ثبات السنن وتغير الأمم
لله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن، والسنن تعمل ولا تتعطل ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك نتائج كالنصر أو الهزيمة، والتمكين أو الزوال، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
المقصود بالسنن الإلهية:
السنن الإلهية عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
وقال تعالي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53[.
ولهذه السنن خصائص:
أولًا: الثبات: فهي غير قابلة للتبديل والتغيير، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، قال السعدي رحمه الله: فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء، ما فعل بأولئك (1).
فالسنن الإلهية تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك نتائج؛ كالنصر أو الهزيمة، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل.
ثانيًا: العموم والشمول: أي أنها تشمل جميع من وجبت في حقهم هذه السنة دون استثناء وبلا محاباة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، قال ابن كثير رحمه الله: أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام (2)؛ وهذا عام في جميع الأمم السابقة وبما فيها أمة محمد صلى الله عليه سلم.
فالسنن الإلهية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
فهي حاكمة على جميع الأفراد، والأمم والمجتمعات، فإذا وقفنا عند قانون من قوانين الله تعالى كقانون النصر نعلم أن له ضوابط ومعالم تنسحب على الجميع دون مجاملة ولا محاباة.
ثالثًا: الاطراد: أي التكرار؛ أينما وجدت الظروف المناسبة مكانًا وزمانًا وأشخاصًا وفكرًا وسلوكًا، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
قال صاحب أضواء البيان: أي قد كان من قبلكم أمم أمثالكم، فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم الهلاك (3).
ولقد نجم عن ذلك أمران:
الأول: استبعاد عنصر المصادفة تمامًا، إذ لا يمكن للمصادفة أن تثبت نظامًا أو تجعله شاملًا.
الثاني: أن الثبات والاطِّراد والشمول جعل قيام العلم أمرًا ممكنًا، إذ لو تغيّر نظام الوجود وخصائص الأشياء من مكان إلى آخر أو من زمان إلى آخر لما قامت حقائق علمية، ولما كان هناك تقدّم وحضارة (4).
ولـمّا كان دور العلــم أن يبصّرنا بآيات الخـالق جلّ عُلاه في الكون وبنظامه الرائع البديع، كان اطِّراد هذا النظام وسيلة إلى اكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية وقوانين المادة التابعة الصارمة التي لا تعرف التغيير والتبديل، مما يساعد الإنسان على معرفتها ثم التكيّف معها وتوظيفها في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
ومع وضوح هذه السنن في القرآن، وقع كثير من الناس في غفلة عنها، وعدم تدبرها؛ وما أصاب الأمة اليوم من غثائية حتى عادت كالقصعة المستباحة لكل من يريد أن ينال منها، إنما هو من جهل أبنائها بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم الخبير في هذا الكتاب العظيم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا بعدًا، ولن يفهم التاريخ فيعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير والاستبدال إلا بمعرفة سنن الله عز وجل (5).
نماذج لاستخراج السنن واستنباطها:
يمكننا استخراج السنن من القصص القرآني الذي يشغل مساحة واسعة من القرآن الكريم، ومن الأمثال القرآنية كذلك، والآيات التي ورد فيها ربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات:
1 - القصص القرآني:
إن إلحاح القرآن الكريم على الأمر بالسير في الأرض، لا لمجرد التسلي والوقوف على مصارع الأقوام الغابرة، والنظر في عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ولكن للاعتبار، وتجنب أسباب الهلاك التي وقعوا فيها، واكتشاف سنن الله التي لا تتعطل ولا تنخرم في التاريخ حتى لا تسقط الأمة فيما سقطوا فيه وتحصدها عجلة السنن.
فالتاريخ يعيد نفسه، وتظهر فيه سنن الله جلية واضحة؛ {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحٰبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوٓا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [التوبة: 70]، فأحداث التاريخ تتكرر، وسنة الله ثابتة مطردة على مدار التاريخ.
هذا وقد سعى القصص القرآني لكشف تفاعل السنن الإلهية في واقع الناس لاستخلاص العبر والعظات بأن لا شيء يخرج عن عهوده الربانية والتي هي كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر (6).
