logo

المجتمعات والقيم الموجهة


بتاريخ : الأربعاء ، 4 ربيع الأول ، 1442 الموافق 21 أكتوبر 2020
بقلم : تيار الاصلاح
المجتمعات والقيم الموجهة

إن هذه الأمة تمتلك من المؤهلات ما يجعلها تحتل موقع الريادة في العالم إن هي أحسنت استغلال المنجم الأخلاقي الذي تمتلكه، وأدركت أهميته في إعادة بناء الإنسان المؤمن الذي يعتز بدينه، ويعمل على حسن عرض بضاعته ليجلب إليها كل ناظر، منافسًا بذلك ما يعرضه الاحتلال العولمي، وهذا لن يتأتى إلا بامتلاك قوة الممانعة تحصينًا لنفسه ومجتمعه، وإبراز محاسن قيمه المنتمية إلى المرجعية القرآنية، التي بمستطاعها حل مشكلات الإنسانية باعتبار ثباتها وشمولها وامتدادها عبر الزمان والمكان، تستحضر حاضر الإنسان في الدنيا ومستقبله في الآخرة.

يقول عبد السلام ياسين: فمعنى اتباعنا المنهاج النبوي أن نجتمع عقلًا وعاطفة، ماضيًا وحاضرًا، ومصيرًا دنيا ودين وآخرة؛ أفرادًا على بينة من هويتهم وعبوديتهم لله ومسئوليتهم أمامه، وجماعة على بينة من مصيرها التاريخي، فيها استعداد وقدرة على الجهاد (1).

ولكي يتحقق هذا النموذج لا بد من حضور القيم الأخلاقية والروحية محركًا وغاية في الوقت نفسه للمشروع الفردي والجماعي (2).

ولا يخفى على كل ناظر في الشرع أن أحكامه ما هي إلا معايير قيمية سامية توضح للإنسان سبل السلوك السوي القويم، فكل حكم شرعي لا يخلو إما أن يكون أمر بفعل يحقق قيمة إنسانية أو أمر بترك فعل يتنافى مع قيمة؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

فمجمل الأخلاق التي حث عليها القرآن الكريم والسنة النبوية وتعرف عليها أولوا العلم من هذه الأمة؛ هي بمثابة الضوابط التي يمتثل لها المسلمون، مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم وأعرافهم، في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والبيئية، وهي المرتكزات التي تقوم عليها الحياة، كما حددها الوحي المعصوم في علاقة الإنسان بخالقه ونفسه ومحيطه، فهي موجهة بالتشريع الإسلامي الضامن لوجودها واستمرارها في كيان النشء إذ هي الأساس في بناء الأمم.

ونظرًا لأهميتها؛ عمد العلماء إلى تحقيق النظر فيها والحديث عنها ضمن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، التي تؤكد على أن إنزال الشرائع إنما هو لتحقيق مصالح العباد، بجلب المنافع لهم ودفع المفاسد عنهم، وهذه المصالح لا تعدو ثلاثة: ضرورية وحاجية وتحسينية؛ فالمصالح الضرورية هي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين (3).

وقد تم حصرها في الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

والمصالح الحاجية هي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة.

أما المصالح التحسينية فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق (4).

فالمصالح التحسينية تتضمن كل العادات الحسنة والأخلاق الفاضلة والذوق السليم والقيم الرفيعة.

ومن ثم لا يتحقق الكمال للضروريات إلا بحضور المكملات من التحسينيات، فيلزم من وجود التحسينيات وجود الضروريات ويلزم من فقدانها عدمها، فعليها يتوقف تمامها وكمالها بالشكل الأليق بشريعة جاء نبيها بغرض إتمام مكارم الأخلاق، فلا يمكن أن يتحقق الكمال الإيمانى إلا بتحقق القيم الأخلاقية التي تضفي جمالًا يجعل الأمة الإسلامية أمة مرغوبًا في الانتماء إليها والعيش في أحضانها.

إذ أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية يتأسس كذلك على أسس القوة الجمالية التي تصدر عن القيم، والتي تمثل عنصر الانجذاب بحكم الطبيعة البشرية التي تميل إلى كل ما هو جميل، وتطمئن إليه وترغب في التمثل به، فالأخلاق تضفي جمالًا ورونقًا على الدين تجذب الناس إلى الاعتقاد به، وهو الباب الذي يدخل منه الناس أفواجًا ليتعرفوا حقيقة الدين الذي ارتضاه الله لهم، وبفقدان هذا الجمال أصبحت الأمة مرمى لكل الاتهامات.

