه؛ لتتلاءم النصوص وتتفق.

الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف، ففي ترك الصلاة قال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر»، فعبّر بـ (ال) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة (كُفر) منكرًا، أو كلمة (كَفر) بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر أو أنه كفر في هذه الفعلة، وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.

قال شيخ الإسلام بن تيمية تعليقًا على قوله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر»، قال: «فقوله: (هما بهم كفر)، أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرًا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة»، وبين كفر منكر في الإثبات(11).

الشبهة الخامسة:

مسألة تكفير تارك الصلاة خلافية، والقول بعدم كفر تارك الصلاة تكاسلًا قال به كثيرون، فنأخذ به احتياطًا، وأخذًا بالأسهل، وبعدًا عن مذهب الخوارج، فهم الذين يكفرونه!

الجواب:

القول بكفر تارك الصلاة تكاسلًا هو قول جمهور الصحابة؛ بل حكى غير واحد إجماعهم عليه(12)، قال عبد الله بن شقيق: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة»(13).

وقد ذكر ابن حزم أنه قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة قال: «ولا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة»، نقله عنه المنذري في الترغيب والترهيب، وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء رضي الله عنهم.

قال: «ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم»(14).

وقال محمد بن نصر المروزي: «سمعت إسحاق يقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن تارك الصلاة كافر)، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر»(15).

وسئل  جابر بن عبد الله: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال: «الصلاة»(16).

وعن المسور بن مخرمة وابن عباس أنهما دخلا على عمر رضي الله عنه حين طعن فقال: «الصلاة»، فقال: «إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة»؛ فصلى وجرحه يثعب دمًا(17).

وعن الحسن البصري التابعي الجليل قال: «بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله و سلم كانوا يقولون: بين العبد و بين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر»(18).

وعن أيوب السختياني قال: «ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه»(19).

وبمقتضى ما سبق فإن الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل، مِن كُفر تارك الصلاة، وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، وذكر ابن القيم في كتاب الصلاة أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه(20).

وأما قولكم: نأخذ بالاحتياط، وهو القول بعدم كفر تارك الصلاة تكاسلًا، فجوابه: أن الاحتياط إنما يكون بالعمل بالشرع، لا في تركه بالتأويلات الضعيفة.

كما أنه إنما يسوغ العمل بالأخف والأسهل حال اشتباه الأدلة، أما وهي واضحة، ونصوص أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم فيها قاطعة، والشبهات مردود عليها، فالتساهل حينئذ ترخص مذموم، وتساهل في الدين، واتباع للهوى، وترك تعظيم لشعائر الله.

وأما قولكم: نأخذ بذلك بعدًا عن مذهب الخوارج...، فإنه كلام نسبة قائله للجهل أقرب من نسبته للعلم، كيف وقد سقنا أنه قول جمهور الصحابة، إن لم يكن إجماعهم؟!

وما أحسن تعقيب الإمام اللالكائي، بعد نقل جملة من هذه المأثورات عن السلف؛ إذ قال: «وهؤلاء الذين كفروا تارك الصلاة هم علماء السنة وعلماء الإسلام، فلا يقال: إن من كفر تارك الصلاة من الخوارج، ومن قال ذلك يلزمه أن يسحب هذا الحكم وهذا الاستهزاء على كل من كفر تارك الصلاة»(21).

الشبهة السادسة:

الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة كسلًا كثيرة(22)، ومخالفتها يعني إغفال بعض الأدلة، ومنهج أهل العلم عند التعارض الجمع بين الأدلة لا إهمال  بعضها.

الجواب:

أن هذه الأدلة لم يأتِ فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن، أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة ونحو ذلك، ومن تأملها وجدها لا تخرج عن أربعة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر.

القسم الأول: ما لا دليل فيه أصلًا للمسألة؛ مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فإن معنى قوله: {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله فهو كافر كفرًا لا يغفر، وليس ذنبه من الشرك، ولو سلمنا أن معنى: {مَا دُونَ ذَلِكَ}، ما سوى ذلك لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركًا.

القسم الثاني: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار»، وهذا أحد ألفاظه، وورد نحوه من حديث أبي هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبان بن مالك رضي الله عنهم.

القسم الثالث: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان بن مالك: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» (كما رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» (كما رواه البخاري)، فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنع من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولا بد، فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقًا في ابتغاء وجه الله فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه فلا بد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصًا بها لله تعالى، متبعًا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.

