logo

حتى أكون خطيبًا


بتاريخ : الاثنين ، 19 ربيع الآخر ، 1441 الموافق 16 ديسمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
حتى أكون خطيبًا

إن الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وهدى ضرورة من ضرورات هذه الحياة، لا تقل أهمية عن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب، بل هي من أعظم الضرورات على الإطلاق والعموم؛ إذ تتوقف عليها سعادة البشرية ونيل مكانتها وريادتها، بل يتوقف على تركها ذل الأبد وحزن الدهر.

ولكن لن تجد الدعوة إلى الله أثرها أو تحقق مقصدها على هذا النحو إلا إذا وجد الداعية الناجح الذي يحملها ويعيش بها ولها، ويحمل لها في قلبه المكان الأسنى والمطلب الأسمى.

والخطبة من أكثر أنواع الدعوة تأثيرًا ووصولًا للقلوب والأسماع إن أحسن الخطيب وتميز.

ليست مهارة عادية؛ بل منها السحر والبيان، وكما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا» (1).

قال المهلب: وجه إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة (باب الخطبة)، أن الخطبة في النكاح إنما شرعت للخاطب ليسهل أمره، فشبه حسن التوصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها باستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما كان كذلك لأن النفوس طبعت على الأنفة من ذكر الموليات في أمر النكاح؛ فكان حسن التوصل لرفع تلك الأنفة وجهًا من وجوه السحر الذي يصرف الشيء إلى غيره (2).

روي عن عمر بن عبد العزيز، أن رجلًا طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها، فاستمال قلبه بالكلام، فأنجزها له، ثم قال: هذا هو السحر الحلال (3).

فالإلقاء والخطابة علم وأمر يمكن للإنسان أن يتعلمه إذا اتبع قواعده وسار على نهجه وجلد على مراسه.

فهذا واصل بن عطاء -أحد أئمة المعتزلة- كان لديه لثغة في حرف الراء، فحاول أن يستقيم لسانه، فلم يستطع ورغم ذلك فلم يترك الخطابة بسبب هذه اللثغة، فما كان منه إلا أنه كان يخطب من غير حرف الراء، فأصبح من أوائل الخطباء وأشهرهم.

والآن سنتعرض إلى ما يجب أن يتحلى به الخطيب من صفات، وكذلك قضية التحضير فهي ملازمة تمامًا للإلقاء ومرتبطة به تمامًا، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بمستوى إتقان التحضير يكون الإبداع في الإلقاء، وأيضًا التدرب قبل الإلقاء، وكذلك ما يمكن فعله عند الخوف والارتباك.

صفات الخطيب المتميز:

1- الرصيد العلمي والزاد الثقافي:

وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الخطيب إجابة التساؤلات، وحلول المشكلات إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الخطيب الداعية الناس أحكام الشرع، ويبصرهم بحقائق الواقع، وبه أيضًا يكون الخطيب قادرًا على الإقناع وتفنيد الشبهات، ومتقنًا في العرض، ومبدعًا في التوعية والتوجيه.

وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلّا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي.

وإذا نال الخطيب حظًا وافيًا من العلم واندرج في سلك طلبة العلم؛ فإنه يكون في مجتمعه نبراسًا يُهتدى به، كما قال ابن القيم عن الفقهاء: إنهم يكون الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يُهتدى في الظلماء، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء (4).

وعندما يتحرك الداعية ناشرًا علمه ساعيًا بين الناس بالإصلاح ناعيًا عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف عظيم كما في مدارج السالكين: الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هَدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهمهم من اهتدى بهم الحائر، وسار بهم الواقف، وأقبل بهم المعرض، وكمُل بهم الناقص، ورجع بهم الناكص، وتقوى بهم الضعيف (5).

وقال أبو هلال العسكري: فإذا كنت ترغب في سمو القدر، ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزًا لا تثلمه الليالي والأيام، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان، وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة، وأعوانًا بغير أجر، وجنُدًا بلا ديوان وفرض، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفوًا وتلق ما يعتمد منه صفوًا (6).

2- موافقة القول للعمل: وذلك بالصدق في حديثه وعاطفته، وصدقه في علاقته مع ربه وتطبيقه لما يقول، {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2- 3]، وكما في الحديث الصحيح: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» (7).

3- دراسة علوم اللغة: فلا يحسن بالخطيب أن يجعل المرفوع منصوبًا والمنصوب مجرورًا، والمجرور مرفوعًا، هذا بما يتعلق بالنحو، وكذلك إلمامه الجيد بالتراكيب اللفظية، وعلوم المعاني، وامتلاك مهارة لغوية تبنى لديه معجم واسع من المفردات، يزوده بقدرة فائقة على التعبير عن المعنى بأروع طريقة وأبدع أداء.

