حاجة الدعاة إلى المراجعة
لا تشتد حاجة الدعاة اليوم إلى شيء كما تشتد حاجتهم إلى المراجعة البناءة لحصاد جهودهم في مجال الدعوة، ذلك أن هذه المراجعة ضرورية اليوم لتصحيح أخطاء التجربة، ولتلافي أوجه القصور في العمل، وتلافي أسباب ما حدث عند البعض من فشل، والعمل على توحيد الصفوف على خطة عمل تأخذ في حسابها كافة العوامل المؤثرة على سير الدعوة سلبًا وإيجابًا، وتفرق بين الممكن والواجب، وتنسق بين الإمكانات والأهداف، وتعمل على رفع أسباب الاختلاف والفرقة، التي يكون سببها نقص العلم، وقلة الخبرة، وسوء التقدير، وسوء الفهم، وسوء الظن، وفرط الثقة، وعدم التخطيط، أو سوء التخطيط، وسوء التنفيذ.
فالمراجعة والمحاسبة في أدبياتنا الإسلامية هي عملية واعية لإبصار عيوب النفس، وتحديد أخطائها لعلاجها، وتصحيح المسيرة، ولم يعُد مقبولًا أبدًا تمرير الأفكار بدون مناقشة، ولا تكرارُها بدون تمحيص، ولا تبرير المنحرف منها والدفاع عنه حتى الموت، فقد حولت هذه العادات الفكرية العقول إلى أوعية فيها كم فوضوي من الأفكار؛ مما أدى إلى انتكاسات ذهنية، ليس أقلها حمل أفكار متضاربة إلى حد التناقض من غير أن يشعر أصحابها بذلك، إلى جانب الأحادية التي تُلغي الإثراء والتمييز وفسح مجالات الاختيار، وازدياد مساحة التقليد، واشتداد التعصب وتحنيط العقل، وكل هذا يُغري بالجنوح إلى تنزيه الذات واتهام الغير، وبالتالي إلى العنف اللفظي والمادي بدل الحوار على خلفية انشراح الصدور؛ لأنه يُوهم بامتلاك الحقيقة المطلقة، وهو في النهاية يهدم ولا يبني، ويهوى التفريق بدل التجميع.
ولا يجب أن نغفل لحظة واحدة عن أن الصحوة الإسلامية تواجه أعداء أقوياء، مدربين على العمل المخطط والمنظم، ولهم يد طويلة في كل ركن من أركان العالم الإسلامي، ولهم وسائل تأثير وعمل نشطة وقوية، وراءها رصيد هائل من الخبرة والتجربة.
مسئولية الدعاة عن توجيه الصحوة:
إن هذه الصحوة في أشد الحاجة إلى القيادة المؤمنة الواعية التي تستطيع توجيهها إلى العمل الصائب الذي يُجنبها المخاطر، ويجعلها على وعي بالفخاخ المنصوبة على كل خطوة في الطريق.
ولا شك أن الذي مكن، وما يزال يمكن، للاستعماريين فينا هو عجزنا وضعفنا وهواننا وفرقتنا، ولكن حين يكون التفرق والاختلاف في الصحوة، التي تعقد عليها الآمال في خروج الأمة الإسلامية من بئر الهوان، فإن الأمر لا يحتمل التلكؤ، وإنه جد خطير.
ولنواجه الواقع الإسلامي دون لف أو دوران، ودون مواربة؛ لأن ذلك يعني ترك الخرق يتسع، والشق يتحول إلى شقوق تؤدي في نهاية الأمر إلى انفجار الصحوة من داخلها، وساعتها لا ينفع الندم، وساعتها لن يكون الحساب حساب الذين اختلفوا وحدهم، وإنما سيكون أيضًا حساب الذين عرفوا وسكتوا، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
من أجل ذلك كله تشتد الحاجة إلى المراجعة البناءة للعمل الإسلامي لتوجيه الصحوة الإسلامية، وحمايتها من المخاطر التي تتهددها، ويجب أن تكون المراجعة على منهج هدفه أن يحصر الخلاف، ويتعلم الجاهل، ويتنبه المتأول، ويلزم الناس الجماعة التي بدونها تصبح الصحوة فقاعة في الهواء؛ ولن يتحقق ذلك إلا على أساس من فقه صحيح للإسلام(1).