وقد عد العلماء مكارم الأخلاق من جملة المقاصد التحسينية للشريعة الإسلامية؛ بناءً على أن الإسلام إنما جاء بقصد إصلاح النفوس وتزكيتها ليكون السلوك قويمًا ومحققًا لمصلحة المكلفين في العاجل والآجل، فالله عز وجل جعل الغاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل تحقيق التزكية للنفوس، وتطهيرها من الشوائب حتى تعيش الحياة الطيبة لا المعيشة الضنكى؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، فالمقصود بالتزكية الاتصاف بمكارم الأخلاق والابتعاد عن سيئها؛ قال ابن كثير: ويزكيهم أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية (5).

فما شرعت العبادات إلا لتقويم سلوك المؤمن وتحصيل محاسن القيم.

ومن شواهد مراعاة التحسينيات في الذكر الحكيم الآية الكريمة التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (6).

فالآية جامعة لكل أصول الشريعة بالأمر بثلاثة أمور: العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وهي أصول المصالح كلها، ونهت عن مساوئ الأخلاق ورذائل الأعمال والتي جمعتها في ثلاثة أمور: الفحشاء والمنكر والبغي وهي أصول المفاسد كلها.

خصائص القيم الإسلامية:

تتسم القيم الإسلامية بمجموعة من الخصائص تجعلها تتميز عن غيرها من القيم:

الربانية: بمعنى أن الله الذي خلق الإنسان ألقى في فطرته محبة الخير وكره الشر، فالأخلاق الإسلامية تتناسب والفطر الإنسانية القويمة والشيم الحسنة السليمة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، وهذه القيم ما هي إلا إشباع لحاجات الإنسان الفطرية من حب ورحمة وعدل.

قال ابن القيم: إن الله فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة النعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النتن إلى مشامهم… وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة، فيعرفون بين طيبه وخبثه ونافعه وضاره (7).

الواقعية: بمعنى أنها قابلة التمثل في الواقع وليست مجرد قيم نظرية مثالية، وإنما هي نزلت حسب الوقائع والأحداث، واستجابت لمشاكل الناس وقضاياهم، وليس فكرًا يبتغي المدينة الفاضلة التي لا وجود فيها للشر.

العالمية أو الإنسية: بما أن هذه القيم ربانية فهي قيم عالمية ترتبط بالذات الإنسانية في كينونتها الثابتة لا في المتغيرات من الوسائل، وتشترك الإنسانية في اعتبارها وتقديسها وإن تباينت أفهام الناس حولها؛ كالحرية والمحبة والمساواة، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليتمم مكارم الأخلاق التي عهدها الناس، ويصل بها إلى درجة الكمال، وهي بهذا تشكل جسرًا تواصليًا يمكن استثماره لبناء علاقات مع فضلاء هذا العالم.

المرونة: بمعنى أنها تستجيب لحاجات الإنسانية المتجددة، فهي قابلة للتحقق في المجتمع بمختلف الوسائل والطرق، وتتكيف مع أحوال الناس والأزمان والمصار الاستمرارية، بحيث لا تقتصر على زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، ولا حال دون حال؛ بل يجب أن تستمر مع الإنسان في كل حركاته وعلاقاته حتى تصبح جزءًا من النسيج العقلي والسلوكي لصاحبها وعنوانًا لهويته.

الشمولية: إن هذه القيم تخاطب مجالات الحياة كلها وتستهدف توجيهها إلى الأفضل والأسمى، إذ هي البوصلة الموجهة لسلوكات الإنسان وأقواله وأفعاله وعلاقاته (8).

ولا ريب أن سلوك كل مجتمع هو نتاج القيم التي يؤمن بها وتهيمن على مناطق الوعي والفعل في ذهنه؛ فالمجتمعات الناهضة هي نتاج نهضة فكرية وعقلية قفزت بها فاقتحمت عقبة التنمية والازدهار، والمجتمعات المتخلفة هي نتاج الأفكار المتخلفة التي شاعت بين أفرادها وشكلت عوائق ذهنية ومتاريس عملية تعوقها عن الحركة والانطلاق.