4 -الثقة بالنفس: عندما يكون الخطيب رابط الجأش لا شك أنه سيكون أكثر وصولًا إلى قلوب وعقول الجمهور، وكذلك يبدع أكثر فيما يريد إيصاله من رسالة.

5- الأمانة العلمية: عزو المعلومات إلى المصادر والمراجع فهذه أمانة أمام الله سبحانه تعالى.

الشعور بالمسئولية:

يجب أن يشعر الخطيب بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة إيصالها إلى الناس، لا يكل ولا يمل.

والحقيقة إذا ما توفر هذا الشعور في نفس الخطيب فإن النجاح سيكون حليفه، وسيكون من أحسن الناس قولًا.

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، فلا أحد أحسن قولًا ممن حمل مشعل الدعوة إلى الله وإلى إتباع منهجه والالتزام بأحكامه وتعاليمه، والواجب على الداعية أو الخطيب أن يعلن هويته وانتمائه بقوله: إنه من المسلمين بعيدًا عن الفئوية الضيقة، والنظرة المحدودة، لأن الإسلام هو الأصل وهو الأعم والأشمل.

والخطيب الناجح والمؤثر هو خطيب يتخذ الإخلاص مطية، تصل به إلى دربه ومبتغاه، ويحزم متاعه برباط الخوف من قيوم السماوات والأرض.

ثم اعلم أخي الخطيب أنه قد اصطفاك الله لحمل دعوته، ورعاية أمانته، وصيانة عهده، وتحقيق وعده، فعلّم الناس دين الله وابسطه بين أيديهم.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، {وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].

فيا أيها الخطيب أري الله من نفسك خيرًا، واعلم أنك من ورثة الأنبياء.

مرحلة ما قبل الإعداد:

1- الإخلاص: صحيح أن العمل الجاد يحتاج إلى التعب والجهد؛ ولكنه يحتاج قبل كل ذلك إلى الإخلاص لله تعالى، والمثل الرائع يقول: قل لمن لا يخلص لا يتعب، فما فائدة العمل إن أريد به غير وجه الله تعالى، لن يكون له أي تأثير لا على المتكلم ولا حتى على المستمعين؛ إن لم يكن هناك إخلاص «فرب عمل كبير تصغره النية، ورب عمل صغير تكبره النية»، فالخلاص في الإخلاص، ومما يعين على الإخلاص كثرة الدعاء بأن يجعل الله العمل صالحًا متقبلًا خالصًا له وحده، وأن يجعل له بالغ الأثر في الآخرين.

2- ما قبل الإلقاء:

الجمهور: يجب على الخطيب أن يتعرف على جمهوره فما القيم والمبادئ التي يحملونها؟

وما مدى أهمية هذا الموضوع لديهم؟ وما الذي يريدون معرفته؟ وما هي المشاكل التي تواجههم فيه؟ لأن القاعدة تقول: «شكّل حديثك حسب جمهورك»، وكذلك يجب على الملقي أن يعرف كم عدد الحضور التقريبي فإن كان جمهور صغير (أقل من 25) شخصًا فيعلم الملقي حينئذ أن الانتباه أكثر، فالأمثلة أكثر، والأسئلة والمناقشات ستكون مباشرة مع الجمهور، وسيقوم الملقي المتميز بالاتصال بالجميع عن طريق العين.

أما إذا كان الجمهور كبيرًا أكثر من (2 شخصًا) فسيحدث السَرَحان والهمس مع الجار والتشتت في الانتباه؛ فعند ذلك يقوم الملقي بالربط والتلخيص، وتكرار النقاط المهمة؛ ليحافظ على تركيز الجمهور وانتباهه، وكذلك مما يجب أن يعرفه الملقي قبل إلقائه؛ الوقت المتاح له والمكان الذي سيلقي فيه، فإنهما سيساعدانه على القيام بمهمته.

تجويد الخطبة بعيدًا عن التشدُّق والتوعُّر:

قال الجاحظ: مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السّكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظّارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام:

خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطاء، وأجلب لكلّ عين وغرّة، من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول، بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه، وإياك والتوعّر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك.

ومن أراغ معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما، فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامة.

وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المال، وكذلك اللفظ العامي والخاصيّ، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفعم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الاكفاء، فأنت البليغ التام.

قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان (8).

