الرصيد الدعوي
مقام الدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد، يعني أعلى درجات العبادة أن تدعو إلى الله، والدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، الدعاة إلى الله ينوبون عن المرسلين في الدعوة إلى الله، والناس تبع لهم، والله سبحانه وتعالى قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه، وعصمته من الناس، الآمر ضامن، إذا أمرك أن تدعو إليه هو يضمن لك سلامتك، ويضمن لك التوفيق، ويضمن لك أن تُزال العقبات من أمامك، وأن تصان من الصوارف، وهكذا المبلغون عن أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية.
ولقد كان رصيد الدعاة دومًا محبة مجتمعاتهم وثقة الناس بهم؛ ذلك أنهم يصدرون عن أخلاق عظيمة، ويتحلون بالحكمة التي تنبع من نصوص الشرع الشريف، ومن التجربة العملية للإسلام، ولم يكونوا من أسباب تأزيم المجتمعات، ودفعها إلى التناحر المؤكد على خلفية المواقف الحادة التي تشكل مصدرًا لإثارة المخاوف، وتفجر الصراعات.
إن المدقق في عناصر عملية الدعوة يخرج ولا بد بأن قيام أمر الدعوة لا يقتصر على إيضاح حجة وبلاغة بيان، فهما بالرغم من أهميتهما يشتركان جنبًا إلى جنب مع عناصر أخرى عديدة؛ لإنجاح حجية البلاغ من قِبَل الداعي.
ومن هذه العناصر ما يمكن أن نطلق عليه (رصيد الداعي لدى المدعو)، ونعني بذلك: رصيده من الثقة، في أمانته وعلمه، والطمأنينة إليه؛ ليكون هذا الرصيد مُوَطّئًا لاستجابة المدعو إذا أراد الله له الهداية، أو أبلغ في استحقاق النقمة إذا انتكس وأبى إلا الغواية.
ورصيده العلمي في تحصيل العلوم ودفع استشكال الفهوم، وتبيين الحق وفضح الباطل.
أولًا: الرصيد الأخلاقي:
وهناك إشارات عديدة في الكتاب والسنة إلى هذا العنصر الهام في عملية الدعوة؛ فمن ذلك:
ما جاء في قصة نبي الله يوسف: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)} [يوسف:36-37]، فالملاحظ في الآية الأولى: أن الفتيين أقبلا على يوسف عليه السلام وهما في حالة تسليم بأمانته وإذعان لعلمه، ولكن هذا التسليم وذلك الإذعان لم ينشأ من العدم؛ بل كانا نتيجة ما رأوه من إحسان يوسف عليهم؛ {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وإذا تنبهنا إلى أن هذين الفتيين كانا على ملة الكفر لأدركنا أن الإحسان المقصود عندهم ليس هو الإحسان بالمصطلح الشرعي، ولكنه إحسان بالمعنى الذي تعارف عليه جميع الناس.
وهو فعل ما اتفقت العقول السديدة والفطر السليمة أنه حسن، ويلزم لنا أن نتخيل ما هي حياة السجون حتى نعرف قيمة الإحسان إلى الآخرين فيها، سواءً أكان إسداء جميل، أو بذل نصيحة، أو اهتمامًا عامًا بأمر الآخرين في مثل هذه المحنة.
وبعبارة أخرى نستطيع القول: إنه للوصول إلى هذه الثقة، وهذا التسليم والإذعان، فقد حدثت عملية تفاعل اجتماعي إيجابي بين يوسف عليه السلام والمسجونين الآخرين، وذلك من خلال شبكة اجتماعية مصغرة، كوَّنها يوسف عليه السلام مستغلًا قنوات الاتصال المتاحة، والرابطة الاجتماعية الواقعية؛ رابطة إحساس السجين بالقهر.
وفي الآية الثانية: نلاحظ أن يوسف عليه السلام استثمر الموقف استثمارًا كاملًا، وقطف الثمرة في أوانها؛ فإنه لما رأى إتيانهما إليه واثقين فيه، مسلّمين بأمانته، مذعنين لعلمه، أكد عليهما ما وقر في نفوسهما بأنه أهل لهذه الثقة، ومحل لهذا العلم، مما يؤكد أهمية هذا العنصر في الدعوة، ثم أسند كل هذا الفضل إلى ربه، وبدأ عرض دعوته في وضوح وجلاء ويسر وسهولة.
وما جاء في قصة موسى عليه السلام مع القبطي والإسرائيلي، حيث يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19]، فاحتجاج القبطي بعدم ملاءمة هذا السلوك من موسى عليه السلام مع دعوى الإصلاح يدل على أن موسى عليه السلام كان معروفًا عنه أنه صاحب دعوة إصلاحية قبل نبوته.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «أما بقية عبارته {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}، فَتُلْهِم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكًا يُعرف به أنه رجل صالح مصلح، لا يحب البغي والتجبر، فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به، ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه، يريد أن يكون جبارًا لا مصلحًا، يقتل الناس بدلًا من إصلاح ذات البين وتهدئة ثائرة الشر»(1)، ولعل هذا المسلك كان تمهيدًا للدعوة الكبرى التي جاء بها موسى عليه السلام بعد إرساله بالنبوة.
