عقبات في تأثير العظات
الوعظ من الأبواب العظيمة في مقام الدعوة إلى الله، والخلق بحاجة ماسة إليه، لكثرة انشغالهم بالدنيا وإعراضهم عن الآخرة، وقسوة قلوبهم، وما يعرض لهم من فتور وضعف في الإيمان، وتفريطهم فيما افترض الله عليهم، وجهلهم لشرائع الدين، فالواعظ يذكرهم بالله، ويجدد عهدهم به، ويحيي القلوب بذكره، ويبصرهم بمواطن الخلل في نفوسهم، ويحررهم من رق الشيطان وعبودية الدنيا.
وكل إنسان لديه القدرة على النصح وإبداء المواعظ وإرشاد غيره وإهداء النصح له؛ بالقول أو بالفعل، وقد تكون الموعظة من القريب أو الغريب، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأسلوب في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
قال برهان الدين البقاعي في قوله تعالى: {وَهُوَ يَعِظُهُ} أي يوصيه بما ينفعه، ويرقق قلبه، ويهذب نفسه، ويوجب له الخشية والعدل. ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الإعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: {يَا بُنَيَّ} فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم، والتحنن، والشفقة؛ ليكون ذلك أدعى لقبول النصح {لَا تُشْرِكْ} أي لا توقع الشرك لا جليًا ولا خفيًا، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب؛ لاستحضار جميع الجلال، تحقيقًا لمزيد الإشفاق، فقال: {بِاللَّهِ} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ} أي بنوعيه، {لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله (1).
والموعظة الحسنة تجمع التصديق بالخبر والطاعة للأمر؛ ولهذا يجيء الوعظ في القرآن مرادًا به الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66]، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} [النور: 17]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً} [البقرة: 66]، أي: يتعظون بها فينتبهون، وينزجرون.
وهو الأسلوب الذي مارسه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع أقوامهم، قال تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، وقال تعالى آمرًا موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طـه: 44].
بل إن الله تعالى أخبر أن من خصائص رسالاته إلى عباده أنها مواعظ تهدي إلى الحق، قال تعالى مخبرًا عن محتويات التوراة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145].
وقال تعالى في وصف الإنجيل: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
وقال عن القرآن الكريم: {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور: 34]، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 65- 66].
قال فخر الدين الرازي: أما قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ففيه وجهان.
أحدهما: أن من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، وإن لم ينزل عاجلًا فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم، وأما تخصيصه المتقين بالذكر؛ لأنهم إذا اختصوا بالاتعاظ والانزجار والانتفاع بذلك صلح أن يخصوا به؛ لأنه ليس بمنفعة لغيرهم.
الثاني: أن يكون معنى قوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أن يعظ المتقون بعضهم بعضًا: أي جعلناها نكالًا وليعظ به بعض المتقين بعضًا، فتكون الموعظة مضافة إلى المتقين على معنى أنهم يتعظون بها، وهذا خاص لهم دون غير المتقين والله أعلم (2).
وقال الإمام الطبري: فتأويل الآية فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين؛ ليتعظوا بها ويعتبروا ويتذكروا بها.
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته موعظة للمتقين خاصة وعبرة للمؤمنين دون الكافرين به إلى يوم القيامة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} إلى يوم القيامة (3).
إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها لأن كتابه أرشده إليها وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ به (4).
وسر ذلك أن النفس البشرية في الأعم الأغلب نفس مستعدة لتقبل المواعظ والتأثر بها، فلذلك تقنع بكل ما يؤثر فيها من غير جدل ولا عنت.
يقول الرازي عن النفوس المستعدة لتقبل المواعظ: وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة (5).
لا بد أن تكون الموعظة مصاحبة للقلب الذي يتقلب بين حين وآخر، ولا بد للمؤمن أن يوطن نفسه على حضور مجالس الوعظ ففي ذلك ثبات له بإذن الله وإغاظة للشيطان الذي هو قريب من الواحد بعيد عن الجماعة، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء كما أخبر النبي بل قال: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (6).