أولًا: مراجعة الأهداف الدعوية:
إننا حينما نمعن النظر والتأمل في هدف الرسالة الدعوية المقدمة للناس في واقعنا المعاصر، سواء كانت خطابًا دعويًا أو برنامجًا عمليًا، سنجد هدفها محدود المرامي؛ إذ إن غاية ما يرمي إليه يتمثل في نقل فئات وشرائح المجتمع إلى واقع التدين والاستقامة والصلاح من خلال التربية والتوجيه.
نعم، إن هذا الهدف هدف أصيل مهم، وسيبقى هكذا، ولن نتنازل عنه؛ فإن إخراج الناس من دائرة الكفر إلى الإيمان، ودعوة أهل الإسلام للانتقال من دائرة المعصية إلى واقع الاستقامة والصلاح، يُعد من صميم منهج الأنبياء؛ لكننا تلافيًا للقصور والتفريط الماثل في بعض الجوانب ينبغي أن نوسع من دائرة اهتماماتنا الدعوية، فنضم إلى هذا الهدف أهدافًا أخرى أصيلة، تكمل جوانب النقص.
إننا بحاجة إلى تحديد ومعرفة أدق أهدافنا التي نريد تحقيقها في خطابنا للمجتمع، فإن هدفنا لا يكمن في مجرد القيام بنشاط دعوي، واستغلال الفرص لإلقاء كلمة هنا وأخرى هناك(2).
إننا يجب أن نلاحظ أن تيار التغريب يسير اليوم متدرجًا خطوةً خطوةً، حتى يصل إلى تحقيق ما يريده من أهداف مشبوهة، فأين نحن من هذه النظرة والرؤية الواضحة؟!
إننا يجب أن نستشعر أننا أمام تحد ومشروع عظيم، يتطلبُ رؤيةً واضحةً وشاملةً، لتحديد أدق خطواتنا وأهدافنا لإصلاح وتغيير هذا المجتمع الذي يُعد أفراده بالملايين.
إن من الضروري أن نبذل ما بوسعنا لنحسن من مستوى أدائنا الدعوي، فإن الله جل وعلا يقول في كتابه العزيز: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويقول أيضًا جل شأنه: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والاستطاعة ليست محصورةً في الجهود البدنية؛ بل هناك أدوات أخرى فاعلة، تدخل تحت مسمى الاستطاعة؛ مثل التفكير المتأني، والدراسة الموضوعية، وهي أدوات أصبحت في عصرنا هذا أكثر تأثيرًا وفاعليةً(3).
المحافظة على المكتسبات الموجودة:
إننا نرى في مجتمعاتنا مكتسبات موجودةً، قد لا ترضي طموحاتنا وتطلعاتنا، لكننا حينما نعلم أن البديل قد يعني فقدانها، وانحيازها إلى الصف المضاد للصحوة فإن هذا يُشكِّل دافعًا كافيًا يحثنا للعمل من أجل المحافظة على هذه المكتسبات.
إننا حينما نُلقي نظرةً فاحصةً، سنجد أنفسنا أمام شرائح متفاوتة:
الأولى: الشريحة المتدينة: وهذه تستمع وتسر وتشيد بأحاديثنا الساخنة، التي نكرر فيها اللوم والتأنيب، والحديث عن الأخطاء، فهم يعجبون بهذا الحديث، ويعتبرونه تقويمًا لهم.
الثانية: شريحة الوسط المُحَافِظَة: وهي شريحة واسعة، لا يُعد أفرادها في دائرة المتدينين، ولا يرحبون بأن يُحْسبوا ضمن هذه الدائرة، لكنهم في الجملة محافظون، قد يتساهلون في أمور كثيرة، ويعتبرون أنفسهم داخل دائرة الخير.
الثالثة: الشريحة الهابطة والمتدنية: إننا في حاجة لخطاب دعوي، وجهود ومشاريع عملية تستهدف المحافظة على الشريحة الثانية الواسعة التي تعيش في الوسط، وهذا بالقطع لا يُفهم منه فقدان الأمل، وغض الطرْف عن الشريحة الثالثة والأخيرة.
