logo

حرب الإعلام على دعاة الإسلام


بتاريخ : الأحد ، 19 رمضان ، 1439 الموافق 03 يونيو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
حرب الإعلام على دعاة الإسلام

قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذَىً كَثِيرًا} [آل عمران:186].

إنها سنة العقائد والدعوات، لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حفت الجنة بالمكاره، بينما حفت النار بالشهوات.

ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.

ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون؛ وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال؛ وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة، فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة وتنميها وتجمعها وتوجهها(1).

الحرب الإعلامية هي أحد وجوه الحرب الصليبية المعاصرة على الإسلام، وهي مبنية على أسس من الدراسات النفسية والاجتماعية الموجَّهة، ولا يقل توظيف المعلومة عن توظيف الصاروخ أو الرادار، وقد جاء في القرآن التحذير الشديد من أساليب اليهود والمنافقين بهذا الشأن، ومنها التخويف، والإرجاف، والإفك، وتضليل الرأي، وإطلاق الإشاعات، وكتم الحق، وتحريف القول، وبذر الشقاق بين المؤمنين...، وغيرها مما يطول ذكره وشرحه.

ولم تزدهم الوسائل الحديثة والتجارب المدروسة إلا قوة في المكر والكيد، ولكن الحق أقوى؛ لأنه حق، وما على المسلمين إلا الاجتهاد في مقاومة الباطل بقدر ما يستطيعون، مع الثقة بأن الله تعالى لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين.

ومنذ أن بدأت المعركة بين الحق والباطل راح الأعداء من إنس وجن يكيدون المكائد لأهل الحق، ويحيكون لهم الدسائس، ويسخِرون كل ما يملكون للقضاء على الدين الحق، ولم يتوانوا عن استخدام أي وسيلة، ومهما بلغت من البشاعة والخسة إلا واستعملوها في حربهم تلك، وجاءت حرب الإعلام لتتبوأ قائمة الوسائل تلك، وأخذت هذه الحرب حظها من الاضطراد والتطوير حتى بلغت مداها في أيامنا هذه.

ولعل ما جرى لأنبياء الله سبحانه من إعراض وعناد ومحاربة على أيدي أقوامهم، ولم يدع الطواغيت أنبياء الله ورسله ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الله سبحانه، فجربوا كل الطرق لإعاقة مسيرة هذه الدعوات، وأشاعوا بين الناس زورًا وبهتانًا الأكاذيب والأباطيل، متهمين خير خلق الله بشتى التهم، واصفين إياهم بأقذع الأوصاف، كل ذلك ليطفئوا نور الحق الذي جاءوا به، ولينشروا بدلًا عنه ظلمة الباطل الذي ألفوه، ويحلوا قومهم دار البوار، وهيهات، فالله تعالى قالها وهو أصدق القائلين: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، ولم يثن رسل الله وأنبياءه ما يكيد به الأعداء؛ بل مضوا في طريقهم ليبلغوا رسالات الله، لا يخافون فيه لومة لائم كما وصفهم الرب سبحانه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39] .

لقي رسل الله ما لقوه من أذى وعنت من أقوامهم، ولم يتبعهم على الطريق إلا من شرح الله صدره للإيمان، ولكن أولئك المعرضين عن دين الله لم يقفوا عند الإعراض وعدم الاستجابة؛ وإنما راحوا يطلقون عليهم الأوصاف الكاذبة بغية تنفير الناس منهم، فهذا موسى عليه السلام ماذا قال عنه فرعون وملؤه: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، وفي موضع آخر: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)} [طه:62-63]، فتارة يصفونه بالجنون، وأخرى بالسحر هو وأخاه هارون عليهما السلام.