القسم الرابع: ما ورد مقيدًا بحال يعذر فيها بترك الصلاة كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب...» الحديث، وفيه: «وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها»، فقال له صلة: «ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟»، فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: «يا، صلة تنجيهم من النار» ثلاثًا، فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها؛ كمن مات عقب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم في دار الكفر قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع.

والحاصل أن ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم ما استدل به من يرى كفره؛ لأن ما استدل به أولئك إما ألا يكون فيه دلالة أصلًا، وإما أن يكون مقيدًا بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيدًا بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عامًا مخصوصًا بأدلة تكفيره(23).

الشبهة السابعة:

أمور المغفرة والجنة والنار ليست إلينا؛ بل لله، فيستحيل الحكم على المسلم بالكفر، والواجب علينا الدعوة بالحسنى والدعاء له بالهداية.

الجواب:

القول بكفر تارك الصلاة، وأنه إن مات مصرًا على تركها فهو من أهل النار، لا يعني أن أمور المغفرة والجنة والنار إلينا، أو أننا نحكم على من نشاء بما نشاء، أو أننا لا ندعوه لفعلها بالحكمة والموعظة الحسنة، وإنما نقول بما جاء به الوحي، ونحكم بما قضى به الدليل، ونظهر أحكام دين الله وشريعته، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونحن في ذلك كله متبعون لا مبتدعون.

فلم يزل فقهاء المسلمين يذكرون باب الردة في كتبهم، ويحكمون بالكفر على كل من دل الدليل الصحيح على كفره، ولم يتورعوا ذلك الورع الكاذب، بدعوى أن أمور المغفرة والجنة والنار ليست إلينا، بل لله، وأنه يستحيل الحكم على المسلم بالكفر، والواجب علينا الدعوة بالحسنى والدعاء له بالهداية!

ثم إن قولكم هذا يئول إلى كتمان بعض ما أنزل الله، أو الإيمان ببعضه دون كله، وكلاهما شر مستطير، فكما أن الحكم بالإسلام لأهله واجب شرعي، ولا يجوز لغير أهله؛ فكذلك الحكم على من أتى كفرًا بأنه كافر واجب شرعي، ولا يجوز عند ذلك عده مسلمًا، وهو ليس من أهل الإسلام، فذلك أيضًا شر مستطير.

وقد عد بعض أهل العلم تكفير تارك الصلاة موافق للحكمة، فقال: «والقول بعدم تكفير تارك الصلاة إفساد في الأرض؛ لأنك لو قلت للناس، على ما فيهم من ضعف الإيمان: إن ترك الصلاة ليس بكفر، تركوها، والذي لا يصلي لا يغتسل من الجنابة ولا يستنجي إذا بال، فيصبح الإنسان على هذا بهيمة؛ ليس همه إلا أكل وشرب وجماع فقط»(24).

تنبيهات:

(1) قال أهل العلم: ينبغي على المسلم ألا يحكم بكفر تارك الصلاة، ولا يبني أحكام الكفر والردة عليه قبل استدعائه من قِبَل ولي الأمر أو نوابه من القضاة وغيرهم؛ فإن امتنع وآثر القتل على فعل الصلاة: وجب أن يُقتل ردة، وتبنى عليه أحكام الردة المعروفة(25).

(2) بالنسبة لما يحصل به الترك: قال ابن عثيمين: «والذي يظهر من الأدلة أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة دائمًا؛ بمعنى أنه وطَّنَ نفسه على ترك الصلاة؛ فلا يصلي ظهرًا، ولا عصرًا، ولا مغربًا، ولا عشاء، ولا فجرًا، فهذا هو الذي يكفر، فإن كان يصلي فرضًا أو فرضين فإنه لا يكفر؛ لأن هذا لا يَصْدُقُ عليه أنه ترك الصلاة...، ولأن الأصل بقاء الإسلام، فلا نخرجه منه إلا بيقين؛ لأن ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين»(26).

(3) قال العلماء: يكفي لثبوت الكفر أن يقصد؛ أي: يتعمد، العامل عمل الكفر، فلا يشترط للتكفير أن يقصد الوقوع في الكفر، وهذا أمر مقطوع به عند أهل السنة، خلافًا لغيرهم.

(4) قال شيخ الإسلام: «مَنْ كفر بترك الصلاة؛ الأصوب أنه يصير مسلمًا بفعلها، مِن غير إعادة الشهادتين؛ لأن كفره بالامتناع؛ كإبليس»(27). 

(5) الصواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه ابن القيم، خلافًا لجمهور الفقهاء، أنه لا يقضي ما تركه عمدًا؛ بل يكثر من التطوع والاستغفار والتوبة(28).