يقول الدكتور صلاح الخالدي: لماذا القصص القرآني عبرة؟ العبرة من العبور، وكأن الواحد منا عندما يقف أمام قصص السابقين في القرآن يعبر إلى الماضين، كأنه يتخلص من قيد الزمان والمكان، ويتحرر من أسْر الواقع، ويستعلي على النظر القاصر القصير، وينطلق إلى عوالم فسيحة من تاريخ الأقدمين، وقصص السابقين فيعايشهم ويراقبهم ويتعظ بهم.
إنها نماذج بشرية مكررة تقدمها لنا قصص السابقين في القرآن؛ نماذج المؤمنين ونماذج الكافرين، نماذج الضعفاء الأذلاء، ونماذج الرجال الصادقين الأقوياء، وإنها قيم دائمة توحي لنا بها قصص السابقين؛ قيم الحق وقيم الباطل، قيم الفضيلة وقيم الرذيلة.
إنها المعركة المستمرة بين الحق والباطل، وإن التاريخ يعيد الكثير من ميادين هذه المعركة وأساليبها وصورها ومجالاتها، ولا يختلف فيها إلا الأشخاص فقط.
إن قصص القرآن كنزٌ لا ينفد، ومَعين لا ينضب، في دروسه ودلالاته وعِبَره، وفي الإيمان والعقيدة، وفي العمل والدعوة، وفي الجهاد والمواجهة، وفي المنطق والأسلوب، وفي الصبر والثبات، وفي الموازين والحقائق (7).
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرٰى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
هذا علاوة على أن أفضل الفوائد والفرائد وأهم الدروس والعبر في القصص القرآني هو تنبيه الناس على سنن الله تعالى في نشوء المجتمعات واندثارها، وتأثير أعمال الخير والشر فيها، ومطالعة أمر الله في أحوال الكافرين وسنته المطردة التي - لا تتعطل - فيهم: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31].
2 -الأمثال القرآنية:
لم تذكر الأمثال في القرآن عبثًا، وإنما ذكرت لاستقراء ما وراءها من عبر غوالٍ، ودروس بالغة، وسنن إلهية ثابتة، ينكشف بها اللبس، وتتبين العثرات، حتى يدرك الناس ما ينفعهم، فيسعوا لتحصيله، ويدركوا ما يضرهم فيجتنبوه، قال الحق جل وعلا في بيان الحكمة من ضرب الأمثال: {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]، وقال عز من قائل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27]، وقال جل جلاله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
ولذلك فإن للأمثال القرآنية شأنًا عظيمًا في تزكية النفوس والرقي بها نحو المعالي، فمن الأمثال – مثلًا - التي تتضح فيها سنن الله جلية واضحة، قوله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ اٰمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظٰلِمُونَ (113)} [النحل: 112- 113]، وفي المثل سنة مطردة وهي سنة الله في النعم وتغييرها.
3- الآيات التي ورد فيها ربط النتائج بالمقدمات:
نحو قوله تبارك وتعالى في سنته في تيسير المخرج للمؤمنين: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، وقوله عز وجل في سنة النصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوْٓا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
إذًا فسنة الله ترتيب الأسباب على المسببات والنتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلومات على العلة، وتغيير النعم على تغيير ما بأنفس الناس، والنصر في ساحة الوغى على إعداد القوة المستطاعة المعنوية والمادية (8).
هذا، وما خفي أعظم، وأبعاد سنن الله المطردة لا متناهية، قال الدكتور محمد رشاد خليل: وسنن الله كثيرة لا تقع تحت حصر، منها ما نعرفه ومنها ما نجهله وقد نعرفه بعد البحث، ومنها ما لا يحيط بعلمه إلا الله ... ذلك أن السنن ليس ما نعرفه فقط وإنما ما لا نعرفه أيضًا، وما لا نعرفه أكثر كثيرًا مما نعرفه (9).
ولا ننسى ما ورد في السنة النبوية المطهرة من سنن إلهية مطردة، نجدها وأشتاتًا في أسفار كتب الحديث: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (10).