أما لوط عليه السلام فماذا كانت تهمته بنظر دعاة الرذيلة وأهل الفساد: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، فالطهارة والعفة تهمة بنظرهم، وهذا ما عليه سماسرة الرذيلة ومروجو الفساد هذه الأيام، وهكذا لم ينج نبي ولا رسول من اتهام كاذب وادعاء باطل من أولئك الكبراء والمارقين؛ لأن هذه الدعوات لا تناسب عقولهم المريضة، ونفوسهم الخائرة، وقلوبهم الميتة، فالدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك والوثنية ستكون بنظرهم سببًا لزوال ملكهم وذهاب هيبتهم، فضلًا عن التكاليف التي ألزمتهم بها تلك الدعوات من ترك للمحرمات، وفعل للطاعات؛ مما جعلهم يناصبون العداء لكل من يدعو إلى الخير، ابتداءً من رسل الله عليهم السلام، وانتهاءً بكل مجاهد يقاتل في سبيل الله، وينافح عن الحق المبين، أو داعية يدعو إلى العقيدة الصحيحة والمنهج القويم.

الإعلام الموجه ضد سيد البشر صلى الله عليه وسلم:

عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخوض غمار الدعوة والجهاد، هو ومن معه من الصحابة الكرام، داعين إلى الله مبشرين ومنذرين، انبرى الأعداء من كفرة ومنافقين ليضعفوا جبهة المسلمين؛ وذلك باستخدام وسائل المكر والخديعة من خلال بث الإشاعات ونشر الأكاذيب.

1- الحملة الإعلامية الهادفة إلى تشويه الدعوة:

واستمرت الحملة الإعلامية التي يقودها كبار قريش من المشركين، ومن ورائهم اليهود والمنافقون وأتباعهم من أهل الدنيا؛ لكي يبعدوا الناس عن هذا الدين، جنبًا إلى جنب مع حملات القتل والتعذيب والتشريد والإبعاد، واجتمع سادة قريش وكبراؤها ليتفقوا على صيغة الحرب الإعلامية التي سيشنونها على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا سيما فإن مكة هي ملتقى القبائل وقبلة الحجيج، وأنهم لا محالة سامعون بهذا الدين، فلا بد أن يستبقوا الأحداث قبل أن تصل الحقيقة إلى مسامعهم فيدخلوا الإسلام، وتولى كبر هذه الحملة الوليد بن المغيرة، ولنستمع إلى ما كان يخططه المشركون للنيل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قال الوليد بن المغيرة: «يا معشر قريش، إنه قد حضر الموسم (الحج)، وأن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا»، فقالوا: «فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به».

قال: «بل أنتم قولوا أسمع»، فقالوا: «نقول كاهن»، فقال: «ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه»، فقالوا: «نقول مجنون»، فقال: «ما هو مجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته»، فقالوا: «نقول شاعر»، فقال: «ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر»، فقالوا: «فنقول ساحر»، فقال: «ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده» .

فقالوا: «فما نقول يا أبا عبد شمس؟»، قال: «والله، إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، فقولوا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته»(2).

ويتضح من هذه القصة أن الحرب النفسية المضادة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن توجه اعتباطًا، وإنما كانت تعد بإحكام ودقة بين زعماء الكفار، وحسب قواعد معينة, هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النفسية في العصر الحديث، كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمع الناس في موسم الحج، والاتفاق وعدم التناقض، وغير ذلك من هذه الأسس حتى تكون حملتهم منظمة، وبالتالي لها تأثير على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوة منها، ومع اختيارهم للزمان المناسب, فقد اختاروا أيضًا مكانًا مناسبًا حتى تصل جميع الوفود القادمة إلى مكة(3).

2- المحرضون على الفتن:

أ- كعب بن الأشرف:

ذلك اليهودي الذي سخر شعره لهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، والطعن بالمسلمين، والتشبيب بنسائهم، ولقد هال هذا الكافر ما أصاب أقرانه من مشركي قريش من مقتلة على أيدي جند الإسلام، فراح يقول الشعر حزنًا على أصحابه في قليب بدر، ومحرضًا على الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، واستمر بعدائه وهجائه، فقد روى البخاري خبر مقتله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله»، قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: «نعم»، قال: فأتاه، فقال: إن هذا [يعني النبي صلى الله عليه وسلم] قد عنانا وسألنا الصدقة، قال: وأيضًا، والله لتملنه، قال: فإنا قد اتبعناه، فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله(4)، وهكذا قُتل هذا الكافر اللعين على يد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأراحوا المسلمين منه.