إن الإنسان صاحب الحس الحضاري يستطيع رصد القيم الموجِّهة لكل مجتمع من خلال سلوكه ومواقفه وعاداته، وما يستحسنه أو يستقبحه من أشياء وأفكار وأشخاص، قرأت مرة لمالك بن نبي ملاحظة لا تخلو من عمق ودقة، كان يتحدث في كتابه (العفن) عن معرض حضره أيام دراسته بفرنسا، وقال إنه رأى فيه جناحًا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته، وكان يقدم الآلية التي تحرك ماكينة وعجلة (التاريخ).

وبجانبه كان مسلم -مشرقي أو مغربي- يقدم سجادة وعطورًا مثيرة؛ الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة، والثاني يدعو إلى الراحة والدعة، ثم قال: لم أر مطلقًا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.

إن مالك بن نبي هنا يغوص بعقله إلى ما وراء جمال السجادة المزركشة ونفاذ العطر المشرقي الأخاذ، مستحضرًا الأبعاد الرمزية لهذين المنتجين، إنهما يمثلان حالة من الاحتفاء بالاسترخاء والتمتع بطيبات الحياة بعيدًا عن روح التحفز والاستنفار التي ينبغي أن يكون فيها المجتمع الإسلامي المثخن بالاستعمار الفكري والمادي في تلك الآونة؛ لأن القيم الموجهة للعالم الإسلامي في تلك الفترة كانت في حالة من الاختلال والتشوه جعلت الإنسان المسلم يظهر بهذه الطريقة في معرض عام، ولا تكتمل هذه الصورة إلا إذا ركزنا على الجانب الموازي؛ وهو صورة اليهودي الذي يبيع ماكينة لتحريك العجلات، تلك العجلات المادية التي يقرأ ابن نبي في ما وراءها عجلة التاريخ الدوارة.

قد تكون هذه القيم الموجهة مصابة باختلال في ذاتها أو تشوه في طبيعتها، لكنها أيضًا قد تصاب بالتشوه من خلال الممارسات الخاطئة لحامليها؛ وإن كانت هي في ذاتها ناصعة ومحفزة وقويمة، وهذا هو ما سماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إماتة الدين، فقد روي عنه أنه قال لجماعة رآهم يمشون بتماوت مثير للشفقة: لا تميتوا علينا ديننا (9)، وروي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها فقد رأت قومًا يتماوتون، فسألت عنهم؛ فقيل لها: هؤلاء قوم من القراء، فقالت: لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع (10).

فعمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما في هذه الآثار لا يصادران اختيارات شخصية في المشي والكلام، وإنما ينتبهان بحسهما الحضاري إلى أثر العادات والتقاليد الاجتماعية في ترسيخ القيم الموجهة مشوهةً أو قويمةً، ويمنحان الناظر انطباعًا وتصورًا عن المجتمع الذي تسود فيه تلك القيم، ولم يكن من المناسب في تلك الفترة التي تواجه فيها الأمة الإسلامية حضارتين عريقتين أن تشيع في المجتمع المسلم مظاهر توحي بالضعف والوهن، ولعل هذا ما جعل أغلب المفسرين يحرص على استدعاء هذين الأثرين عند قوله تعالى واصفًا عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] (11).

لماذا الحرب على القيم والهوية؟

قوة القيم والهوية تعنى قوة القوة البشرية للمجتمع، وممكناتها على الاتحاد والاحتشاد والفعل، من هنا كان على النظم الاستبدادية أن تعادي وتحارب القيم والهوية لدى مجتمعاتها حتى تضمن ضعفها وهشاشتها وتفككها، بمعنى تحويلها إلى قطعان بشرية سهلة الانقياد، حتى تعزز بقاء واستقرار نظامها الاستبدادي.

ومع انتهاء مرحلة الاستعمار العسكري للمنطقة العربية، والتي كانت فيها الحرب صريحة ومعلنة على قيم ولغة وهوية الدول المستعمرة، وبداية مرحلة حكم النظم الاستبدادية الوكيل المحلى للدول الكبرى الاستعمارية؛ كان لا بد من صناعة سياسات ناعمة جديدة لتحقيق نفس الهدف؛ وهو تفريغ المجتمع من أية قيم حقيقية، وتجفيف منابعها عن طريق عدة سياسات من أهمها: التفكيك الناعم للقيم الكبرى القوية الحاكمة لفهم وسلوك المجتمع عن طريق عدة استراتيجيات هامة:

1- استراتيجية تشويه القيم الأصلية ووسمها بالتخلف والرجعية … الخ.