إن طبيعة الخطاب الدعوي الذي يستهدف نقل الناس من دركات الشهوات والمعاصي إلى درجات الجد والعزيمة، وهي حياة قد لا يطيقها كثير من الناس، قد يجعل قدرتنا محدودةً في ترقية ونقل هذه الشريحة إلى درجات أعلى.
وعلى فرض عجزنا وإخفاقنا في تحقيق الارتقاء المأمول، فإننا يجب أن نضع من ضمن أهدافنا أن نحافظ على هذه الشريحة بإبقائها، على الأقل، على ما هي عليه، حتى لا تنزل إلى مستوى متدن، وتصبح هدفًا سهلًا لتيار التغريب.
ربما نقول لهم: إنكم إن لم تصلوا إلى المستوى المثالي في التدين والالتزام، فإن بقاءكم على هذه الدرجة، وفي هذا الإطار، مع شعوركم بالانتماء العام للإسلام، أمر مطلوب، وإن وقوعكم في المعصية لا يعفيكم من هذا الشعور(4).
ثانيًا: مراجعة مستوى ومحتوى الخطاب الدعوي:
يُعد الشغف بالتفاصح من الظواهر المرضية المنتشرة بين حملة العلم وطلبته على مر العصور، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الداء الوخيم فقال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة»(5).
ولا يقتصر الإغراب عند محبي الظهور على التفاصُح فحسب؛ بل يشمل التعلق بالمصطلحات المتكلفة، والعبارات المستغربة، والذي يصل عند بعضهم إلى حد الهوس بتوليد مصطلحات يعسر فهمها، تُوهِم المستمع بلباقة المتحدث، وعمق تفكيره، وحدة ذكائه، في الوقت الذي يكاد المستمع أن يجزم بالحكم على نفسه بالغباء والجهل؛ لأنه لم يفهم خطاب المتحدث لقصور في إمكاناته العقلية والمعرفية كما يظن، وليس ظنه بشيء؛ فما هي إلا قعاقع وشقشقات تشبه شعوذة الدجاجلة من المتكلمين قديمًا، تلك التي كانوا يرومون من ورائها الغاية النفسية التي تقدم ذكرها قريبًا؛ وما ذاك إلا لضعف حججهم النقلية والعقلية.
وعلى النقيض من صنيع أهل الإغراب نجد استرواح بعض المشتغلين بالدعوة إلى التفوه بالألفاظ العامية، والعبارات السوقية، والتي قد تسفل بالبعض أحيانًا إلى استعذاب البذيء من الكلام، والمبتذل من التعابير.
والحجة التي يركنون إليها، ويعولون عليها هي التيسير على العوام، وتأليف قلوب العصاة، لا سيما أرباب الحرف والصنائع وأشباههم، ممن يغلب عليهم قلة المحصول الثقافي عامة، والشرعي خاصة.
لكن حجتهم الآنفة مدحوضة، وصنيعهم المذكور غير محمود؛ إذ المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى رفع المستمعين إلى مستوى فهمهم، لا النزول إلى فهم مستمعيهم.
فإن تعذر فهم المخاطبين للغة الضاد، وهو متعذر على كثير من الناس لضعف الصلة بالعربية، فلا بأس بمخاطبتهم بعامية غير ممجوجة، وبمفردات غير رقيعة.
إننا يجب أن نعي أن الخطاب الدعوي السائد والموجه ربما يتناسب مع مرحلة عفا عليها الدهر قبل عشر سنوات.
إننا لا بد أن ندرك أن المجتمع ينفتح على عوامل ومؤثرات كثيرة، توسع وتزيد في دائرة ثقافته واهتماماته.
وبغض النظر عن موقفنا من محتوى هذه الثقافة، فنحن مطالبون بالتعامل مع هذه المستجدات التي طرأت على ساحة المجتمع؛ ليكون خطابنا الدعوي مواكبًا لهذه النقلة الثقافية والحضارية.
إن بطء سيرنا وعدم مواكبتنا لهذا التغير، بتغير في طريقة تفكيرنا وتناولنا، سيخلق حاجزًا ثقافيا، وسيزيد الهوة بيننا وبين المجتمع اتساعًا.