3 -الهدف: للأسف أننا في أوقات كثيرة نتحدث بدون أي هدف، فلماذا لا يكون لدينا أهداف صغيرة تخدم هدفًا مرحليًا تصب أخيرًا في هدفنا الأخير، من خلال ما سبق نستطيع أن نحدد الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال إلقائنا، فكيف يصوغ الملقي هدفه؟

فعلمية الهدف تعد عملية سهلة وتجعل كل شيء بعدها ينساب سهلًا ويسيرًا، فأبدأ بها أولًا وستجد كل شيء بعدها سيغدو سلسًا، فلعل هدفك الرئيسي هو أن تعرّف الجمهور على شيء جديد، وتجعله يفكر فيه، ويشعر به ويتذكره دائمًا، فكيف ستصل لهدفك؟

يقول دايل كارينجي: إن التحضير يعني التفكير والاستنتاج والتذكر، واختيار ما يعجبك وصقله وجمعه في وحدة فنية من صنعك الخاص.

أمور مهمة في اختيار الموضوع:

1- قبل أن تبدأ في اختيار الموضوع أو كتابته، صل ركعتين وادعُ الله أن يوفقك، وأن يختار لك ما فيه الخير؛ فبيده التوفيق أولًا وآخرًا.

2- أن يكون موضوعك مناسبًا للتحدث فيه، وكذلك مناسبًا للحضور.

3 -الإبداع والخروج عن المألوف مطلب مهم في كل موضوع يطرح.

4- عندما يكون موضوعك مصحوبًا بروح التفاؤل يكون قبوله أحرى ويثير النفوس للعمل، فروح التشاؤم تفرضها علينا ظروف هذا الزمن.

5- حاول أن تضع وقت البداية في التحضير؛ وذلك بالقراءة في الموضوع، وجمع الشواهد، ووضع العناصر وتصنيفها وترتيبها، وكذلك وقت النهاية من التحضير، بحيث يصبح الموضوع جاهزًا في ذلك الوقت، فإن لم تنته فيه لاستطرادات الموضوع وحاجته إلى البحث الأطول والأكثر فإنك إن شاء الله وإن اضطررت لزيادة الوقت لإضافات فسيكون انتهائك قريب مما حددته مسبقًا؛ لأن هذا من تجربة كثير من الناس أنهم لا ينجزون إذا تركوا الوقت لأنفسهم مفتوحًا.

مرحلة الإعداد:

تحضير الموضوع: تذكر هذه القاعدة: حدد الموضوع – حلل الجمهور – حدد الهدف – أبدع أفكارًا.

1- اجمع المراجع واعرف ما هي الكتب التي تساعدك في تحضير موضوعك.

2- اقرأ وتمعن، ثم انتق، وحتى تجيد الانتقاء لا تترك الدرر التي تلقاها في طيات الكتب أو في الدوريات مثل الجرائد اليومية والمجلات، بل أجمعها وأقتبس منها وأجعل لها عنوانًا.

3- رتب العناوين والمعلومات التي تريد طرحها.

4 -سجل ملاحظتك الشخصية ووجهة نظرك ولا تعتمد فقد على أراء الآخرين وأفكارهم، بل تذكر أن لك عقل مثلهم ويمكن أن تضيف وتعدل.

5 -الاستشهاد يعطي الموضوع قوة والاستشهاد يكون بـ (القرآن الكريم – السنة – القصص - الشعر – أقوال وحكم – إحصائيات – وغيرها).

6- ابحث بجد عن آخر المعلومات وأحدث الإحصاءات ولا تعتمد على ما حضرته قبل عدة سنين.

7- التعديل: أضف، ألغ، عدل، ثم أعد الترتيب.

8 -التدقيق: دقق اللغة وصحح الأخطاء اللغوية.

9 -المراجعة النهائية: الق نظرة نهائية وتأكد أن كل شيء في مكانه الصحيح.

أشكال التحضير:

وهنا يترتب على شكل التحضير طريقة الإلقاء، ولذا دائمًا نقول ونكرر تحضير وإعداد الموضوع أمر مرتبط تمامًا بالإلقاء وطبيعته.

1 -القراءة فقط: بحيث يكون الموضوع معد ليقرأ كاملًا، وهنا يكفي أن أذكر كلام نفيس للدكتور محمود عمارة حيث يقول: إن خطيب الورقة في وادٍ والمستمعون في وادٍ، إنه يسير مع أفكاره المنقوشة لا مع أفكار مستمعيه، إضافة إلى ما فيها من ملل للقارئ والمستمعين، ولكن لا بأس بها في بداية الأمر؛ وخاصة إذا كان المتحدث جديدًا على الإلقاء حتى يتدرب ويتمرس، ثم ينتقل إلى مستوى أعلى.