تطابق الواقع مع ما قرره القرآن من سنن إلهية:
ولما كان الكفار لا يؤمنون بكتاب ربنا بل لا يؤمنون بكثير من الغيب جعل الله لسننه شواهد مادية باقية، فنحن نشاهد آثار قرى عاد وثمود، وكيف أهلكهم الله تعالى، وبقيت معالمهم ومصانعهم عبرة حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه غشيانها وإتيانها، إلا أن يكونوا باكين معتبرين، يعرفون ما هذه السنة التي جرت على هؤلاء فيتجنبونها.
وكذلك جثة فرعون مصر التي تطوف العالم اليوم ليحق فيه قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].
والتاريخ يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية، ولم تكن السنن لتجري على الكفار دون المؤمنين فانظر على سبيل المثال ما حل بالمسلمين في أواخر الدولة الإسلامية في الأندلس؟
كيف غير المسلمون حالهم فغير الله عز وجل حالهم؟ {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وهذه سنة الله في الأمم.
وفي علم الصحابة بعلم السنن الإلهية يقول صاحب المنار: وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها.
يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب الغربية منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها؛ بما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى، ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسبب سبقهم للأمم التي استولوا عليها (11).
أسباب جهل الناس بالسنن الإلهية:
1- الغفلة عن تدبر سنن الله:
الغفلة التي وقع فيها كثير من الناس بسبب هجر القرآن تلاوة وفهمًا وتدبرًا وعملًا يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنن، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعًا من التهويل والمبالغة، ولقد وجهنا القرآن الكريم إلي تدبر معانية بأخذ العبرة من السابقين فقال تعالي: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
والتوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين، وآثار الذاهبين، وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها فلا تقف، وإذا وقفت لا تحس، وإذا أحست لا تعتبر، وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة، وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية.
وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات لا رابط لها، ولا قاعدة تحكمها.
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم وكانوا أشد منهم قوة فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم، أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى؛ القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين: {وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}، ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها: {إِنَّهُ كانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}، يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض وتقوم قدرته إلى جانب علمه، فلا يند عن علمه شيء، ولا يقف لقدرته شيء، ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه.
2- قصر النظر واستعجال النتائج:
والسبب الثاني الذي يجعل كثيرًا من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة مثلًا بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره (12).
معرفة السنن وأثره في فهم الواقع:
1- معرفة السنن الإلهية فريضة شرعية وضرورة واقعية:
فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبينه في غيره، بين فيه كثيرًا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علمًا، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالًا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة.
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها.
2- لا نستطيع أن نفهم التاريخ ونحلل الأحداث إلا بفهم السنن الإلهية:
فمن خلال السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرًا شرعيًا سليمًا ينفعنا في تقييم حاضرنا وتوقع مستقبلنا؛ وللأسف كثير من المسلمين اليوم لا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة السنن بل قد يدهشهم الواقع دون تفسير حقيقي لما سيكون في الغد من أحداث، قد تكون سعيدة أو مؤلمة.
أما أصحاب البصائر من أهل العلم فهم يعرفون عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
فتبدل الأحوال في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة… مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله به.
وأسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
إذ ربطت هذه السنة بين أمرين: بين فسق المترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، وأهل الترف هم من سماهم القرآن الملأ وهم حاشية الملك من الأثرياء والوجهاء الذين شغلتهم أموالهم ومناصبهم عن أمر الآخرة فولوا وجوههم نحو الدنيا وجعلوها قبلتهم فكان دمارهم حتمًا ولزامًا.
إنها سنة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله تعالى وتأبى الخضوع لحكمه.
والقرآن الكريم حين لفت أنظار الناس إلى أحوال الأمم السابقة وعواقب الأمم البائدة، إنما أراد بذلك أن نستخلص العبر ونستجلي العظات لبناء مجتمعات مؤمنة سليمة، قوية وعادلة.
3- معرفة السنن والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح:
لأن لله سنن في النصر والتمكين كما له سنن في التغيير والاستبدال، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل، الذين هم أعرف الناس بالله سبحانه، وبأسمائه وصفاته، وبالتالي فهم أعرف بسننه سبحانه وعاداته وأيامه، وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها، وما حلت الهزيمة محل النصر والضعف محل القوة والعزة محل الذل إلا بسبب الإعراض عن معرفة سنن الله عز وجل وما فيه من الهدي والنور.