ب- إثارة نعرات الجاهلية بين صفوف الصحابة:

وظهر ذلك جليًا بعد غزوة بني المصطلق، عندما سعى المنافقون إلى إحداث الفتنة بين المسلمين، لما رأوه من نصر للمسلمين فازدادوا غيظًا، وملأ قلوبهم الحقد، فما كان منهم إلا أن نبشوا في ماضي الجاهلية ليشعلوا نار العصبية بين المهاجرين والأنصار.

وفي حديث الإفك كان دور المنافقين، ولم يزل، هو التصيد في الماء العكر، وترصد الأخطاء، وإشاعة الأكاذيب، وتضخيم الأخبار، وتسعير الفتن، وبث الخلافات والإيقاع بين الآخرين، ولنا في حديث الإفك مثالًا، وكيف استغل المنافقون خطأ بعض الصحابة ليستخدموها في إثارة الفتنة والإساءة إلى أم المؤمنين عائشة، المبرأة الصديقة رضي الله عنها، التي برأها الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، إلى آخر الآيات .

ج- إرجاف المنافقين في غزوة الأحزاب:

تتحدث سورة الأحزاب عن دور المنافقين في السعي إلى تثبيط المسلمين وإرجافهم، ولا سيما فإن حال المسلمين كان من الشدة والكرب بمكان أن وصفهم القرآن بقوله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، فظهر دور أهل النفاق ومن في قلبه مرض ليقول ما تحدث به القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]؛ بل إن بعضهم تذرع بقوله: إن بيوتنا عورة، فقال الله تعالى عنهم: إن يريدون إلا فرارًا: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].

وهكذا كانت الحرب الإعلامية لها دور كبير، وإن لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة التي في زمننا، لكنها قريبة منها.

الحرب الإعلامية المعاصرة:

وتعد هذه الحرب واحدة من أشد الحروب ضرواة وتأثيرًا، دأبت على شنها القوى المعادية للإسلام في محاولاتها المستمرة لتضليل الأمة وحرفها عن الحق، وذلك من خلال وسائل عدة، أوجزها فيما يلي:

أ- إشاعة الأخبار الكاذبة:

يطلق الأعداء الأخبار المفبركة والدعايات المضللة لتشويه صورة الدعاة والمجاهدين، وإلصاق التهم الكاذبة بهم، مستخدمين وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وبنفس الدرجة من التناغم والتنسيق، بحيث تسمع نفس الخبر في العديد من وسائل الإعلام، حتى يصبح الخبر من المسلمات لدى الكثيرين، وهم لا يدرون بأن الخبر ليس سوى أكذوبة رددت كي تستقر في أذهان من يسمعوها فيصدقوها، ومن ثم يطيرون بها في الأفاق وهم يعتقدون بأنهم يحسنون صنعًا، ولهذا حذر القرآن من سماع أولئك المرجفين والكاذبين المنافقين والإصغاء لهم، يقول تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] .

ب– تحريف الحقائق وتضليل الأمة: ويستخدم الأعداء وسائل عديدة لهذا الغرض، ليس أقلها من يسمونهم بالمشايخ أو (علماء السلطان)، الذين رضوا بأن يكونوا مطية الكفار وأعوانهم، وراحوا يطلقون الفتاوى الضالة، التي تحاول ثني المسلمين عن الدفاع عن دينهم بحجة الضعف وعدم القدرة، إضافة إلى فتاوى ما يسمى بفقه التيسير، التي تميع الدين، وتفسح المجال لشيوع المفاسد والآثام، وبالمقابل فإنهم لا يتورعون، وتحت ذرائع شتى، عن دعوة المسلمين إلى مهادنة الأعداء، والارتماء في أحضانهم، والرضا بذلهم ومهادنتهم، والقبول باحتلالهم، وفي نفس الوقت يصدرون الفتاوى التي تجيز موالاة الأعداء؛ بل ونصرتهم على المسلمين، وفتح البلاد لجيوش الصليب تحت طائلة الاتفاقيات والمعاهدات والمصالح المشتركة.