2 -نقاط رئيسية: بحيث لا يكتب الملقي جميع ما يريد أن يقوله بالتفصيل، ولكن يضع أهمها، فيكتفي بالعناوين العامة، ويدون ما قد يحتاج إلى نصه، أو قد يصعب حفظه من آيات وأحاديث وأبيات شعرية ومقولات وإحصاءات وأرقام، فهذه الطريقة تجعله يتفاعل أكثر مع موضوعه ومع أعين الجماهير، ويطرح ما يحتاجه من أمامه لا أن يطرح ما هو مكتوب في ورقته (ولعل هذه الطريقة هي أفضل الثلاث).

3- استيعاب كامل الموضوع: إلمامًا تامًا بفرعياته وشواهده وتدرجه، وهذا يجعل الطرح أقوى، وذلك مع التأكيد على الاستيعاب الكامل بحيث لا يخل بأي شيء منه، وهذا يكون نتاج قراءة وإطلاع مكثف على الموضوع وإلقائه أكثر من مرة؛ مما يجعله محفوظاً للملقي.

إن من الخطأ الفادح، واللبس الواضح، الذي يقترفه الملقي في المقدمة الاعتذار بأن يقول: أنا لست بالخطيب البارع، ولا الملقي المتميز، إنما أحرجني أحدهم لأتحدث أمامكم، فليس لدي الجديد، وإنما فقط للتذكير، وعذرًا إن أمللتكم في الدقائق القادمة.

غفر الله لك، أتقول هذا في المقدمة ثم تريد منهم التركيز معك أو أن يعيروك أي اهتمام؟! بعد هذه الافتتاحية السوداوية حتى وإن أبدعت في موضوعك وأتيت بكل جديد، واستعملت كل فن في الخطابة والإلقاء، فلن تغتفر لك هذه الزلة في فن الإلقاء طالما كنت تطمح للوصول إلى مراتب الخطباء والعظماء؛ لأن القاعدة الحقيقية والواقع الميداني يحكيان أن المستمعين يتأثرون بالبداية ويعلق في أذهانهم الطابع الذي همس به الملقي في آذانهم وخاصة إذا كان يتحدث عن نفسه وهو أعلم بها، وإن كان يقولها بعضهم من باب التواضع ولكن حقيقة ليس هذا موضعه فبهذه الكلمات تتزعزع ثقة المستمعين بالمتحدث.

- لا تقلد غيرك في صوته أو نظرته أو لبسه أو طريقة حركته؛ ولا مانع من أن تستفيد من تميز الآخرين.

 -اجعل حركتك طبيعية، وتحدث وكأنك تتبادل الحديث مع صديق في الشارع، ألست طبيعيًا آنذاك؟ إذن كن طبيعيًا هنا.

- لا تقعر الكلام (وهي: الفصحى المبالغ بها) ولا تتكلف استعمال أسلوب بلاغي أو سجعي فلن تبدو طبيعيًا.

- إذا ذكرت معلومات أو إحصاءات غريبة وهي بالفعل صحيحة تماماً فلا تترك مجالاً للشك فيها بل أذكر أنك راجعتها مرتين مثلاً.

- مما يجعل الناس تتفاعل وتنجذب مع الملقي، هو أن يتقن هذه المهارة الخفية، التي قد تخفى على الكثير؛ وهي: أن تجعل نفسك أحد هؤلاء المستمعين، واجعل نفسك ليس كأي واحد منهم؛ بل لتكن أنت المستمع المتفاعل من بينهم؛ بحيث تظهر ما تتوقع داخل الجمهور تجاه كلامك، بمعنى: أنك تفاعل تمامًا مع كلامك؛ فتغضب في حال الغضب، وتظهر ذلك على قسمات وجهك، ثم تتفاعل أخرى في حال الضحك؛ فتتبسم وتضحك، وهكذا في ثالثة تسخر في حال السخرية، ولتكن جميع هذه التفاعلات التي تقدمها للجمهور؛ واضحة من خلال نبرات صوتك.

- خلال حديثك يمر بك كلمات هامة جدًا، وتشعر أنه من واجبك كشخص مخلص في أداء عمله وإيصال معلومته أن توضح للمستمعين أن هذه الكلمات مهمة، ويجب التركيز عليها وفهمها جيدًا، فماذا تُراك تفعل في مثل هذه اللحظات؟ إن أفضل وأنجح طريقة توصلك إلى أن يركّز الجمهور على مثل هذه الكلمات هو أن تقلل من سرعتك الإلقائية، ثم تضغط بصوتك على هذه الكلمات حتى لا تكاد أن تخرجها من مخارجها، وفي تلك اللحظات فسترى جميع المستمعين مشدودين إليك تمامًا، جرّب وسترى!