ولكن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن كذلك الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين الصادقين، وبالتدمير على الكافرين المعاندين، فلا ييأس المؤمن؛ لأن عنده رسوخًا في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.
فمعرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويومًا بعد آخر، وتحق عليها السنن، فيؤمن بأن الله تعالى سننه لا تتخلف ولا تبدل ولا تحابي ولا تجامل فيطمئن قلبه لوعد الله .
وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.
وموافقة السنن الإلهية مما يمنح المسلم شعورًا بالعزة، لأن بعض الناس إذا رأوا قوة العدو ورأوا ضعف المسلمين، ربما داخلهم نوع من اليأس، حتى ربما يميل بعضهم إلى العزلة، لأنه رأى أمرًا لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى السنن الإلهية يجعله يطمئن لوعد الله بأن العاقبة للمتقين.
4- في معرفة السنن والسير على هداها اجتماع للكلمة ووحدة للصف:
ففي معرفة السنن ما يعين المسلمين على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والضعف والتشتت؛ لأن كشف السنة التي تحكم أمرًا من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة عليم خبير، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
فيجمعهم هذا الأمر بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج.
5- في معرفة السنن والسير على هداها تحقيق لمعنى الاستخلاف في الأرض:
فمعرفة السنن التي تؤدي لحدوث الظواهر سواء كانت مادية أو إنسانية، ما يفيدنا في التحكم بهذه الظواهر، بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، ويجعلنا قادرين على تسخيرها لصالحنا والاستفادة منها وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا، مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
6- في معرفة السنن ما يرسخ في المؤمنين تعظيم الله وحبه:
إن معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ مثلًا أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالًا وتوقيرًا للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلًا كما قال الله عز وجل وأمر: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26- 27].
قال سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، من شأنه أن يعز أفرادًا ويذل آخرين، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك.
فجريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه.
فقه المسلم في التعامل مع السنن الإلهية:
الإنسان مهيأ لإدراك السنن الربانية لأن الله تعالى استخلفه في أرضه، واستعمره فيها، ومهد له سبل الانتفاع بها، ووسائل التعايش معها، وجعل كل ما حوله يخدمه ويؤازره، وزوده بملكات يدرك من خلالها ما حوله وهداه إلى سبل الانتفاع بها، وجعل ذلك نعمة من نعمه تعالى عليه، ومنة من مننه لديه؛ بل علة لتسبيحه تعالى فقال: {اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5)} [الأعلى: 1- 5].
وهيأ له من وسائل العلم والمعرفة ما يجعله أهلًا لتلقي أوامر الله تعالى وتنفيذ وصاياه، لذلك كثر في القرآن الكريم الأمر بالسير في الأرض والتفكر فيها والنظر في جنباتها والاتعاظ بأحوال أهلها.
فقه السنن الإلهية، فأهم شرط من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم هو أن نفهم أو نفقه فقهًا شاملًا رشيدًا هذه السنن وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي، أو ما نعبر عنه بـ (فقه السنن)، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية والمعادلات الحضارية.
ومن هنا يقول أحد الصالحين: لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد.
وإذا أردنا أن نفصل هذه الخطوات وجدناها على النحو التالي:
1- عدم المصادمة: ذلك أن الإدراك الحقيقي للسنن الربانية يجعل الإنسان بعيدًا عن مصادمتها، وكيف يصادمها وهو يدرك طبيعتها ويعلم سيرها وعدم تخلفها أو تبدلها وتحولها، من هنا فهو يتعامل معها على هذا الأساس تعامل الكيميائي مع المواد التي يعرف خصائصها ويدرك كنهها، والطبيب الذي يعرف خصائص المرض وأنواعه فيشخص الداء ويصف الدواء بكل تجرد وحيادية.
2- المغالبة: والمغالبة تعني المفاعلة، ويراد بها هنا أن المسلم إذا كان لا ينبغي له أن يصادم السنن والنواميس ولا يقف أمامها؛ فإنه مأمور بأن يغالبها ويوظفها لصالحه، ويجعل تيارها معه لا عليه.