ج– تلميع الصور وتبييض الصفحات: لا يعجز الأعداء من خلال وسائلهم الإعلامية عن تلميع صور من يستخدمونهم في مهماتهم القذرة، وتبييض صفحاتهم السوداء المليئة بالجرائم، كما يحصل مع أولئك الحكام الذين باعوا العباد والبلاد، ومع القتلة والمجرمين سفاكي الدماء البريئة.

هذا هو الإعلام المعاصر، يرفع السفلة ويخفض الأشراف، ولكن هذا لا يهم، فالمهم هو مكانتهم عند ربهم وخالقهم، والمهم هو ما ستئول إليه الأمور في النهاية، فالعبرة بخواتيمها، والعاقبة للمتقين، أما أولئك الصعاليك، من أسافل القوم وخدام الأعداء، فلن يستطيع إعلام، ومهما بلغت درجة كذبه وتزويره، أن يمسح عنهم جرائمهم ولا عار خيانتهم لأمتهم، هم ومن اتبعوهم إلى يوم الدين.

لقد درج الإعلام المعاصر الموجه والمسيس على زرع الخوف والخور في قلوب المسلمين، وبالمقابل فإنه يسعى إلى إبراز العدو وإظهاره بأنه القوة التي لا تقهر، لكي لا يرفع للمسلمين رأسًا، ولا يفكروا يومًا بمقاومة أعدائهم، واسترداد حقوقهم المسلوبة منهم.

ولقد لعبت الحرب النفسية وما زالت تلعب الدور المهم في الإعلام المعادي، بغية زرع اليأس والإحباط في نفوس المسلمين، ومن أساليب هذه الحرب لَفْت الأنظار من مكان يدور فيه الحدث الحقيقي إلى مكان آخر بعيدًا عن دائرة الصراع؛ بغية الإشغال وتحويل الاهتمام، ومنها استغلال بعض الأحداث العالمية لتمرير مخططات معينة(5).

فقه التعامل مع الأخبار:

الإعلام اليوم يمارس نوعًا من التحوير للخطاب الإعلامي، والعبث في صياغة أخباره، جريًا على المصالح السياسية! فهو اليوم فاقد لمصداقيته وحياديته في كثير من أخباره، وعليه فإن علينا أن نقف من هذه الإذاعات والقنوات الإخبارية موقف التمحيص والتدقيق كما في التوجيه الرباني: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].

الأمر يحتاج إلى نوع ذكاء في التعامل مع الأخبار، وذلك بالنظر إلى عدة مصادر لها استقلاليتها، وإجراء شيء من المقارنة بينها لمعرفة قدر التوافق والتعارض.

ومن فقه التعامل مع الأخبار حسن النقل واختيار ما يصلح إذاعته منها مما لا يصلح، فكما أنه ليس كل ما يُقال يصح، فليس كل ما يُعلم يُقال، يقول تعالى: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

يقول ابن سعدي رحمه الله معلقًا: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر؛ بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرّزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو منه مصلحة لكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه»(6).

لقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم بنقض يهود بني قريظة للعهد وهو في شدة الأحزاب، والجيوش قد تجمعت حول المدينة، وقد زاغت من المؤمنين الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فأرسل السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير رضي الله عنهم يستطلعون الخبر، وقال لهم: «انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقّ ما بلغنا عنهم؛ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه [أي: ورُّوا بكلامكم تورية أفهمها عنكم دون غيري]، ولا تفتّوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس»، فخرجوا حتى أتوهم واستطلعوا الخبر، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر بني قريظة، وأنهم قد نقضوا العهد، وكَنَّوا بذلك لرسول الله فقال: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين»(7).