إننا مطالبون بزيادة مساحة الإقناع التي تعتمد على احترام العقول، ومخاطبة الناس بما يفقهون(6).
إننا نعيش اليوم مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة، التي ألغت الحدود، واختزلت المساحات والأزمان، وتكاد تلغي الجغرافيا، وتجاوز اختراق الحدود السياسية والسدود الأمنية إلى إلغاء الحدود الثقافية، وساد التدخل في الخصائص النفسية وتشكيل القناعات العقلية لصاحب الخطاب الأكثر تأثيرًا، والبيان الأكثر سحرًا، والتحكم الأكثر تقنية.
إننا ندعو إلى إدراك هذه الأبعاد الخطيرة للعملية الإعلامية، بإطلاق الطاقات المبدعة في العالم الإسلامي، التي لن تتحرر في أجواء القمع والإرهاب والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، تلك الأجواء التي أدت إلى هجرة العقول والسواعد، وحتى هجرة الأجنة قبل الولادة.
إن هذه الجراحات النفسية والثقافية لا بد لها من رجال دعوة مؤهلين، يحتسبون أجرهم عند الله، كما لا بد من إعلام مؤثر مخطط، قادر على التعبير عن رسالة الإسلام النقية وثقافته المتميزة.
تقليل مساحة الخطاب العاطفي:
إن الخطاب الدعوي السائد يتسمُ بلغة وأسلوب يزيد من مساحة التركيز على العاطفة، مع قلة في الخطاب المنطقي والموضوعي المقنع.
إن الشريط الذي ينتشرُ اليوم ويلقى رواجًا واسعًا، واقبالًا من المستمعين، هو ذلك الشريط الذي يخاطب العواطف ويلامسها، معتمدًا على ملكات الصوت؛ كالنبرة، وفنون الإلقاء ونحو ذلك، وربما يدبج أحيانًا بقصة مؤثرة، قد تكون شاذة وغريبة.
نعم، إن الله تعالى لم يخلق العاطفة عبثًا، فإن للعاطفة تأثيرًا لا ينبغي تهميشه، لكنني أعتقد أننا بحاجة إلى تقليص دور الخطاب العاطفي لمصلحة الخطاب المنطقي، الذي يخاطبُ عقول الناس أكثر مما يخاطبُ عواطفهم؛ إذ إن هذا يفضي إلي خلق قناعات راسخة عند السامعين، على خلاف الخطاب العاطفي، والذي قد تتعرض القناعاتُ الناجمةُ عنه للتلاشي والاضمحلال مع زوال المؤثر.
الاهتمام بالمضمون وتوسيع دائرة الاهتمام:
إننا كدعاة نبتغي الإصلاح لا بد لنا أن ننظر إلى الإنسان، وأن نتعامل معه كبناء متكامل، فقضية الدعوة والإصلاح لا تنفك عن هذا الجانب، فإن تأثر الحالة النفسية للإنسان، وهي جزء من مكونات بنائه، ونشوب الأزمات الاجتماعية قد يؤثران على تدين الفرد؛ بل وقد تمتد الآثار إلى المجتمع.
إننا ينبغي ألا نعزل المجتمع وننظر إليه مجردًا عن هذه العوامل؛ إذ إن قضية التدين والالتزام ليست قضيةً معزولةً عن إطار الحالة النفسية للفرد، وليست معزولة كذلك عن إطار الظواهر الاجتماعية، فكل هذه الأطر كم متكامل، يتحكم في تشكيل كيان وصورة المجتمع.
إذن، فمن الطبيعي أن يدعونا هذا الأمر للارتقاء بمضمون خطابنا، وتوسيع دائرة اهتماماتنا ومشروعاتنا الدعوية، ومن ذلك الاهتمام بالتعامل مع هذه القضية، وغيرها من القضايا المتعلقة بجوانب الصحة، والاستقرار النفسي والأسري، باعتبار أنها تمس المرأة، وتؤثرُ على تدينها واستقامتها، وبالتالي يمتد التأثير للمجتمع.
