logo

العودة إلى التربية القرآنية


بتاريخ : الخميس ، 29 محرّم ، 1442 الموافق 17 سبتمبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
العودة إلى التربية القرآنية

القرآن الكريم هو دستور الحياة، ونور الوجود، ومنهج شامل وبيان كامل لكل جوانب الحياة، وهو كتاب تربية واعداد سماوي؛ انطلاقًا من الإيمان بالله الواحد الأحد رب العالمين، فالله تعالى هو رب العالمين، وكلمة الرب مشتقة من التربية؛ وهي تحمل معاني العناية والرعاية والإصلاح والتأديب، وعليه فإن الله الخالق تعالى ذكره هو المربي والمؤدب الإنسان من خلال الأنبياء والرسالات السماوية التي تضمنت أسمى وأرفع القيم الأخلاقية التي ترتقي بالإنسان، وتجعله مؤهلًا لمسؤولية خلافة الله في الأرض.

وفي القرآن الكريم ما يربي النفس البشرية وينمي مداركها للاستقامة على الطريق السوي، ففيه تنمية مدارك النفس بالاعتبار بالأمثال، وكشف لحقائق الآخرة، وبيان لمصير الفريقين ليختار المرء ما يكون فيه تربية نفسه على التقوى والصلاح والهدى والرشاد، وتهذيب النفس بالترغيب والترهيب، وفيه تقوية للكثير من جوانبها بالاعتبار بالقصص، كما فسح المجال لعقله ليجول بفكره في مخلوقات الله تعالى ومجالات أخرى، أحرى بالمرء أن يسير على خطى واضحة نحو الاستفادة من الدروس والعبر، وحينما تتربى الأمة على معاني القرآن الكريم وهديه بالمفهوم الشامل يكون المجتمع أكثر هدوءًا.

إن التربية التي يريد القرآن من الأمة الإسلامية أن تنتهجها هي إكمال الهدى، واستيعاب ما صلح من ماضي الإنسان، واستيعاب ما صلح من حاضره أيضًا، قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، قال ابن عطية في تفسيره: هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، أو شرع لنا كما شرع لهم، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم والذين من قبلنا هم المؤمنون في كل شريعة (1).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37]، والذي بين يديه هي موافقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء قبل القرآن.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المربي الأول لهذه الأمة بالقرآن، فقد أشرف على تربية جيل من الناس؛ فكان ذلك الجيل ظاهرة فريدة عجيبة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا حتى الآن، بحيث استطاع هذا الرجل العظيم أن يعيد بناء الإنسان العربي الجاهلي، ويخرجه من ظلمات التصحر الفكري والعقائدي والأخلاقي والاجتماعي إلى نور الإيمان والمعرفة، وسمو الخلق وسماحة الذات: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [لقمان: 17].

وفي القرآن الكريم نجد أهداف التربية ومواضيعها السبعة وهي: التربية العقيدية، والتربية الخُلقية، والتربية الجسمية، والتربية العقلية، والتربية النفسية، والتربية الاجتماعية، والتربية الجنسية.

وتكمن أهمية التربية في أنها السبب في ازدهار الأمم، وحضارتها، وهي الطريق المُوصِلة إلى تهذيب النفس، وبناء العقول والأفكار، والتربية في القرآن هي التي أخرجت جيلًا متماسكًا لا مثيل له، ونشرت النور في كل مكان؛ فقد بدأها النبي عليه الصلاة والسلام؛ بتكوين العقيدة قبل نزول الأحكام الشرعية، وقد وصف القرآن جيل الصحابة بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

ويتميز المنهج القرآني في التربية بمرونته ومناسبته للظروف، والأزمان جميعها؛ فقد أنشأ جيلًا ذا علاقة وثيقة بجيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، والاهتمام بهذا المَنهج من الأمور المهمة في حياة المسلمين؛ لأنها أمة ذات عقيدة ومبادئ، فينبغي أن تكون هذه التربية خاضعة لهذه العقائد والمبادئ، وكل تربية لا تحمل الرسالة، ولا تصل بالشخص إلى العقيدة الصحيحة، لا تعد تربية إسلامية محكمة.