فإذا كان رسول الله لا يأمن على نفسه فكيف بنا نحن خاصة مع تلاطم أمواج الفتن في هذا الزمان، وإن القرآن الكريم من أكبر المواعظ الذي توعظ بها القلوب كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، ولقد كان رسول الله يجلس مع أصحابه ليعظهم ويذكّرهم ويرغّبهم ويرهّبهم بهذا القرآن العظيم.
إنَّ الداعية لا غنى له عن مواعظ القرآن الكريم؛ لذا على الداعية أن يقتدي بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم، وما حصل لنوح عليه الصلاة والسلام مع ولده ومحاولة هدايته حتى لا يكون من المغرقين، لهو مثال يحتذى به، و لما أُخبر أنه لن يؤمن، تبرأ منه، حيث وعظه الله تعالى؛ لكي ينجو من صفات الجاهلين.
قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
قال الشيخ السعدي في قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: قلبك ليطمئن، ويثبت، وتصبر، كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به.
{وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يتعظون به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله، فيفعلونها. وأما من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير (7).
لذا ينبغي على الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب النافع مع المدعوين؛ ليحصل له النفع التام بمشيئة المولى سبحانه.
ضوابط الموعظة المؤثرة:
لا تؤتي الموعظة المؤثرة -المقيدة بالقيود الشرعية- ثمارها إلا إذا تقيدت بالقيود التالية:
أولًا: اعتماد الصدق:
أول شرط من شروط الموعظة الحسنة المؤثرة أن تكون صادقة، لأن الكذب لا يمكن أن يؤسس فردًا صالحًا مؤدبًا، والغاية لا تبرر الوسيلة، فبقدر الثقة في الواعظ يكون تأثير الموعظة.
ومن أمثلة ذلك اعتماد الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، والتي امتلأت بها كتب التفسير والحديث، والتي تشوه القرآن الكريم والسنة المظهرة.
ولهذا، فإن الواعظ الصادق لا يلقي بكل ما يقرؤه من غير تمحيص أو تدقيق أو توثيق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (8).
وقد نبه ابن مسعود رضي الله عنه إلى خطورة غلبة حب التأثير بعيدًا عن التمحيص والعلم، فقال: إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان السحر، وإن من بعدكم زمانًا كثير خطباؤه، قليل علماؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه (9).
وللأسف فقد طفحت كتب المواعظ بالقصص المنكرة، والعجائب المختلقة، ولهذا حذر كثير من العلماء من أخبار القصاص ورواياتهم.
ثانيًا: الإقناع:
ونريد به أن يحاول الواعظ -سواء كان والدا أو غيره- أن يقنع الولد بالقضية التي يطرحها بحيث يتقبلها عن رضى وقناعة لا عن حياء وتقليد.
وهذا أسلوب قرآني في عرض جميع القضايا سواء كانت من باب العقائد أو السلوك، ولذلك فإن مجرد الرجوع إلى القرآن الكريم كاف في استنباط الكثير من أساليب الإقناع الذي يخاطب العقل مباشرة دون تكلف أو عناء.
ففي العقائد مثلًا يكتفي القرآن الكريم بتوجيه النظر إلى خلق الله للتعرف من خلاله على الله وعلى مراده من خلقه، وعلى المصير الذي ينتظر خلقه، وسنرى بعض الأمثلة على ذلك في محلها من الجزء التالي.
وفي السلوك يبين الله تعالى علل الأحكام وأسبابها ومنافعها ومضارها، ليقبل عليها الفاعل عن بينة وقناعة، فالله تعالى مثلًا يقول في تقرير حرمة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، فبدأ الحكم الشرعي لهذه النكرات، مع تنفير النفس منها باعتبارها رجسًا.