2 -استراتيجية تفريغ وتسطيح القيم الأصلية في مفاهيم وسلوكيات سطحية ساذجة، مثل اختزال قيمه الصبر في الصبر على البلاء فقط، دون الصبر على العمل والإنتاج والانجاز والتحرر …الخ.

3- استراتيجية الفهم المشوه الجديد للقيم، مثال قيمة الحب، حب الله ورسوله والصالحين والخير والجمال والصلاح، وحب الزوجة والأبناء، وحب الجنس الآخر بالشكل الطبيعي الحلال …… الخ إلى شيء واحد فقط وهو الحب في الحرام.

واختزال وتشويه قيمة الانتماء والوطنية إلى حب الزعيم والولاء له وللعلم والنشيد وفقط، وما عداه عداء للوطن والوطنية.

4- استراتيجية إحلال، بتقديم قيمة سلبية عكسية بديلًا عن القيمة الايجابية، بتقديم الفهلوة والنصب والسرقة والاحتيال، بديلًا عن العلم والعمل والإنتاج، والحرية والاباحية والتفسخ بدلًا عن الالتزام والعفة والطهارة …الخ.

ويتم ذلك عبر كل وسائل التوعية والتعليم المختلفة من خطب ودروس، وكتب تعليمية، وثقافة، وإعلام ….الخ، حيث تستخدم الاستراتيجية الواحدة عبر أحد هذه المسارات وبشكل تثقيفي وتوجيهي، فمثلًا يستخدم شيخ المسجد استراتيجية اختزال المفهوم عبر دروسه وخطب الجمعة، لكنه بطبيعة الحال لن يتمكن من استخدام استراتيجية تشويه القيمة وهو بالمسجد ومع جمهور متدينين أو شبه متدينين .

بينما تستخدم وزارة لتربية والتعليم في تصميم مناهج التعليم لطلابها، استراتيجية تسطيح واختزال القيمة ومعها إحلال قيمة أخرى موازية أو بديلة عنها.

بينما في الشباب والرياضة تستخدم استراتيجية إحلال القيمة الأصلية بالقيم البديلة مباشرة وعمليًا؛ بعمل أنشطة مختلطة بين الجنسين، لتحل بها محل قيم المحافظة والعفة واحترام قيمة المرأة …الخ

ولكن يأتي أخطر شيء وهو الدراما، والتي تسمح بجمع كل هذه الاستراتيجيات في مشهد درامي واحد، يتم تكراره على المشاهد من زوايا مختلفة، ولعدة مرات متتالية في الحلقة الواحدة، وعلى مدار شهر كامل، في سياق استراتيجي طويل ومركب ومنظم زمنيًا بما يتسرب تدريجيًا إلى عقل المشاهد، ويتحول إلى حقيقة واقعية ومنطقية، لتبدأ الرحلة المزدوجة لتدمير القيم.

الإطار التنفيذي لحرب القيم:

1- مراكز بحوث ودراسات تقرر ما هي القيم الإيجابية التي يجب محاربتها والقيم السلبية التي يجب تمكينها خلال العقد الحالي.

2- يتلقى كتاب القصص الخيط ليعملوا على هذه القيم في قصصهم والأكثر تناولًا لعدد القيم، وجرأة هو الأقرب للتكريم.

3- يستكمل كتاب السيناريو الخيط لتفكيك القيم لتطبيقات سلوكية من واقع تحديات وتطلعات المجتمع اليومية، وهؤلاء هم المسؤول الأول عن تقديم المصطلحات المتجددة للمجتمع وانتشارها وتمكينها بالمجتمع، وتحويلها إلى عادات يومية.

4- يستكمل المخرج السينمائي المسيرة ليصنع منها فيلمًا يتناول فيه الفكرة الكلية بجرأة وقوة وشراسة.

5- ثم يأتي دور المخرج التلفزيوني الناعم الذي يمتلك ممكنات جديدة ليصنع شيئًا مركبًا وهادئًا ومتدرجًا ومتكاملًا.

6- يأتي بعد ذلك كاتب الأغنية لترميز هذه القيم، وتناول شيئًا رمزيًا مهمًا منها ما يتناوله في الأغنية، ليتم تداولها وتكرارها على قلوب وألسنة الشباب والفتيات.

7- بعد ذلك مرحلة المهرجانات والتكريم لإعلاء النموذج الأكثر فاعلية وتأثيره في تحقيق الإنجاز والهدف.