فمن رحمة الله تعالى أنه لم يترك البشر على فطرتهم فقط، بل أرسل إليهم الرسل على فترات زمنية متقطعة؛ ليدعوهم إلى توحيده، وحل ما أشكل عليهم، ويتميز القرآن بأنه كتاب عالمي إلى قيام الساعة، وهو لم يخصص لقوم معينين؛ ولذلك كانت التصورات التربوية الإسلامية تستقي منه؛ للوصول إلى سياسة تربوية إسلامية تميزها عن غيرها من الأمم؛ لتكون خير أمة أخرجت للناس، وليضبط سلوك أفرادها في مجالات الحياة جميعها؛ بهدف توجيه المسلم إلى عمارة الأرض؛ فهو كتاب يحتوي على أكثر العبادات، والمعاملات، والقيم شمولية، كما أنه يحث على العلم والعمل لله تعالى؛ فلم ينزله الله تعالى للتلاوة فقط؛ وإنما لتتحول هذه التلاوة إلى سلوك واقعي، ولتكون حياة المسلم كاملة لخالقه؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، مما يعني أن التربية الإسلامية لا بد أن تقوم على القرآن، وأن يكون القرآن تبصرة للعاملين في التربية؛ ففيه جميع الأسس التي تنظم حياة الأفراد، وتكفل لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

الخصائص التربوية للقرآن الكريم:

للتربية في القرآن الكريم الكثير من الخصائص؛ فهو الكتاب المعجز، وكتاب التربية الأوّل للمسلمين، وبيان هذه الخصائص فيما يأتي:

الربانية: ويقصد بذلك أنها ربانية المصدر والغاية؛ فهو منهج من عند الله تعالى ليس للبشر علاقة به؛ وهذا لا يعني تعطيل العقل البشري؛ فقد ورد الحث في الكثير من آيات القرآن الكريم على التفكر، والتدبر، وهذا ما أدى إلى تهافت الناس على هذا المنهج.

الشمولية: ويعني ذلك شموله حياة البشر في الدنيا والآخرة، فينظم علاقة المسلم مع غيره من المسلمين، وغير المسلمين، وشموله كيان المسلم الجسدي، والروحي، وتصرفاته وحركاته جميعها، علمًا أن آياته تعاملت مع حدود إمكاناته، وقدراته، ولم تكلفه فوق ما يطيق، كما لم يترك القرآن شيئًا إلا وبينه له؛ قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].

التكاملية: ويعني ذلك تكامله في مجالات الحياة جميعها؛ الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية، وغيرها، وتكامل اتجاهات التربية القُرآنية في مجالات العقيدة، والعبادة، وسلوك المسلم مع الفرد، والجماعة.

الوسطية: ويقصد بها الاعتدال، والقسط، والأفضلية؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، إذ راعى القرآن مكونات الإنسان؛ من جسد، وروح، بشكل متوازن، بحيث لا يطغى جانب على حساب جانب آخر، ونهى عن التشدد، والغلو، والبخل، والتبذير.

الواقعية: ويكون ذلك من خلال النظر في اختلاف البشر في الصفات، والفصائل؛ فهو يتعامل معهم على أساس الخطأ والإصابة، وليس على أساس المثالية، وتحاول آياته الوصول بالإنسان إلى درجة التقوى؛ قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

الوضوح: ويكون ذلك من خلال بعد القرآن عن الغموض، أو الشك، أو النقص؛ فآياته واضحة، وتوجيهاته جلية.

اليسر والسهولة: ويتبين ذلك من سهولة تعاليمه؛ أي سهولة تطبيقها، والالتزام بها؛ إذ إنّها تكون ضمن حدود طاقة البشر.