ولم يكتف بذلك، بل أضاف إلى هذا الحكم ما يقنع العقل بمخاطره، لتنفر النفس من هذه الأمور شرعا وعقلا، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
وهكذا في كل المحرمات، وهذا الأسلوب هو الذي استخدمه لقمان في موعظته لابنه، فقد شبه له رفع الصوت في غير محله بصوت الحمير، قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، وهو يشبه في ذلك صوت الحمير.
ثالثًا: الابتعاد عن أسباب الملل:
كطول الموعظة، أو تكررها، أو إلقائها بأسوب جاف، أو في غير محلها، لأن كل ذلك يصيب المستمع بالملل والسآمة، وهو ما يجعل أثر الموعظة ضعيفًا، بل قد ينعكس أثرها إلى عكس ما أراده الواعظ.
ولهذا كان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه بالنصح والتذكير، أيامًا وأيامًا، ولا يُكثِر عليهم؛ لئلا يملوا، وكذا كان صحابته الذين تربوا على يديه يمتثلون ذلك، بل ويوصون به: فعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه (10).
أما طول الموعظة، فقد كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الموعظة، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات، وقالت عائشة رضي الله عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثًا لو عدّه العادّ لأحصاه (11).
رابعًا: الموازنة بين التبشير والإنذار:
ونريد بهذا أن لا يغلب الواعظ أحد الأسلوبين على الآخر، بل يمزج بينهما، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49- 50]، وقال تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7].
وهو منهج القرآن الكريم في الجمع بين ذكر الجنة والنار، والمؤمنين والكافرين، والمتقين والعصاة، وهكذا.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المربي الأكبر وصف بأنه بشير ونذير، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سـبأ: 28]، وقال تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، وقال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2].
ولهذا، فإن التقصير في إحداهما يؤدي إلى التأثير في زاوية من زوايا النفس؛ فالمبالغة في التبشير قد تؤدي إلى الاستهانة بحدود الله، وإطفاء جذوة الخوف والخشية من الله، والتي اتفق المربون على اعتبارها الدواء القاتل لكل الجراثيم المسببة للذات الآثمة، وأنها الحرز الذي يحتمي به المؤمن من كل مكايد الشيطان وأهواء النفس.
ولذلك تكثر أوصاف العذاب في القرآن الكريم، والمنبئة عن خطورته مقارنة بما نراه من عذاب، لتحول شهوات النفس العابثة أخلاقًا كريمة وصفات فاضلة، فلا يردع اللذة مثل الألم، ولا يقمع الشهوة العابثة مثل سياط الخوف.
ومثل الآثار السيئة التي تنشئها المبالغة في التبشير الآثار السيئة التي تنشئها المبالغة في الإنذار، لأنه قد يؤدي إلى القنوط من رحمة الله، وهو بذلك يعرف الله تعريفًا خاطئًا، ينفي عنه صفات الود والرحمة واللطف بعبادة، وذلك خلاف هدي القرآن الكريم في مخاطبة المذنبين، بل المسرفين على أنفسهم بألوان الذنوب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فالله تعالى عرف نفسه لهؤلاء المسرفين بكونه غفورًا رحيمًا، ومن الخطأ أن نعرفهم لهم بغير ما عرفهم به.
ولما يتضمنه القنوط من رحمة الله من مساوئ في الاعتقاد أو السلوك وردت النصوص بتحريمه، كما قال تعالى في الآية السابقة: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فحرم أصل اليأس.
بل اعتبر اليأس من روح الله من صفات الكافرين، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
خامسًا: اليسر:
ونعني به عدم التكلف في الموعظة سواء في طريقة إلقائها أو أسلوبها أو المحل الذي تلقى فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا يلقي موعظة بليغة على ابن عباس رضي الله عنه، وهو رديفه، قال ابن عباس رضي الله عنه: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقَالَ: يا غلام إني أعلمك كلمات: «احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (12)، فلم يحتج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقي هذه الموعظة لوضع الزرابي والجلوس على المنبر وحضور الجم الغفير؛ بل وجهها وهو راكب في طريقه بكل تلقائية و"بساطة"، فكان له كل ذلك التأثير.