ورجح هذا القول من المعاصرين الشيخان ابن باز وابن عثيمين، وغيرهما.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: «إذا كان الواقع كما ذكرت من التوبة وسلوكك طريق الهدى فليس عليك قضاء ما تركته عمدًا من الصلاة والصيام؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، والمرتد إذا أسلم لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة والصيام في ردته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها».

وعليك أن تحافظ مستقبلًا على أداء الصلاة جماعة في وقتها مع المسلمين في المساجد، وأداء صيام رمضان، ويشرع لك الإكثار من الأعمال الصالحة ونوافل العبادة، من صلاة وصيام وصلة رحم وصدقات، وغير ذلك من أعمال الخير حسب الاستطاعة؛ لقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}»(29).

الخلاصة:

يتلخص مما سبق أن أدلة الذين يكفرون تارك الصلاة فيها مزايا واضحة لم تكن مع الفريق الآخر، ومن ذلك:

الأول: بعض أدلتهم صريح في تكفير تارك الصلاة، وأي تأويل له بغير الكفر المخرج من الملة تأويل مردود غير مستقيم، وغير سالم من الإيراد والاعتراض(30).

الثاني: لم يرد عند من لم يكفِّر دليل يصرح بأن تارك الصلاة مؤمن وليس بكافر، إنما فهموا ذلك من أدلة في فضل الشهادتين، وغير ذلك، وهذا كله له تأويل غير ما ذكروه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وانظر ما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في رسالته.

الثالث: أن فهم السلف، من الصحابة وجمهور التابعين، على ذلك، وليس مع الفريق الآخر صحابي واحد، وليس معهم من التابعين فيما صح سنده عندي غير الزهري، وهو من صغار التابعين.

الرابع: أن من جملة من فهم هذا الفهم جابر بن عبد الله، وهو راوي الحديث، وراوي الحديث أدرى بمرويه(31).

_______________

(1) رواه مسلم (34).

(2) رواه أحمد (22937)، وابن ماجه (1079)، والترمذي (2621)، والنسائي (463).

(3) انظر: حكم تارك الصلاة، للشيخ ابن عثيمين، موقع المكتبة الشاملة، وقد تم الاعتماد عليها في الرد على أكثر الشبهات المعروضة هاهنا، وانظر فتوى الشيخ محمد بن ابراهيم في الموضوع (2/ 107) من فتاويه ورسائله؛ حيث نقل عن ابن حزم وابن حجر الهيثمي أن جمهور الصحابة على كفر تارك الصلاة كفر ردة، وفي «تعظيم قدر الصلاة» (2/ 936) أنه مذهب جمهور أهل الحديث، وانظر بسط الأدلة في المصدر السابق (2/ 873)، والشريعة للآجري (ص133)، وكتاب «الصلاة»، لابن القيم، «الإنباه إلى حكم تارك الصلاة» (ص38)، لعبد الله بن مانع بن غلاب العتيبي.

(4) وأما ما يراه المرجئة من أن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد فيكفي في الرد عليهم قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ...}، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعليقًا عليها: «فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته...»، وقال أيضًا في نفس الآية: «فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له؛ بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام» [مجموع الفتاوى (7/ 220)، وقال أبو عبد الرحمن الباشا: «فمعلوم أن من يقرر أن القول المكفر والعمل المكفر ليسا كفرًا هم الذين أخرجوا العمل الظاهر من الإيمان، وهم عموم المرجئة والأشاعرة وغيرهم من أهل البدع؛ ولذا قالوا: العمل في ذاته ليس كفرًا، ولكنه دليل على الكفر في الباطن، وقد ذكر هذا وركز عليه الشيخ علوي السقاف في كتابه «التوسط والاقتصاد»؛ حيث قال نقلًا عن  الشهرستاني: «وإلى هذا المذهب مال ابن الرواندىِّ وبشر المريسيِّ قالا: «الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعًا والكفر هو الجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه، ولكنه علامة الكفر»، انظر: «الملل والنحل» (1/ 144)، دار المعرفة. ط1404هـ، وقال: و«... من المرجئة أصحاب أبي معاذ التومني...، وكان أبو معاذ يقول: من قتل نبيًا أو لطمه كفر، وليس من أجل اللّطمة كفر، ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له»، انظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 547).

وهؤلاء يخالفون أهل السنة في أمرين في هذا الصدد:

الأول: كون ذات العمل أو القول هو كفر بذاته، وهم يقولون: ليس كفرًا في ذاته، لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنه دليل على الكفر.