الإيجابية العملية: ويكون ذلك من خلال حث المسلم على العلم، والعمل، والتعليم، وعدم الاكتفاء بالتعلم فقط؛ فهو يحث على الإيجابية، والفعالية، والتفاعل مع الآخرين.

التدرج: إذ تحتاج التربية إلى تدرج؛ فهي ليست عملية تحول مفاجئ في سلوك الأفراد؛ فالطباع البشرية تحتاج إلى تقريب، وتجريب، وهو الشيء الذي راعاه القرآن في تربيته الإنسان، ومن أمثلة ذلك التدرج في تحريم الخمر؛ فقد كان الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يشربون الخمر ويحبونها؛ ولهذا كان تحريمها على مراحل عدة هيأت لتقبلها، والاستسلام لأمر الله تعالى فيها.

الأساليب التربوية في القرآن:

تعددت الأساليب التربوية في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وتنوعت؛ وذلك من حكمة الله تعالى في معالجته النفس البشرية؛ حتى يتربى الإنسان من خلالها على تعديل سلوكه؛ فيرتقي بنفسه، إذ إن كل أسلوب منها ينفذ إلى نفس الإنسان من خلال أحد منافذها، مما يؤدي في النهاية إلى الانتفاع بهذه الأساليب كلها، والتي منها ما يأتي:

التربية بالعِبرة والمَوعظة:

إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وهذا الأسلوب يربي النفس البشرية على العقيدة، والأخلاق، ويبين له واجباته من خلال أسلوب لطيف.

التربية بالقصة القرآنية: وقد قال تعالى عن القصة القرآنية: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وهي من أكثر الأساليب تشويقًا وفعالية في تعديل السلوك، وخاصة أنها ذات أغراض أخلاقية.

التربية بالقدوة الحسنة:

إذ يربي القرآن المسلم على الاقتداء بغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ فيبرأ المسلم من الشرك، والمشركين، كفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام، ويصبر كفعل نبي الله داود عليه السلام، وهكذا يتعامل مع الأنبياء جميعهم، ويشار إلى أن الله تعالى بعد أن ذكَرَ عددًا من الأنبياء في القرآن الكريم، قال: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فيلتزم المسلم بالدعوة إلى الحق، وعدم اتِّباع أولياء الشيطان.

التربية بالترغيب والترهيب:

ويتعامل القرآن بهذا الأسلوب بالقدر الذي يقوم به النفس البشرية؛ ليسير المسلم على رضا الله تعالى، ويفوز بجنته، وينجو من عقابه، وهما أمران متلازمان؛ فمن الناس من لا يؤثر فيه إلا الخوف، ومنهم من لا يؤثر فيه إلا الترغيب والثواب، ويظهر ذلك واضحًا في آيات كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة: 9- 10].

التربية بالتدرج:

إذ يستخدم القرآن هذا الأسلوب في التربية الإسلاميّة؛ فقد نزل القرآن مفرقًا؛ فبدأ بذِكر الجنّة والنار، ثُمّ الحلال والحرام، وجاء هذا التدرج في الحديث الذي ورد عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام، قال: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا (2)، وفي ذلك إشارة إلى الحكمة الإلهية في ترتيب تنزُّل القرآن الكريم؛ وذلك لتطمئن النفس البشرية بما أنزل إليها من أحكام؛ لأن النفس مجبولة على النفور من تَرك المَألوف.