لقد كان في إظهار خبر نقض قريظة للعهد فتٌّ في عضد المسلمين، فأخفاه صلى الله عليه وسلم استبقاءً لهم؛ بل تجاوز ذلك إلى بعث روح الطمأنينة فيهم؛ حيث كبَّر وبشَّرهم بالنصر.

إن من الأخبار ما يكون صحيحًا لكنه غير صالح للنشر، ثم ما كان منها صالحًا للنشر فلا يصح أن ينشر بصورة ترعب المسلمين وتزيد من وجلهم؛ لأن ذلك في الحقيقة استدراج من العدو للوقوع في أسر الحرب الإعلامية، التي ما هي إلا طليعة العدو في حربه المتواصلة علينا.

إن على المسلمين أن يصلوا إلى مستوى رفيع في الفهم، وأن يفقهوا الخطاب الإعلامي ويعلموا أنه موجه، وأنه في كثير من أحيانه يفتقد إلى المصداقية(8).

إن من نافلة القول أن إعلام أيّ دولة سيخدم مصالحها ولا بد، وسيكون داعمًا لسياستها ولا ريب، وقل لي بربك: ما هي أبرز المصادر الإعلامية اليوم؟ أليست في يد أعدائنا، هل ننتظر من أعدائنا في صياغة الخبر أن يراعوا أوضاعنا وأن ينطقوا بالصدق؟

على المسلم ألَّا يكون مذياعًا وبوقًا لكل ما يقال؛ فقد عاب الله ذلك على بعض من كان في المدينة ممن يلقي أذنه لقالة اليهود وإرجاف المنافقين {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، أما المؤمن الفطن فكما قال عمر رضي الله عنه: «إن لله عبادًا يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره»(9).

وحين يقول كل ما يعلم يكون كحاطب ليل، يهذي بما لا يدري، ولا يسلم من زلل وخطيئة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع»(10)، وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بئس مطية الرجل زعموا»(11).

ومن لا يحسن الكلام فعليه بالصمت، فـالصمت حكمة، قال ميمون بن مهران: «لبث شريح في الفتنة تسع سنين لا يُخبر ولا يَستخبر»(12)، وفي الحديث الحسن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صمت نجا»(13)، والصمت الذي يكون فيه النجاة حيث لا يدري وجه الحق والصواب، أو لا يكون في الحديث مصلحة.

إن فتنة اللسان ليست بأقل من فتنة السنان؛ بل هي باعثة له محرضة عليه، وقد روي: «إن الكلام في الفتنة دم يقطر»(14)، وجاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: «الفتنة تُلْقَح بالنجوى، وتُنْتَج بالشكوى»(15)، ورحم الله الربيع بن خُثَيْم، فإنه لما قيل له: قُتِل الحسين! قال: «أقتلوه؟»، قالوا: «نعم!»، فقال: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46].

قال ابن العربي معلقًا: «ولم يزد على هذا أبدًا؛ فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين»(16).

ثم على المسلمين أن يعرفوا مسئوليتهم تجاه علمائهم ودعاتهم وأهل الرأي والعقل فيهم، فيحفظوا لهم قدرهم ويعرفوا لهم مكانتهم، ويرجعوا إليهم في ملمّاتهم، ويصدروا عن رأيهم، ويحيطوا بهم عند الأزمات: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].

الحرب الإعلامية على العلماء لا تنقص من قدرهم، ولا تغطي آثارهم وعلومهم، وقد أثبت التاريخ ذلك، فقد حاول الحكام على مر التاريخ تشويه العلماء الربانيين، وسخروا لذلك كل طاقاتهم المادية والمعنوية، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد زاد ذلك من تخليد علومهم وحفظ قدرهم.