3- الاستخدام: وهو المقصود بالتوظيف بعد الإدراك والتسخير بعد الفهم، وهذا هو بيت القصيد؛ من فهم السنن الربانية أن يصل بها في النهاية إلى درجة توظيفها له وانتفاعه بها؛ بل حسن التوظيف وحسن الانتفاع.
4- تحويل تيارها: والمقصود من تحويل تيار السنن والنواميس الربانية أن يجعلها الإنسان تخدمه لا تستخدمه، وأن يغتنم قوتها وشدتها، وأن يجعل تيارها يجري في المسار الذي يخدمه ويعود عليه بالنفع والغنم.
5- واستعينوا ببعضها بعض على: وهذا دور الإنسان المدرك لطبيعة السنن والمدرك لأنه أهل لاستخلاف الله تعالى له، وجعله سيدًا في هذا الكون؛ فهو بهذا
الاستخلاف وتلك السيادة يملك بعقله الذي وهبه الله تعالى له توظيف بعض السنن ببعض، والاستعانة بها عليها حتى يكون مسخرًا لها ولا تكون هي مسخرة له، وساعتها سيكون من أهل النصر القريب والفتح المبين.
إن الأمة اليوم عامة والعاملين للإسلام خاصة في أمس الحاجة إلى هذا الفكر الواعي الذي يقوم على التدبر في سنن الله تعالى وفقه التعامل معها، فإن كثيرًا من أمراض أمتنا نشأت وترعرعت في ظل غياب الفهم الكامل لمضامين القرآن الكريم، والغيبوبة التي طالت عن مراد الله تعالى.
ونحن بتقصيرنا في هذا الجانب -جانب السنن الربانية وفقهها- نشارك في رسم صورة سيئة عن الإسلام عند أعدائنا، فإنهم يربطون بين تخلفنا العلمي والحضاري والثقافي والمعيشي وبين ديننا، فيظلم هذا الدين الجريح بهذه النظرة إليه، ولنا في صنع هذا الظلم له نصيب كبير.
إن من فهموا قوانين الله تعالى وسننه في خلقه استطاعوا أن يحققوا سبقًا ويحرزوا نصرًا، ويصلوا إلى أهدافهم؛ فمؤمن آل فرعون استطاع أن يصل إلى ما يريد من خلال إرشاد قومه إلى سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، وأتت عبارته بهذه الدقة البالغة والبيان المعجز {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34]، {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40]، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} [غافر: 44].
وجنود طالوت فهموا أيضًا سنن الله تعالى فقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [البقرة: 249- 251].
إن أمة تريد النصر وتسعى إليه لا بد أن تفهم هذه السنن وتنادي بفهمها حتى يعم النصر المؤمنين: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)} [الروم: 4- 6].
فلا بد من مراجعة النفس مع كتاب الله تعالي فهمًا وتدبرًا ومراجعة عبادة الاعتبار في أحوال الأمم السابقة، وفقه التعامل مع سنن الله تعالي وعلينا بالاعتصام والوحدة والتركيز نحو الهدف ولا ننجر إلي خلافات فرعية تثنينا عن هدفنا الأكبر وهو التمكين لدين الله تعالي من أجل الحصول علي رضا الله تعالي والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض (13).
***
_______________
(1) تيسير الكريم الرحمن (ص: 691).
(2) تفسير ابن كثير (2/ 417).
(3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 185).
(4) علم السنن وأهميته في الآفاق والأنفس/ مجلة البيان (العدد: 207).
(5) من سنن الله عز وجل في القرآن/ موقع الواد.
(6) منهاج الفتوى على ضوء السنن الإلهية (ص: 98).
(7) مع قصص السابقين في القرآن (ص: 30).
(8) السنن الإلهية في السيرة النبوية (ص: 128).
(9) دفاع عن التاريخ الإسلامي (ص: 105- 106).
(10) أخرجه أبو داود (3462).
(11) تفسير المنار (4/ 115).
(12) السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع/ شبكة الألوكة.
(13) السنن الإلهية دراسة تأصيلية/ منارات للعلوم الشرعية والدعوية.