التربية بالعِبرة وضرب الأمثال:

إذ تؤثر العبرة في الحس الإنساني، وتدعو الإنسان إلى التفكر، وهو أحد الأساليب القرآنية العظيمة؛ قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِمّا في بُطونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبينَ (66) وَمِن ثَمَراتِ النَّخيلِ وَالأَعنابِ تَتَّخِذونَ مِنهُ سَكَرًا وَرِزقًا حَسَنًا إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَعقِلونَ (67)} [النحل: 66- 67]، أي أن الأكل الذي يدخل في بطونها يسري إلى مكانه بعد أن يتم امتصاصه في المعدة دون أن يختلط بغيره، أو يتغيّر به؛ فيصير إلى دم يسري في العروق، ولبن يسري إلى الضرع، وروث يسري إلى المخرج، وبول يسري إلى المثانة، وهكذا حتى يخرج في النهاية لبنًا صافيًا غير مُمتَزج بغيره، وتضرب الأمثلة في القرآن الكريم؛ كي تؤخذ منها العبرة، ويتدبر المسلم فيها، كما في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

المبادئ التربوية في القرآن الكريم:

للتربية في القرآن العديد من المبادئ، وبيانها فيما يأتي:

الوحدانية:

إذ يتفرد الإسلام بهذا المبدأ عن سائر التصورات الفلسفية الأخرى؛ لأنه تصور ينشأ من القلب، والعقل، ويؤثر في سلوك المسلم؛ فيكون منضبطًا؛ إذ إن من يؤمن بمبدأ التوحيد؛ أي وحدانية خالق الحياة، والإنسان، والكون، لا يمكن أن يستعلي على أحد، أو يظلم أحدًا؛ لأنّه يحترم التزامه بهذا المبدأ، ويحتم ذلك عليه التزامه بمبدأ الاستخلاف في الكون دون فساد، أو إفساد.

وحدة النفس الإنسانية:

إذ ترعى التربية الإسلامية وحدة النفس البشرية؛ من جسد، وعقل، وروح، كما تراعي القدرات التي يمكن للمسلم استخدامها في الخير، والشر، وفي الحق، والباطل، والقرآن بأسلوبه يخاطب مكونات النفس البشرية جميعها؛ ليصل إلى شغاف قلب قارئه، ويترك فيه أثرًا لا يفارقه وهو يتلو آياته.

الفطرة البشرية:

ينظر القرآن إلى الإنسان على أنّه قد وصل إلى المستوى الذي رشحه الله تعالى له؛ ويتمثّل في أن يكون خليفته في الأرض؛ فهو أمر ممنوح له بالفِطرة العامة، والخاصة، وهو موجود في التكوين العضوي، والعقلي، والوجداني للإنسان.

التعلم والتعليم:

ويكون ذلك من خلال الجمع بين العقل والحس، والنظريّة والتطبيق، وتنمية الفكر والتأمل؛ فالمؤمن يبدأ بالنيّة والتخطيط، ويبدأ بالعمل، مع ضرورة حسن الإدارة، والتنظيم الجيد (3).

وإذا كانت التربية تحول وتطور وتنقل من حال إلى حال، ومن درجة إلى أعلى، فالقرآن هو الذي أحدث هذا التحول للبشرية بعد نزوله، وطبّقته الأمة المصاحبة لمن نزل عليه هذا القرآن النبي الرؤوف المربي صلى الله عليه وسلم فبعد أن كانوا في صراع ونزاع وتخبط في شتى نواحي الحياة، أصبحوا إخوة متحابين متآلفين، { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]، بتوفيقه ثم بتطبيق تعاليم التربية القرآنية، فبها ترقّوا في مراحل التربية حتى وصلوا إلى الذروة والكمال، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.

إن من ميزة هذا القرآن إحداث التحول والتبدل كما يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، يقول ابن كثير: لوكان في الكتب الماضية كتاب تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن، هو المتصف بذلك دون غيره (4).

فهذا القرآن هو الذي ربى الأمة على الإيمان، وحولها من الجاهلية إلى العلم والمعرفة والهداية، ومن الظلم إلى العدل، ومن الأخلاق الذميمة والشنيعة إلى الأخلاق الفاضلة والمرضية، فهو كتاب يمتاز بخصيصة التغيير، وما الوقائع على مر العصور ببعيد قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [الحشر: 21].

قال ابن عباس: يقول تعالى: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حمّلته إيّاه، لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] (5).