أما أسلوب الموعظة، فيحبذ أن يكون "بسيطًا" متناسبًا مع من تتوجه إليه الموعظة، وقد كانت مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم بليغة غير متكلفة، فقد جاء في حديث العرباض رضي الله عنه: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب (13).
وليس المراد بكونها بليغة ما يتصوره البعض من كثرة محسناتها البديعية وسجعها وغريب ألفاظها، وإنما المراد منها قدرتها على التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب.
أما التكلف الممقوت فقد ورد النهي عنه، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون» (14).
سادسًا: انتهاز المواقف:
ونعني به أن يستغل الواعظ ما يجري من أحداث ليلقي بموعظته، ليكون لها التأثير الناجح فيمن يعظه، فيستغل الدخول المدرسي مثلًا ليوجهه لأهمية العلم، ويستغل ما يحدث في بلاد المسلمين من أحداث ليربطه بأمته، بل يشعل في قلبه الجذوة لخدمتها.
ولما أُهديت له صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها، ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، خير منها وألين» (15).
سابعًا: استخدام أسلوب التشويق:
لأن النفس الإنسانية تكره الرتابة وتنفر من المعلومة التي لا تسبقها المقدمات التي تهيئ لها الأرضية الصحيحة، ولهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم التمهيد لتعليمه أو تربيته بما يشوق القلوب لسماعه، فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه كأن يقول: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» (16)، فلا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يجعله أكثر رسوخًا في الذهن.
وكان صلى الله عليه وسلم يظهر في كل المواقف ما يرتبط بها من عناصر التشويق، وقد يغير جلسته؛ إظهارًا للاهتمام، كما في حديث أكبر الكبائر: وجلس وكان متكئًا فقال: «ألا وقول الزور» (17).
وكان صلى الله عليه وسلم لهذا ينوع في الوسائل التعليمية، فكان يشير تارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام (18).
بل كان يحكي أحيانًا القصص الواقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، وأمثالها كثير (19).
وكان صلى الله عليه وسلم لتأكيد ما يحتاج للتأكيد، قد يضطر للحلف، وقد حلف صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين، من صيغها: «والله لا يؤمن.. والذي نفسي بيده.. وأيم الله.. »، وغيرها كثير.
أخطاء في الوعظ والوعاظ:
غير أنّ هنالك كثيرًا من الممارسات الخاطئة التي يقع فيها بعض الوعاظ، وقد لا يشعرون، وقد يشعرون، ومنها:
- تصدّر الجُهّال في وعظ الناس وقلّة الأخذ على أيديهم، وهو ما يجعلهم يقولون ويتصرفون بأشياء لا تليق بمهنة الوعظ الشريفة، مع الإكثار من الكلام المُرسل الإنشائي، وتكرار الألفاظ بدون المعاني الجوهريّة، وقلّ أن يؤخذ على يد هؤلاء ولو من تعزير العلماء الربّانيين، لهذا يقول أحد أكابر الفقهاء العلاّمة الشربيني: ولا يأمر ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالم، فليس للعوام ذلك، ويُنكر على من تصدى للتدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله (20).
- إطالة الموعظة؛ مع تنبيه الواعظ في بداية حديثه أنّه لن يُطيلها بل سيجعلها دقائق معدودة، فيُطيل كثيرًا على الحضور، فينسحبون رويدًا رويدًا، وكم شاهدنا من شخص ذكر أنّ موعظته ستكون قصيرة فقاربت نصف ساعة! والذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات (21)، ومن فقه الصحابة في عدم الإطالة على جماعة المسلمين ما قاله الصحابي الجليل عمر بن الخطّاب: أيها الناس، لا تبغضوا الله إلى عباده، قالوا: وكيف ذاك أصلحك الله؟، قال: يكون أحدكم إماما فيطول على القوم حتى يبغض إليهم ما هو فيه، ويقعد أحدكم قاصًا فيطول على القوم حتى يبغض إليهم ما هم فيه (22).