إن أكبر شعار يُرفع اليوم هو شعار الإنسانية وحقوق الإنسان؛ وفي الوقت نفسه نجد أنّ أكبر انتهاكٍ لقيم الإنسان والإنسانية هو في هذا العصر.

بل أعجبُ من ذلك إذا كان رافعوا هذه الشعارات هم المجرمون أنفسهم، وهم الملطخة أيديهم اليوم بأكبر جرائم إبادةٍ في العصر الحديث.

الكوارث عبر التاريخ خلفها أزمة قيم وأخلاق:

لو تتبعنا حروب الأمم والملوك عبر التاريخ القديم لوجدنا مِن التوحش وإهدار حقوق البشر وإذلالهم وامتهانهم والقتل بالجملة وغير ذلك من صنوف التوحش الشيء الكثير.

ولم تعرف البشرية ما يسمى بقيم وأخلاق الحرب إلا في التاريخ الإسلامي، حيث كانت هناك مبادئ صارمة تكبح نشوة المنتصر من التعدي.

لذا كانت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب قانونًا واضحًا في منع التعدي، ‏عَنِ ‏‏ابن عباس رضي الله عنهما ‏قال: ‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏إِذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع» (12).

وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان سنة 6 هـ إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له: «خذ ابن عوف فاغزوا جميعًا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم وسلم» (13).

ففي المواطن التي تغلب -عادةً- فيها عواطف الرحمة بعواطف الانتقام أو الانتصار، تبقى صفة الرحمة عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في محلها لا تَطغى على غيرها، ولا يطغى غيرها عليها.

وإن غياب تلك القيم والأخلاق كان هو السبب خلف ذلك التوحش الذي اصطلت بناره البشرية، وإن كان يظهر بصور مختلفة ومتنوعة، لكنّ جذر المشكلة هو غياب تلك القيم والمبادئ التي تكبح نزوات البشر.

آلام الإنسانية اليوم بتخليها عن قيمها وأخلاقها:

والمشهد نفسه يتكرر اليوم بانتهاك حقوق البشر، وممارسة التوحش بأبشع صوره، لكنه يتم اليوم بتلبيس وخداع، فاليوم المجرم هو نفسه راعي حقوق الإنسانية ورافع شعار القيم والمبادئ السامية.

فهو يقتلك بيد ويعطيك الكفن بيد أخرى، ويسرق أسباب معيشتك ثم يمنّ عليك بسلة غذاء، ويشردك من بلدك ثم يمنّ عليك بخيم باليةٍ تؤويك.. كل ذلك باسم حقوق الإنسانية وواجب العدل تجاه البشرية.

المشكلة التي تعاني منها البشرية اليوم فقدان القيم والأخلاق التي تضع حدًا لغرائز التوحش لدى البشر.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حال الناس عندما تفقد القيم والأخلاق فقال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (14).

فكأنه يقول: إذا أصبح همكم الدنيا ولا شيء غير ذلك، ولم تعد للقيم والأخلاق قيمةٌ سيكون عندئذ السيطرة لنزوات التملك والتغلب والسيطرة، فذو السلطان والقوة يستضعف غيره، يقتله ويسلبه حقوقه، ويفشو حينئذ الذل والمهانة التي أشار إليها في الحديث.

القيم ليست ترفًا:

بدون القيم والأخلاق يكون مجتمع البشر أشبه بالغابة، يأكل القوي الضعيف، ويسحق من لا حامي له، وتمتهن الكرامات والحريات، لهذا كله فالقيم ليس ترفًا يتزيَّنُ به البشر أو المجتمعات، بل هي ضرورةٌ من ضرورات العيش، لذا لا نجد عبر التاريخ أمة لم تلتزم بأدنى حد من القيم بما يسمح لها بالبقاء، فقد تلتزم ذلك مع شعوبها أو مع مَن يوافقها في عِرق أو دين، ولكن لا تلتزمه مع غيرها، وتتفاوت الأمم في ذلك عبر التاريخ حتى زماننا هذا، لأنه لا يمكن أن يحيا شعب أو أمة بدون القيم والأخلاق فيصير كغابة من البهائم المتوحشة.

من هنا نعلم السر وراء ذلك التأكيد العظيم في ديننا على أهمية الأخلاق، ورفع مكانة صاحبِ الخُلُقِ على العابد المنقطع للعبادة، كما في الحديث: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» (15).