فما أروع تأثيرات هذا القرآن، إذ لو أنزل على جماد غير عاقل صلب قويّ لأحدث فيه تغييرًا، من خشوع وتصدع وهو سبحانه وتعالى القادر على كل شيء، وليس غريبًا حصول التخشع من غير العاقل، ففي الحديث أن الصحابة رضوان الله عليهم سمعوا خوار الجذع، حينما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر، حتى ارتج المسجد بخواره، حزنًا عليه.

والشواهد القرآنية على أهداف التربية ومواضيعها كثيرة ولكن قبل استعراضها لا بد من الإشارة الى أمرين أساسيين:

العبادات وآثارها التربوية:

مما لا شك فيه أن العبادات التي افترض الله على عباده تأديتها والتزامها لا تخلو من أهداف انطلاقًا من حكمة الله المتعالية في التدبير والتشريع، وقد ننظر إلى حكمة التشريع وغاياته والمصالح المرجوة منه من زوايا متعددة؛ إلا أننا قد نغفل أحيانًا النظر الى الجانب التربوي الذي أراد الله تعالى تعزيزه من خلال العبادة أو التشريع، فلو أخذنا الصلاة على سبيل المثال وهي رأس العبادات وعامود الدين وقربان المؤمن ومعراج كل تقي، فقد ننظر إليها من زاوية معينة على إنها عبادة يراد من خلالها التواصل مع الله، واظهار الخضوع والعبودية له، ولكن لو تأملنا في حكمة هذا التشريع وأبعاده أكثر لوجدنا أن الصلاة هي عبادة تربوية بامتياز، فهي:

أولًا، شكر لله تعالى على نعمه الجليلة، والشكر هو سلوك تربوي ايجابي تتبناه الفطرة السليمة ويفرضه العقل ويستحسنه العرف {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

وثانيًا، تهذيب للنفس، وتطويع لها على طاعة الله والابتعاد عن المعاصي والموبقات الأخلاقية: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

وهي ثالثًا: سمة الصلحاء والأتقياء الموصوفين بالخلق العالي والسمعة الطيبة والأفعال الحميدة: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 63- 64].

وهكذا بالنسبة لعبادة ثانية، وهي الصوم الذي بين الله تعالى الغاية والهدف منه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فالصوم عبادة روحية تربوية تهذيبية ليس المراد منها صيام البطون عن الطعام -وان كان للجسد نصيبه من فوائد الصوم- وإنما المطلوب صيام الجوارح عن الحرام وإلى هذا الهدف تشير الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما؛ فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تخالفوا، ولا تسابوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله.

واذا أخذنا عبادة الحج أيضًا، وحاولنا أن ندرس أبعادها التربوية؛ فإننا نجد أنها تستهدف الشخصية الإنسانية وتتعاهدها بالتربية، انطلاقًا من كون الحج محطة للرجوع إلى الله ومراجعة الذات، فالمناسك الواجبة في الحج بدءًا بالإحرام فالطواف، ثم السعي والرجم وغيرها تريد للإنسان المسلم أن يخرج من كل ولاء أو تبعية لغير الله تعالى، وأن يطوف داعيًا ملبيًا نداء الفطرة نداء التوحيد، ثم تريد له أن يخرج من كبريائه وعلوه، وأن يتواضع لله، ثم للناس الذين تجمعه بهم وحدة الخلق؛ إن لم نقل وحدة الدين، وتريد له هذه العبادة العظيمة أن يرجم شيطان نفسه ويتبرأ من كل الشياطين أينما وجدوا وحلوا؛ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] (6).

_____________

(1) تفسير ابن عطية (2/ 40).

(2) أخرجه البخاري (4993).

(3) التربية في القرآن الكريم/ موضوع.

(4) تفسير ابن كثير (2/ 516).

(5) تفسير ابن كثير (8/ 78).

(6) المنهج التربوي في القرآن الكريم/ موقع الخيام.