- ضعف تطبيق الواعظ موعظته، فقد يعظ الناس بتعظيم الله، لكنه من أكثر الناس تملقًا لحُكّام السوء وتعظيمهم؛ فكيف نقبل وعظه؟ وآخر يعظ الناس بضرورة العمل بما يعلمون وهو يظلم الفقراء ويأكل حقوقهم، ويتحدث عن خطر الظلم وهو من أكثر الناس ظلمًا لعمَّاله وخدمه، وآخر يتحدث عن الزهد والورع، ومن يُخالطه يعرف أنّه من أكثر الناس حبًا للدنيا وتقحمًا لمهالكها! لهذا كان يخشى كثير من العلماء وعظ الناس، لخشيتهم من التقصير في ما يقولون، ولهذا كتب العلامة الغزالي لبعضهم: أما الوعظ فلست أرى نفسي أهلًا له، لأن الوعظ زكاةٌ نصابه الاتعاظ، فمن لا نصاب له كيف يُخرج الزكاة؟ (23).
- افتقاد الإخلاص: فالواعظ بحاجة لتذكر الإخلاص دائمًا، والعمل لمرضاة الله حتّى يلقى الناس كلامه بالتطبيق والتنفيذ؛ فالله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 69].
قال الراغب: حق الواعظ أن يتعظ ثم يعظ ويبصر ثم يبصِّر ويهتدي ثم يهدي ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد وألا يجرح مقاله بفعاله وألا يكذب لسانه بحاله.
وقال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا، وإلا فلا يزداد الناس به إلا تماديًا في الضلال (24).
- تغليب أحد جانبي الترغيب والترهيب على الآخر؛ فبعض الوعّاظ لا يتحدث إلا عن الجنّة وعظيم رحمة الله، والأجور والحسنات، وآخر عن النار، وغضبه على أهل الظلم والفجور، وخطر السيئات، وهذا ليس من منهج القرآن في شيء؛ بل القرآن في عدّة مواطن يوازن بين الترهيب والترغيب، والتذكير بالنعيم والجحيم.
- أن تكون الموعظة صورة مثاليّة عن واقع سلفنا الصالح في العبادة والعمل الصالح، حتّى يُقدّم الواعظ للمستمع أفضل سِيَرِهم في ذلك، فتارةً لا يصدّق بعضهم ما كانوا يعملون، وتارةً يستبعدون وقوع الخطأ منهم، وتارةً يستقلُّون ما يفعلونه من عبادات تجاه ما يفعله السلف الصالح فيُصابوا بالإحباط.
بل تنقل لنا بعض المواعظ بعض ما يقوم به بعض الزهّاد والعُبّاد والمتنسّكين من عبادات فيها تشديد على النفس ومبالغة تُخالف هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى ربطهم بهديه صلى الله عليه وسلم، بدلًا من أعمال تُخالف هديه.
إنّ ذكرَ سيرة السلف الصالح لتشجيع الناس على فعل الخير من المحامد؛ بل هو مطلوب بقدره، لكنّ مجموع الوُعّاظ أنفسهم لا يستطيعون أن يكونوا في عصرنا أفضل من طريقة عبادة السلف الصالح، فليذكر الواعظ عَقِبَها للناس ما هم قادرون على فعله من الطاعات، وليُحذرّهم من طرق المعاصي ويذكر لهم الحلول والبدائل الشرعيّة وخُطوات إعانة الناس على فعل الفضائل واجتناب الرذائل.
- عدم اغتنام المجالس: فإن عدد الوُعّاظ من أهل العلم قليل؛ فكيف إذا ازدانت المجالس بدخول أهل العلم في مجال الوعظ، فلوقعِ كلامهم أثر في قلوب الناس وتذكيرهم بالله والدار الآخرة، فاغتنامهم لذلك معين خيرٍ لأن يكتب الله الهداية على يدهم، خاصّة إذا علمنا أنّ كثيرًا من عامّة الناس يكون التزامهم بسبب موعظة أكثر من دروس علميّة، أو نقاشات فكريّة.