الوقفات السحرية:

أن تعلم كيف تستخدم قوة الصمت ولو لثوان؛ وذلك بأن تكون منهمكًا في شرح موضوع معين مستخدمًا في ذلك جميع قواك العقلية والحركية والكلامية، ثم وفي لحظة مفاجئة تقف عن الكلام وتصمت لمدة خمس ثوان فقط، فهذه اللحظات البسيطة تجعل الجميع مباشرة ينظر إليك، فالنائم يستيقظ، والسرحان ينتبه، فيحسن بك أن تستغل انتباه الجميع بأن تذكر شيئًا مهمًا لديك ما دمت أنك قد أحسنت بأن جذبت الأنظار وقبلها العقول.

- ولكن هناك وقفات مهمة لا بد منها مثل عند انتهاءك من جزئية والانتقال إلى أخرى حتى تشعرهم بالانتقال إلى موضوع جديد، وتذكر أن الوقفات الهامة تبدو لديك أطول مما تبدو للجمهور فلا تستعجل، وإليك أوقات الوقفات الخمس للإلقاء الفعّال:

1-  بعد البدء 2- قبل الكلام 3- قبل أن تسأل 4- قبل البدء الجديد 5- قبل (شكرًا).

- احذر وابتعد عن استخدام بعض الكلمات المملة مثل: آه، آه ، في الحقيقة، بصراحة، بالفعل، كما تعلمون.

- يجب أن يكون مظهرك لائقًا ومرتبًا، فلقد بوب البخاري في كتاب الخطبة بابًا سماه «يلبس أحسن ما يجد».

- نظرات الملقي؛ من المهم أن تنظر إلى جميع الحضور، وأن تشعر كل واحد منهم وكأنك تتحدث له، ثم انتقل عشوائيًا بين الحضور بعينيك، وتوقف بهما عند كل شخص لثلاث أو أربع ثوان، ثم انتقل إلى غيره.

- أما عن حركة اليدين فضعهما إلى جانبك فهو أفضل مكان لهما حتى تشعر أنك غير قادر على الاحتفاظ بهما فاجعلهما تتحركان بطبيعتهما.

- لا تُشر بإصبعك إلى الجمهور فهذا يجعلك تبدو ديكتاتوريًا.

- لا ترفع يديك عن مستوى كتفيك، إلا في مواضع معدودة.

 -من الجميل والرائع إذا كان هناك تعداد لنقاط أن يقوم الملقي بعدها على أصابعه واحدة واحدة، فلها بالغ الأثر.

- قف على كلتا رجليك، ولا تقف على أحدهما دون الأخرى فهي ليست الوقفة الصحيحة المستقيمة للملقي، ومن ناحية صحية فهي أيضًا غير جيدة.

- توقف عندما تنتهي من الموضوع ولا تتكلم لتملأ الوقت فقط.

- أكثر من ضرب الأمثلة فهي تجعل الصورة أقرب في أذهان المستمعين.

- أكثر من ذكر القصص فقد جبلت النفوس على حبها، ولكن اذكر فقد ما يتعلق بموضوعك.

- في ختام اللقاء لخص أهم الأفكار التي طرحتها، وكيفية الاستفادة من هذا الموضوع في الواقع العملي، وكذلك حاول ختام لقاءك بطرفة أو مرح؛ لأن الناس يبقى لديها انطباع آخر لحظات فتحكم عليك من خلاله.

وبعد، فهذه مهارات ومعلومات لن تنفع وستبقى حبرًا على ورق إن لم يحاول ويجرّب الإنسان الطموح لتطوير ذاته تدريب نفسه بنفسِه عليها، وإغلاق باب غرفته عليه ومحاولة تطبيقها واحدًا واحدًا، وملاحظة ما أتقنه وما يحتاج إلى تعلّمه، ثم استشارة من يثق فيه من المربين والأساتذة؛ فهم أصحاب الخبرة والسبق في ذلك (9).

***

_____________

(1) أخرجه البخاري (5767).

(2) فتح الباري لابن حجر (9/ 202).

(3) شرح السنة للبغوي (12/ 365).

(4) إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 9).

(5) مدارج السالكين (3/ 284).

(6) الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه (ص: 43).

(7) أخرجه مسلم (2989).

(8) البيان والتبيين (1/ 129).

(9) فنون خطابية ومهارات إلقائية، صيد الفوائد.