العناية بالاعتدال والبعد عن المبالغة:
لِنَقُلْ عن المنكر أنه منكر، ولنقلْ عن الذريعة أنها ذريعة، ولكن ينبغي ألا نبالغ في تصوير حجم المشكلة ومدى انتشارها، ولا في الحكم الشرعي المتعلق بها، كأن نجعل الصغيرة كبيرةً، ونجعل الذريعة حرامًا لذاتها.
التقليل من رسم الصورة المثالية:
إن هناك فرقًا بين أن نبرز صورةً مثاليةً، ونطلب من الناس أن يتطلعوا للاقتداء والتشبه بها، وبين أن نطالب المجتمع كله بالوصول إليها، ونجعلها محكًا ومقياسًا نحاكم به الناس.
إن الصورة المثالية التي نرسمها صورة قد لا يطيقها كثير من الناس، مع أننا قد نعرف أنهم في قرارة أنفسهم قد يتطلعون إليها، لكن التمني شيء والتطبيق العملي شيء آخر.
إن كثيرًا من خطابنا الدعوي الذي يوجه إلى المرأة يرسم هذه الصورة المثالية، التي تلغي طبيعة المرأة وسماتها البشرية، وهذا الأمر يدعونا إلى ضرورة إيجاد صياغة متوازنة لخطابنا الدعوي، من أجل تقديم طرح واقعي وموضوعي يلائم حاجات المجتمع، بعيدًا عن الإجحاف والخلل.
التفريق بين الاقتناع الشخصي وبين إلزام الناس:
من الطبيعي أن يرجح الإنسان رأيًا فقهيا في مسألة هي محل اجتهاد، وقد يرتاح لأمر تورعًا؛ بل وقد يلزم نفسه به، وإن كان لا يعتقد وجوبه، وقد يمتنع عن أمر لذات السبب.
لكن مع هذا، يجب علينا أن نفرق بين ما نتركه أو نفعله بدافع تورعنا وارتياحنا الشخصي, وبين ما نلزم به الناس، فإذا تناول أحدنا مسألة اجتهادية فعليه، على أقل تقدير، ألا يتناولها كمعيار للحكم على الناس، ورميهم بالانحراف والضلال.
نعم، إننا بحاجة إلى الورع والاحتياط، بشرط ألا يحملنا هذا الأمر على إلزام الناس ومحاسبتهم على أمر لم يلزمهم الله عز وجل به؛ إذ إن هذا السلوك لا يخلو من جرأة على الله جل وعلا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل:116-117].
الانطلاق من الاحتياجات أكثر من المخالفات والانحرافات:
إن تحليل مضمون خطابنا الدعوي يؤكد أننا غالبًا ما ننطلق من دائرة مخالفات المجتمع.
إننا بحاجة إلى التنبيه على مخاطر هذه المخالفات الشرعية، لكننا يجب ألا نركز على هذه الدائرة تركيزًا يؤدي إلى إهمال القضايا الأخرى.
إن حصر منطلقاتنا الدعوية في تصحيح مخالفات وأخطاء سيقعد بنا عن بلوغ قمة النجاح، وعلى فرض نجاحنا فإن غاية ما سنصل إليه أن نستطيع الحفاظ على المجتمع في النقطة التي يقف عندها، وهذا بالقطع أمر غير مرض لطموحاتنا.
الواقعية في تصور المشكلات:
إن الحياة المعاصرة أفرزت مشكلات جديدة، فيجب علينا أن نستوعب هذه المستجدات، وأن نتعامل معها باعتبارها أمورًا فرضت نفسها على الساحة، فلا بد من إيجاد رؤية واضحة للتعامل معها بواقعية وموضوعية؛ إذ إن هذه المستجدات قد أصبحت مرتعًا خصبًا لدعاة التغريب، ومنه ينطلقون لنشر فكرهم المشبوه.
وبالرغم من علمنا التام أن هذه القضايا قد استُغلت من قبل دعاة العلمنة والتغريب، لكننا كثيرًا ما نتحدث بخطاب غير موضوعي، فنحاول أن نقنع أنفسنا ومن حولنا، أنها مشكلات غير صحيحة وليست موجودة، إلا في نسيج الخيال؛ بل وهي غير متوقعة أصلًا.
وقطعًا، فإن هذا الكلام ليس له سند من الحقيقة؛ بل ينطق الواقع بخلافه، فهناك مشكلات موجودة، والمجتمع يعتبر أنها معضلات تبحث عن العلاج.