- تقصير الوعاظ في ربطمن اهتدى بهم بأهل العلم؛ فإن بعض الشباب يلتزم على طريق الهداية، ويستفيدون من مواعظ الوّعاظ، فعادةً لصوت الوعظ أثره في القلب، لكنّ تأثيره مرحلي، والواقع أن هنالك تقصيرًا من الوعّاظ في ربط من اهتدى بأهل العلم ليتعلم المرء منهم أمور دينه، بل يُحاولون تعويد المهتدي وتدريبه للقيام بمهمّة الوعظ من جديد، وكان الواجب أن يكون هنالك بعثًا لإفادة المهتدين الجدد بالعلم الشرعي، فالأحكام الشرعيّة بينها والوعظ صِلَةُ وعلاقة، وكثير من آيات الأحكام قد خُتِمَت بالمواعظ.
- يتفنّن بعض الوُعّاظ بكثرة القصص حتّى تكون جوهر محاضراته دائمًا، وليت ذلك يكون من قبيل القصص الثابتة، فاستخدام القصّة في الدعوة في موطنها المناسب أسلوب دعوي رائع أتى به القرآن الكريم فثلث القرآن قصص ذات عِبَر، لكن من المهم الاستفادة من منهج القرآن في إيراد القصص للتذكير.
طالما قام بعضهم فألقى كلمة أو درسًا عَقِبَ الصلاة أو في تجمُّع دعوي، فيحكي قصصًا ذات خيالات، وحال من يستمع لها إن كانت لديه ذرّة من عِلْمٍ أن يُصاب بالوجوم والاندهاش، فأكاذيب تُروّج على أنّها حقائق، حتّى ما يُدّعى أحيانًا أنّه إعجاز علمي هو في الحقيقة لا علم ولا إعجاز، وليس الاعتراض على المصطلح فالإعجاز العلمي في القرآن والسنّة حاصل، لكن هنالك غلو وقع به بعض الدعاة، حتّى روّجوا لقضايا إعجازيّة كانت عارية عن الصحّة والبرهان، بل ما صاروا يتعاملون مع الآيات والأحاديث في مُحاضراتهم إلا من هاته المنطلقات.
ذلك كلّه قد لا يلتفت لسلبياته عدد من الدعاة فالحضور الكثيف والجمهور العريض الواسع، يؤثّر على نفسية المُلقي، وخاصّة أنّ عامّة الناس تستروح لذكر هذه الأشياء، كما بيّن الإمام ابن قتيبة بقوله عن أولئك القُصّاص: فإنهم يُميلون وجوهَ العوام إليهم، ويَستدِرُّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعودُ عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فِطَر العقول، أو كان رقيقًا يُحزن القلوب، ويَستغزِر العيون (25).
ماذا لو علم الجمهور حين يكبر سنُّه ويزداد علمه أنّ كثيرًا مِمَّا قيل لا صحة له؟ وكيف سيكون ذلك الداعية في عينه بعد معرفة كثير من الأغاليط التي كانت تسوّق باسم الدعوة؟ (26).
من فقه الموعظة:
ليس كل من امتطى المنبر ووعظ فأبكى صار فقيهًا عالمًا بالحلال والحرام، فالواجب على الواعظ مراعاة هذا، وأن يوقن أنه ليس من اختصاصه الإفتاء، وإذا سئل عن مسألة لم يتكلم فيها إلا إذا كان ناقلًا لكلام أهل العلم ضابطًا له، ولا ينبغي له أن يغتر بما حصل له من الشهرة وكثرة الأتباع فيتجرأ على الفتوى، ويعظم الأمر إذا تكلم في مسائل الأمة والنوازل فيضل الناس ويوقعهم في حرج عظيم، وليعلم أن إمساكه عن الكلام لا يحط من قدره؛ بل يرفع منزلته عند الله ويعلى قدره عند الخلق.