فهذا الإمام مالك تعرض لما تعرض له، وذاك ابن حنبل أصابه ما أصابه على أيدي الحكام، ومن بعده ابن حزم وما تعرض له من المحن حتى حرقت كتبه، ثم ابن تيمية وما تعرض له من السجن ومحاولة تشويه علومه بأنه يدعو إلى التكفير، وإلى زعزعة الأمن، وأنه يسب العلماء.

ما أحوج الحركة الإسلامية اليوم، التي تخوض معركتها العسكرية، أن تعطي الجانب الإعلامي حقه، وطبيعة الحرب العالمية اليوم حرب إعلامية، فالمعسكران يبتعدان ما استطاعا عن الصدام والمواجهة العسكرية، لكن حربهم المستمرة اليومية تنطلق من وسائل الإعلام، وإن ثقة الناس بإعلام الحركة يعني ثقة الناس بها، وإذا كان الشعر وحده أيام الرسالة الأولى هو الوسيلة الإعلامية الأكبر، إن لم تكن الأوحد، فوضعنا اليوم يختلف كثيرًا عن سالفه.

إن وسائل الإعلام اليوم تسد الأفق، ولا يأخذ الشعر إلا حيزًا محدودًا جدًا منها، فهناك الموعظة، والخطبة، والمقالة، والأقصوصة، والقصة، والتعليق السياسي، والتحليل الإخباري، والمادة الإخبارية، والأناشيد الحماسية، كل هذه ذات أثر خطير في الواقع الإعلامي.

إضافة إلى وسائل البث الإعلامي، من إذاعة، وتلفاز، وجريدة، ومجلة، وكتاب، وتسجيل سمعي وبصري، كلها غدت تتحكم في قلوب البشر وعقولهم وتفكيرهم، وتوجه قناعاتهم، وتبني عقائدهم.

إن المعركة من الخطورة والدقة والأهمية ما يجعل الحكم على نجاح المعركة من خلال نجاح إعلامها والثقة به والتعامل معه، وأملنا كبير أن توجه الحركة الإسلامية طاقاتها لتكوين الاختصاصيين المبدعين في هذا الفن، ويملكوا مقود الفكر والعاطفة، ليحققوا القاعدة الأساس التي يقوم عليها صرح البناء الجهادي، فيكون كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم:24-25]، إنها مواصفات واضحة للكلمة الطيبة، إنها من الأصالة والصدق ضاربة جذورها في الأرض، فلا يزعزعها كل بهرج الدنيا وزخرفها، وهي من جهة ثانية منتشرة في كل صقع، وطالت فروعها الباسقة حتى عمت الأرض وامتدت للسماء، وهيمن من جهة ثالثة مثمرة ترعاها عناية الله، تحقق أهدافها التي قامت من أجلها كاملة، ويكون ثمرها مذاقًا لكل قارئ أو راء أو سامع، وفقدان أي من هذه المواصفات الثلاثة يعني أننا لم نصل بعد إلى الكلمة الطيبة التي نريد(17).

***

_______________

(1) في ظلال القرآن (1/ 539).

(2) سيرة ابن اسحاق، ص151.

(3) الحرب النفسية ضد الإسلام، ص103.

(4) أخرجه البخاري (3031).

(5) حرب الإعلام على أهل الإسلام، محمد بن زيد المهاجر.

(6) تفسير السعدي، ص190.

(7) سيرة ابن هشام (2/ 191).

(8) معالم في فقه الفتن والأزمات، مجلة البيان (العدد:224).

(9) حلية الأولياء (1/ 55).

(10) أخرجه أبو داود (4992).

(11) أخرجه أبو داود (4972).

(12) السنن الواردة في الفتن، ص96.

(13) أخرجه الترمذي (2501).

(14) السنن الواردة في الفتن، ص89.

(15) بهجة المجالس (2/ 470).

(16) العواصم من القواصم، ص180.

(17) المنهج الحركي للسيرة النبوية (2/ 370).