هناك مشكلات كثيرة قد برزت بفعل تعقيدات الحياة المعاصرة، إن تعاملنا مع أمثال هذه المشكلات بروح الإنكار والتجاهل سيدفع المجتمع إلى تجاوزنا، وسيشعر من حولنا أننا لا نقدر حاجاتهم ولا نشعر بمعاناتهم، أو سيظنون أننا نكابر كما يكابر الآخرون.
إذن، لا يسوغ لنا أن نلغي هذه المشكلات ونحاول إنكار وجودها؛ بل يجب أن نقول للناس أنها موجودة، ولن يضيق الشرع بحلها، ومن ثم فإن الحل يكمن في كذا وكذا(7).
إن العالم يشهد تغييرات مستمرة من ناحية الأساليب، وهذه المتغيرات لا الثوابت إن لم يلحظها الدعاة فإنهم سيقعون في أخطاء قد لا ينتبهون لها، وتمر السنون وهم يمارسون أساليب دعوية قد ألفوها منذ زمن.
والملاحظ أن الجماهير تزداد وعيًا، خاصة في السنوات الأخيرة, عبر العديد من الوسائل، منها القنوات الفضائية وغيرها, وبزيادة الوعي فإن الجماهير تتسلح بشيء من العلم أو الثقافة، وبالتالي فالخطاب الموجه للجماهير يجب أن يتطور تبعًا لذلك، وأن يتناسب مع الوعي الثقافي، سواء كان هذا الخطاب هو الخطاب الأساسي والمهم جدًا؛ كخطب الجمعة أو الدروس العامة، أو حتى الاختلاط بالجماهير ودعوتهم.
إن من الأشياء التي يمكن أن تساعد فعلًا على الاتصال أكثر بالأمة والجماهير هو الخطاب المبني على علم؛ أعني ألَّا يكون الخطاب عاطفيًا فقط؛ بل يجب أن يجمع الخطاب بين العلم والعاطفة, فالجماهير يجب أن تشعر أنها تستفيد من الداعية أو من العالم شيئًا علميًا يفيدها في حياتها اليومية، كما أنها تريد أيضًا أن يزداد إيمانها من خلال الوعظ، أو من خلال التذكير بالأخلاق العالية وسيرة السلف مثلًا؛ لذلك لا بد أن نخاطبها أيضًا خطابًا علميًا؛ كأن نأتي بالأحاديث الصحيحة، وبفهم الآيات وبالوقائع.
من ناحية ثانية، فإن الجماهير بدأت تعاني في السنوات الأخيرة من زيادة المشاكل الحياتية اليومية، خاصة مع انتقال الحياة من المدن البسيطة والقرى البسيطة إلى تعقيدات الحياة الحالية.
فالمفروض من الدعاة الذين يريدون أن ترتفع الأمة والجماهير إلى مستوى أفضل، ويكونون مساعدين؛ بل منخرطين في الدعوة مع الدعاة والعلماء، يجب عليهم أن يتكلموا عن همومهم، وأن يحاولوا مساعدة الناس في التخفيف من همومهم اليومية, خاصة مع وجود مشاكل اقتصادية واجتماعية كثيرة خلال السنوات الأخيرة.
لا نريد أن نبحث عن الأسباب وغيرها، ولكن الداعية الناجح هو الذي يستطيع أن يخاطب الجماهير أيضًا في مشاكلهم، أو يقدم بعض الحلول لهم.
إن النقد والمراجعة مؤشر صحة ودليل خلود كامن في قدرة الأمة على التجدد والتصويب، وأنه منهج قرآني وتطبيق نبوي؛ حيث كانت بعض الاجتهادات في مواقف النبوة محلًا لتصويب الوحي وعتابه، وتنبيهه لتكون وسائل إيضاح لإدراك الأمة.