- ومن فقه الواعظ أن يتوخى الوعظ في المناسبات المهمة، ويتفقد حوائج الناس واهتماماتهم، فيعظهم ويذكرهم، فقد كان رسول الله حريصًا على إيصال الخير لهم في كل مناسبة مهمة ولا يفوت فرصة، وعظهم في الجهاد عند التحام الصفوف، وعند القبر قبل الدفن، وعند رؤيته الفقراء والمحتاجين، وغير ذلك مما يحتاجه الناس ويعرض لهم من النوازل، كل ذلك ثابت في السنة.
- كما ينبغي على الواعظ أن يكون حريصًا في وعظه على جمع الكلمة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتأليف القلوب، وحث الناس على لزوم الجماعة، والإصلاح بين الراعي والرعية، وكل ما يحقق ذلك، كما كان أئمة السنة يعتنون بذلك، وهو دليل على بصيرة الواعظ وكمال نصحه للأمة.
- ويجب على الوعاظ أن يرشدوا الناس إلى العلم، ويدلوهم على أهله، ويرغبونهم في التفقه في الدين، ولا يصرفونهم عنه قال أبو قلابة: ما أمات العلم إلا القصاص، يجالس الرجل القاص سنة فلا يعلق منه شيء، ويجالس العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه شيء.
- ويجب على الواعظ أن يراعي تحقيق مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في خطابه ووعظه، والسعي في إصلاح دين الناس وتعبيدهم لله، ولا يكون همه إرضاء الناس وإلقاء ما يوافق أهوائهم ويطربهم، فإن العامة في كل عصر يولعون بسماع الغرائب والعجائب والخرافات والمضحكات، ويكرهون سماع الحق وتقويمهم، فلا يكترث لهم ولا يفرح بسوادهم، وليجعل رضا الله نصب عينيه.
ومن أعظم الفتن التي تعرض للواعظ أن يقصد بعمله الشهرة، أو يجعل الوعظ مطية يتكسب به ويتطلع لما في أيدي الناس، ويسعى للحصول على الجاه والمنصب، وقد نهى السلف عن ذلك أشد النهي.
أما إذا أحسن القصد واتقى الله ثم حصل له ثناء حسن فلا يضره ذلك ولا ينقص من أجره.
واللائق بالواعظ أن يتحلى بالورع وتكون هيئته السكينة والوقار، وزيه زي الصالحين، ويتجافى عن الدنيا، وألا يخالف فعله قوله، وكل واعظ ليس عليه سيما الصلاح قل أن ينفع الله به ويتأثر به الناس (27).
-----------
(1) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (6/ 13).
(2) مفاتيح الغيب (3/ 105).
(3) تفسير الطبري (1 /336).
(4) تفسير المنار (4/ 117).
(5) تفسير الرازي (20/ 287).
(6) أخرجه الترمذي (2140).
(7) تفسير السعدي (ص: 441).
(8) أخرجه مسلم (5).
(9) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 249).
(10) أخرجه البخاري (6337).
(11) أخرجه البخاري (3567).
(12) أخرجه الترمذي (2516).
(13) أخرجه أبو داود (4607).
(14) أخرجه الترمذي (2018).
(15) أخرجه مسلم (2468).
(16) أخرجه البخاري (61).
(17) أخرجه البخاري (2654).
(18) أخرجه أبو داود (5150).
(19) انظر: الأساليب الشرعية لتربية الأولاد (ص: 11- 21).
(20) مغني المحتاج (4/ 212).
(21) أخرجه الطبراني (2015).
(22) شعب الإيمان (10/ 455).
(23) طبقات السبكي (6/ 217).
(24) الفتاوى الكبرى للهيتمي (١/ ٢٠٤).
(25) تأويل مختلف الحديث (ص: 404).
(26) إشكاليات في واقع الدعاة/ مجلة البيان.
(27) فقه الوعظ/ صيد الفوائد.