الثاني: كونهم يجعلونه دليلًا على الجحد أو التكذيب، وهذا الكفر الذي يقصدونه في قولهم: (دليل على الكفر)، وأهل السنة يجعلونه دليلًا على زوال عمل القلب أو قوله، وهذه الدلالة دلالة لزوم لا دلالة ثمرة ونتيجة، كما قرر شيخ الإسلام رحمه الله، فكيف يقال: إن هذا القول قال به أحد من علماء السنة، فضلًا أن يكون من أعلامها، انظر: مقال بعنوان (ردًا على العتيبي: لا كفر إلا باعتقاد).

(5) والراجح أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومنها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة مانع الزكاة وفي آخره: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، وقد رواه مسلم بطوله في (باب: إثمٌ مانع الزكاة) وهو دليل على أنه لا يكفر؛ إذ لو كان كافرًا ما كان له سبيل إلى الجنة، فيكون منطوق هذا الحديث مقدمًا على مفهوم آية التوبة؛ لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول الفقه [حكم تارك الصلاة، لابن عثيمين].

(6) انظر: مجموع الفتاوى (28/ 519).

(7) تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي (2/ 889)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 903).

(8) رواه مسلم (1854).

(9) رواه مسلم (1855).

(10) رواه مسلم (1709).

(11) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 237).

(12) قال الشوكاني معلقًا على أثر عبد الله بن شقيق: «والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة» [نيل الأوطار (1/ 363)]، فإن قيل: كيف يصح إجماع الصحابة، والعلماء قد اشتهر الخلاف بينهم بعد ذلك؟ فالجواب من وجوه:

1- قد يقال: من قال بعدم التكفير لم يبلغه الإجماع، وفي النفس شيء كثير من هذا الوجه؛ لكثرة من خالف في ذلك، ويستبعد في حقهم جميعًا عدم العلم بذلك.

2- وقد يقال: لعلهم رأوه إجماعًا ظنيًا غير ملزم، بمعنى عدم العلم بالمخالف، وفيه نظر أيضًا؛ لأن هذا العدد الكبير من العلماء إذا كانوا لم يعلموا خلافًا لمن ذكرت أسماؤهم من الصحابة؛ فهذا يدل على عدم وجود المخالف فيثبت الإجماع بذلك.

3- أن يقال: ثبت عندهم الإجماع، لكن تأولوه، كما تأولوا الأحاديث المرفوعة، على أنه كفر دون كفر، ولم يظهر لهم أن هذا الإجماع إجماع على الكفر المخرج من الملة، كما قال المروزي في الصلاة (2/ 925): «ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك، في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها، وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها».

وقد ذهب إلى تأويل أقوال الصحابة بهذا الشيخ الألباني رحمه الله، كما في الصحيحة برقم (87)، وهذا التأويل مردود؛ لأن هناك كثيرًا من الأعمال تركها كفر دون كفر، فلماذا خصصت الصلاة من بين بقية الأعمال بهذا الوصف؟! وهل كان الصحابة لا يرون من الأعمال المتروكة، ما هو كفر دون كفر إلا الصلاة؟! قال شيخ الإسلام بن تيمية: «وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد، التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغًا لم يخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام، مسبوق بإجماع السلف على خلافه، والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا» [الفتاوى (13/ 26)].

وقال: «وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم (ولعلها: جوابًا لهم) عن الجاحد كان جوابًا لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت بالكفر بالتوالي...، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة» [الفتاوى (7/ 613)]، انظر: سبيل النجاة في حكم تارك الصلاة، للشيخ أبي الحسن المأربي، ملتقى أهل الحديث.

(13) رواه الترمذي (2622)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 183)، حديث رقم (579).

(14) حكم تارك الصلاة، لابن عثيمين، وانظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 878)، وما بعده.

(15) تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي (2/ 929)، ونقله عنه ابن القيم في «الصلاة وأحكام تاركها»، ص64.

(16) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (45/ 4).

(17) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 164)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (45/ 12).

(18) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 896).

(19) تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي (2/ 925).

(20) انظر: حكم تارك الصلاة، لابن عثيمين.

(21) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (45/ 4).

(22) قالوا: كأحاديث أن من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ولو لم يعمل شيئًا؛ فيؤخذ من هذا احتمال المغفرة لتارك الصلاة، ما يعني عدم كفره.

(23)  حكم تارك الصلاة، لابن عثيمين، وانظر: سبيل النجاة في حكم تارك الصلاة، للشيخ أبي الحسن المأربي، ملتقى أهل الحديث.