بل جعله معيارًا للإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (16).

ومن هنا نعلم لماذا اقترنت كل العبادات بالأخلاق، وأن علامة صحة العبادة أن تنهى صاحبها عن الخلق السيء: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

ومن هنا نعلم لماذا سنَّ الإسلامُ أخلاقَ الحروب، فنهى عن قتل الصبي والمرأة والراهب وقطع الشجر وتحريق الممتلكات.

بل كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (17).

بل ضرب مثلًا عمليًا في تعزيزه لحلف الفضول الذي يجسد حفظ القيم والأخلاق، وكان يعتز به ويقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» (18).

حيث كان حلف الفضول تعاقدًا بين أسياد قريش على رد الظالم والانتصاف للمظلوم.

التغيير الأكبر الذي حرص عليه الإسلام هو القيم والأخلاق:

حديث عظيم في بدء الإسلام جديرٌ أن نتأمله، إنه حديث جعفر رضي الله عنه أمام نجاشي الحبشة، حيث قال: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك (19).

فكان من عظيم فقه جعفر رضي الله عنه أن ركز على جانبين وهو يشرح الإسلام للنجاشي، الجانب الأول: التوحيد، الجانب الثاني: الأخلاق.

فالدين إذًا جاء بالتغيير في جانبين عظيمين هما أساس الإسلام: التوحيد والأخلاق.

وهذا التغيير الذي ينشده الإسلامُ في أفراده ومجتمعاته هو في التوحيد والأخلاق، وقد وعى ذلك الجيل الأول صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا مثالًا في التغيير العميق في نفوسهم وطباعهم.

المسلمون وعدوى فساد القيم الإنسانية:

وقد سرت اليوم إلى المسلمين كثير من أدواء مشكلة الأخلاق التي يعاني منها العالم اليوم، فكم هو حري بنا اليوم أن نعيد مراجعة عميقة شاملة للقيم والأخلاق في نفوسنا وسلوكنا ومجتمعاتنا، أن نعيش الإسلام واقعًا وسلوكًا عمليًا.

ونحن إذ نلقي اليوم نظرة على مشاكل المجتمع المسلم لن يحتاج منا كبيرَ تأمل حتى نعلم أن فساد الخلق والقيم خلف كل مشاكلنا التي تبرز كصراعات وتناحرات وأنانية وظلم، أدى ذلك كله إلى اقتتالِ الصف الواحد واستباحة الدماء والأعراض، وقد تطفو على السطح أمور يبدو أنها المشكلة خلف ذلك، لكن في الحقيقة هي مشكلة قيم وأخلاق، ويتعقد المشهد ويزداد صعوبة عندما يبدأ كل فريق بتلبيس موقفه ودعواه لبوس الانتصار للحق والاحتجاج بمنطق الدين نفسه.

هذا عدا عن أساليب المراوغة وعقد بيعات النصرة والولاء والبراء على انتماءات ضيقة تخرج عن عدل الإسلام وإنصافه إلى بَطَرِ الحق وغمط الناس وازدرائهم.

فما أشبه ذلك بسلوك قوى عالمية اليوم تدعي الحق والقيم وفي الوقت نفسه تمتهن الشعوب وتشردهم وتتفنن باستعمال أحدث الأسلحة في حفلات إبادة جماعية وحشية (20).

______________

(1) القرآن والنبوة (ص: 65).

(2) الإسلام والحداثة (ص: 245).

(3) الموافقات للشاطبي (2/ 8).

(4) الموافقات للشاطبي (2/ 11).

(5) تفسير القرآن العظيم (1/ 115).

(6) تفسير ابن كثير (4/ 596).

(7) مدارج السالكين (1/ 253).

(8) القيم الأخلاقية بين الغاية التعبدية والوظيفة الوجودية/ مؤمنات.

(9) آثار ابن باديس (1/ 438).

(10) مجالس التذكير (ص: 293).

(11) المجتمعات والقيم الموجهة/ إسلام أون لاين.

(12) أخرجه أحمد (2728).

(13) أخرجه الحاكم (8623).

(14) أخرجه أبو داود (3462).

(15) أخرجه أبو داود (4798).

(16) أخرجه أبو داود (4682).

(17) أخرجه أحمد (8952).

(18) أخرجه البيهقي (13080).

(19) أخرجه أحمد (1740).

(20) الإنسانية وأزمة القيم/ رابطة العلماء السوريين.