بل إن الحضارات العالمية اليوم بلغت شأوًا بعيدًا في مجال التخطيط والتقييم والنقد والرقابة، وأقامت لذلك مؤسسات متخصصة، في الوقت الذي نرى فيه سيادة تكرار الأخطاء في عالم المسلمين، والمراوحة بين الانفعال واستعجال الثمرة وجزئية المواقف، وإن كان اكتشاف المرض وبيان نوعه جزء مهم في تحديد وسائل العلاج، ثم إن غياب المراجعة والتستر على الأخطاء نكوص عن حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تميزت بها هذه الأمة(8).
ثالثًا: مراجعات في الحركة:
إن الإحساس بالمشكلة تجلى في لون من الانفعال لا غير، حيث لم تدرك النخبة الأبعاد الحقيقية للأزمة ولم تلامسها، وإنما بقيت تطفو على السطح، وإن النكبات والأزمات التي تلحق بالأمة ما هي إلا تحديات ومنبهات حضارية لتصحيح المسار.
إغلاق باب الاجتهاد، وإهدار حقوق الإنسان، وغياب الشورى، واختزال التاريخ، وتدني مستوى الخطاب الإسلامي، والخلل في التعاون مع السنن الكونية، وعدم وضوح مفهوم البدعة، والقصد إلى مسالك التشدد والحرج، وعدم التمييز بين الغزو الثقافي والتبادل المعرفي، وضعف الهمة والتراجع إلى مواقع الفكر الدفاعي.
بعض الملامح للإصابات الخاصة التي لحقت ببعض فصائل العمل الإسلامي:
- سيادة العقلية الذرائعية والتستر على الأخطاء.
- عدم تمثل المعاني المفقودة في الأمة؛ كالحرية، والشورى، والمساواة.
- انقلاب الوسائل غايات، فأصبح الانتماء الحركي غاية في حد ذاته؛ مما أدى إلى الانغلاق والتحزب والانفصال عن جسم الأمة، وضمور الأخوة الشاملة.
- ظهور فكر المواجهة أو فكر الأزمة، وتضخم الهاجس الأمني عند أصحابه؛ فحدثت أخطاء فاضحة في الممارسة.
- ضحالة العطاء بعدم تقدير قيمة التخصص؛ فتشابهت الموضوعات، وتكررت الشخصيات؛ فتسطحت النتائج، واختلت التجارب.
- الضيق بالرأي الآخر واحتكار الصواب أفقدا الحركة المرونة وقابلية التطور الداخلي، وتجدد القيادات وتجاوزها وظيفة الإشراف الإداري الروتيني.
- شكلية الطرح، كسطحية تناول قضية المرأة، والاهتمام فيها بالشكل على حساب المضمون.
- إن عدم الفقه بمستويات الخطاب التكليفي، والخلط بين مرحلتي الدعوة والدولة أديا إلى اعتماد بعض الجماعات العنف، واعتباره الوسيلة الشرعية للتغيير.
وما لم تدرك الجماعات والحركات الإسلامية هذه الإصابات، وتسعى لتمزيق الأسوار التي تضرب حولها من حين لآخر، وتحسن العودة إلى الأمة والاندماج فيها، وتوسيع دائرة المشاركة وفتح القنوات جميعًا، وتشكيل جبهات عريضة للتواصل والاتصال، وتبرهن على أن مهمتها، كمراكز متقدمة، أن تحمل هموم الأمة، وتعمل في سبيل تحقيق أهدافها، والأخذ بيدها إلى الخير، وأنها جزء من الأمة متصل وملتصق بها، فسوف تحاصر نفسها قبل أن يحاصرها أعداؤها، وتعيش كطائفة منفصلة خارج مجرى الحياة الفاعلة.
وأخيرًا، ندعو كافة أصحاب النوايا الطيبة إلى تجديد حياة الأمة، وإعادة بنائها إلى المساهمة في إنضاج المرحلة لصناعة الحياة الإسلامية النموذجية المنقذة(9).
***
_________________
(1) فقه الإسلام ودعوة للمراجعة البناءة، موقع المختار الإسلامي.
(2) محاضن تربوية، موقع المربي.
(3) المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى، الموسوعة الشاملة.
(4) دعوة المرأة وقفات تقويمية، موقع المربي.
(5) أخرجه الترمذي (2853).
(6) دعوة المرأة وقفات تقويمية.
(7) المصدر السابق.
(8) مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، الموسوعة الشاملة.
(9) مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، المجلس العلمي.