(24) هذا كلام الشيخ ابن عثيمين في شرحه على الزاد (2/ 37).

(25) قال ابن عثيمين: «وعلى هذا فمذهب الإمام أحمد، المشهور عند أصحابه، أنه لا يمكن أن يُحكم بكفر أحد ترك الصلاة في زماننا؛ لأنه إذا لم يدعه الإمام لم نتحقق أنه تركها كسلًا؛ إذ قد يكون معذورًا، لكن إذا دعاه الإمام وأصرَّ علمنا أنه ليس معذورًا» [الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 26)]، مع أن الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى ذهب إلى خلاف ذلك، كما في المصدر نفسه.

ونقل ابن عثيمين عن شيخ الإسلام قوله: «وقوله عليه السلام: «مَنْ تركها فقد كفر»، خصصناه بالامتناع؛ لأن الحديث مقيَّد بمن ليس له عذر بالإجماع، وعند ذلك لا ندري هل له عذر أم لا؟! ومعنا يقين الإسلام، فلا يزال بالشك ولا بالظاهر؛ بل بيقين الترك المذنب على الكفر»، فمن قال: يَكفر بالترك أو بالإصرار عليه، نقول له: نعم، هو كذلك؛ لكن لا يتحقق الترك والإصرار إلا بالصورة التي ذكرناها؛ أي: أن يُدعى فيمتنع حتى يُقتل، قال ابن القيم رحمه الله: «المسألة الثانية: أنه لا يُقتل حتى يُدعى إلى فعلها فيمتنع؛ فالدعاء إليها لا يستمر، ولذلك أذن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت، ولم يأمر بقتالهم، ولم يأذن في قتلهم؛ لأنهم لم يصروا على الترك، فإذا دُعيَ فامتنع لا من عذر حتى يخرج الوقت تحقق تركه وإصراره» [الصلاة وحكم تاركها، ص36].

أما إذا لم يُدع ولم يَمتنع فقد قال فيه شيخ الإسلام رحمه الله: «فأما إذا لم يُدع ولم يَمتنع فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدين في شيء من الأشياء، ولهذا لم يُعلم أن أحدًا من تاركي الصلاة تُرك غسله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه ولا إهدار دمه بسبب ذلك، مع كثرة تاركي الصلاة في كل عصر، والأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد حمل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب» [شرح العمدة، ص92].

(26) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 27)، وقال الشيخ سلمان العودة: ما معنى (التَّرْك)؟ أهو ترك صلاة واحدة مفروضة حتى يخرج وقتها؟ أم تركها وما يجمع إليها، كأن يترك الظهر والعصر، أو يترك المغرب والعشاء؟ وعليه فترك صلاة الفجر وحده حتى يخرج وقتها كفر لأنه لا يوجد ما يجمع معها؟ أم الترك ترك صلاة يوم كامل؟ أم هو أن يصلي ويترك بحيث لا يكون محافظًا عليها، أم هو التَرك بالكلية؛ أي: الترك المطلق؟ وهي أقوال ذكرها ابن حزم وابن عبد البر وابن القيم في كتاب الصلاة، وغيرهم من أهل العلم، وجرى الخلف فيها. وفي [جامع الخلال (2/ 543)] عن الإمام أحمد قال: «قد يحتمل أن يكون تاركًا أبدًا»، وعلى هذا فهو قول للإمام أحمد نفسه؛ ألا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية مطلقًا، وقوّى هذا القول المرداوي في الإنصاف (1/ 378)، ومال إليه ابن القيم، ص60، وقال ابن تيمية: «فأما من كان مصرًا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلمًا؛ بل أكثر الناس يصلون تارة ويتركون تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد...»، انظر: الفتاوى (7/ 578–614)، وهذا القول قوي، انظر: هل تارك الصلاة كافر؟ موقع الشيخ سلمان.

(27) انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (5/ 318).

(28) المرجع السابق.

(29) فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (6/ 45).

(30) وفي أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 447): «... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»، وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر; لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافرًا».

(31) انظر: سبيل النجاة في حكم تارك الصلاة، الشيخ أبي الحسن المأربي، ملتقى أهل الحديث، هذا بالإضافة إلى أنه قد نقل غير واحد الإجماع على كفر تارك الصلاة، ولو تكاسلًا، منهم شيخ الإسلام بن تيمية، الذي نقل عنه أنه قال: «ولأن هذا إجماع الصحابة»، وقال ابن القيم: «فقال هذا بحضرة الصحابة، ولم ينكروه عليه»، يعنون قول عمر: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة»، انظر: الصلاة وأحكام تاركها، ص63.