وفي قصة نبي الله صالح عليه الصلاة والسلام: يقول الله سبحانه حاكيًا عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]، جاء في محاسن التأويل: «أي: كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك وتكون مشاوَرًا في الأمور، ومسترشدًا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك»(2).
وهذا من أبلغ التناقض في منطق الكافرين؛ إذ إن اعترافهم بأن صاحب الدعوة هو الذي كان يُعد للخير والرشد فيهم، لِمَا ظهر عليه من أمارات ذلك، كان يقتضي تسليم قيادهم له وإذعانهم لدعوته، ولكنهم ارتكسوا وكفروا به وبدعوته.
وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أوضح الدلالات على أهمية (رصيد الداعية)؛ حيث يقول الله سبحانه: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس:16]، ففي قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} توبيخ شديد لهم، وتسفيه لعقولهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى قوة الحجة الملزمة لهم، وذلك أنهم شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوجب تصديقه والإيمان به، ولم يكن ذلك عن موقف واحد أو أكثر؛ بل كان على امتداد عمره صلى الله عليه وسلم مما يكون أبلغ وأوكد في الإلزام بالحجة؛ يقول ابن القيم رحمه الله: «الحجة الثانية في الآية: أني قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدونني، وتعرفون حالي، وتصحبونني حضرًا وسفرًا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي...، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم، الذي فيه علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل، فأي برهان أوضح من هذا»(3).
وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرصيد لديهم، وأكد عليه؛ بل استنطقهم به، وذلك عندما جهر بالدعوة إليهم كافة، فقد قال لهم صلى الله عليه وسلم، بعد أن اجتمعت بطون قريش على جبل الصفا إثر دعوته لهم بالحضور: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟»، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد»(4)، فقد أبى صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدعوة الجديدة عليهم قبل أن يستخرج منهم رصيد الثقة فيه.
وهذا الهدي النبوي من نور الوحي القرآني؛ حيث كان إيذان التحرك العلني بالدعوة هو قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، فإن العشيرة الأقربين أدعى إلى الثقة فيمن هم يعرفون سيرته ويخبرون طويته؛ لما بينه وبينهم من صلة القربى والنسب، ولا شك أنه لا بد لبناء هذا الرصيد من كمال في المحاسن، وسلامة من النقائص، وحضور ومتابعة في الواقع، وتتراكم آثار كل ذلك لصنع هذا الرصيد لدى المدعوين، وهذا ما تشهد به سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا الصحابي الجليل سعد بن معاذ يقول: «يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟» قالوا: «سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة»، قال: «فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله»، فوالله، ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة(5).
وهذا ما نشاهده في قصة الصحابي نعيم بن النحام: حيث رُوي أنه حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: «أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا»، وكان يقوم بأيتام بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد ذلك، فنعيم رضي الله عنه كان له من أعمال الخير لدى قومه ما جعله أحد المكونات الرئيسة لنسيج مجتمعه، بحيث يتهتك هذا النسيج إذا تخلى عن أفراد مجتمعه، فلا يستطيع هؤلاء الاستغناء عنه، مع استطاعته هو تركهم والهجرة عنهم، أو استغلال هذه المكانة وهذا الرصيد في الدعوة لما يؤمن به دون أن يكون عنصرًا بنّاءً لدعوى الجاهلية في المجتمع الذي يعيش فيه.
فعلى ذلك يستطيع المسلم توظيف الرصيد الإيجابي الجمعي للدعوة في دعوته الآخرين، كما يحسن له أن يشارك في بناء رصيد الثقة لدى آخرين؛ ليأتي مسلم آخر، فيستثمر هذا الرصيد مباشرة حين تحين فرصة الدعوة.
وكما أنه قد يُستدعى رصيد الدعوة لصالح داعية ما فإنه قد يبدده أفراد منتسبون إلى الدعوة، وذلك بسوء سلوكهم الشخصي أو الدعوي، أو عدم اتباعهم للحكمة في الدعوة، كما يحدث أحيانًا في واقعنا المعاصر، فعلى المسلم الواعي أن يحرص ألا يكون معول هدم لما شيده الآخرون إذا لم يستطع أن يكون لبنة في صرح الدعوة المباركة.
مما هو جديرٌ بالتأمل ما ورد في صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي في حديث عائشة رضي الله عنها الطويل، الذي قصَّت فيه نزول الوحي أول مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء, وكيف عاد بعده إلى زوجه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، تقول عائشة: فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني»، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع, فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي».
فقالت خديجة: «كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق»(6).
بمثل هذا الوعي والفهم والتمكُّن جزمت خديجة دون كثير مناقش