logo

مصلحة الدعوة أم دعوة المصلحة؟


بتاريخ : الأربعاء ، 10 رجب ، 1436 الموافق 29 أبريل 2015
بقلم : تيار الاصلاح
مصلحة الدعوة أم دعوة المصلحة؟

- الاحتفال بالموالد والأعياد البدعية، والمشاركة فيها، بزعم الاختلاط بالناس لدعوتهم، دون إنكار.

- تهنئة الكفار من النصارى وغيرهم بأعيادهم الكفرية أو بمناصبهم الطاغوتية، بزعم سماحة الإسلام أو مصلحة الدعوة؛ فإن هذا عند كل أهل العلم من موالاتهم، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.

- مناصرة أهل الباطل وتأييدهم والوقوف معهم في وجه أهل الصلاح، والعلة جاهزة (مصلحة الدعوة).

- والأدهى من ذلك والأمَرُّ أن نجد بعض الدعاة يحتجون بكلمة رائجة ذائعة، باتت في أذهان الناس شائعة، ألا وهي: «حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله».

إذًا هي على الحقيقة (دعوة المصلحة)، ولكن مصلحة من؟

 

والمصلحة المقصودة هنا هي ما وافق هوى بعض الدعاة من الاستمرار فيما هم فيه من بحبوحة العيش، واتباع لما يهوونه من استطالة سلطانهم على قلوب العامة.

 

يقول الإمام الشاطبي: «إنه قد علم، بالتجارب والعادات، أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم من ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح»(1).

 

لقد نبَّه الإمام ابن تيميَّة رحمه الله تعالىإلى هذه القضيَّة بشكل دقيق فقال: «فإن الإنسان عليه أولًا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم إذا رد عليه ذلك أو أوذي أو نُسب إلى أنه مخطئ، وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان؛ فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يُصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة.

 

فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوًى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمَّن كان يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، كما رأينا من تمرير أرباب القنوات أخطاء بعضهم بلا أدنى تعقيب، من باب (عدِّيلي واعدِّيلك)، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا...، ولا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس(2).

 

يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده في الحقيقة هو المعنى الباطل»(3).

 

ويقول ابن القيم في مثل هؤلاء القوم: «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرئاسة، والذين يتبعون الشبهات؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالِم والحاكم محبين للرئاسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهم ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به، ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة»(4).

 

ففي قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء:73-75]، قال ابن عباس في رواية عطاء: «نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططًا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرنا أصنامنا وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت تلك الآيات»(5).

 

وقد أخبر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو وافقهم لاتخذوه خليلًا، من الخُلَّة؛ وهي المحبة التي تؤدي إلى الموالاة والمصافاة والمصادقة للكفار، ثم أخبر أن مثل هذا الركون والميل نحو الكفار، ولو كان قليلًا، موجب لضعف الحياة والممات، ولو كان هذا الميل يقصد به مصلحة الدعوة والإسلام؛ حيث إن التنازل عن شيء من الدين يورث التنازل المستمر إلى درجة الصفر، وهو الكفر؛ لأن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية المطاف، ولأن أحكام الإسلام وواجباته كل لا يتجزأ، وليس بينها فاضل ومفضول، خاصة فيما يتعلق بالواجبات والأركان، وليس فرض ضروري في وقت يمكن الاستغناء عنه في وقت آخر.

 

وما عرضه وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضه أعداء الإسلام على مدعي الإسلام اليوم، إلا أن مادة الطلب تختلف، فثقيف طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب مقابل وعدها بالإسلام، أما أعداء الإسلام اليوم فيطلبون من أرباب العلموالدعوة ترك الدعوة تركًا كليًا، أو تركًا جزئيًا بحيث لا يتعرض الدعاة إلى مصالح ومظالم وتسلط صاحب السلطان، وبحيث لا تشكل الدعوة خطرًا على وجوده ووجود أسياده، وقد يستجيب لذلك كثير من حملة الأقلام في النحور، والكتب في الصدور، الذين هم مطية لكل متغطرس جبار، والبعض منهم يبرر ذلك بأن مصلحة الدعوة في كسب أصحاب المناصب العليا، ولو كانوا هم المحاربين للإسلام والمسلمين، والبعض الآخر يغريه الكسب المادي، ولو كان هذا الكسب على حساب التنازل عن جانب أو جوانب متعددة من أركان الإسلام وواجباته، وهم بذلك يظنون أنهم يخدعون غيرهم، وما أدرك هؤلاء أن غيرهم يمكر بهم، ويصطادهم من حيث لا يشعرون.

 

ذلك أن أصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، ويغرونهم بالأسعار المرتفعة لكلماتهم؛ حتى يتنازلوا عن جوانب من هذا الدين، ويصدروا لهم الفتاوى التي تُحِل ما حرم الله، أو تُحرِّم ما أحل الله، عند ذلك يفقد أدعياء العلم هيبتهم وحصانتهم عند صاحب السلطان، وعند الناس عامة، ويكون صاحب السلطان قد حقق مقصده فيهم بتلويث سمعتهم، وسمعة الدعوة التي يمثلونها، ثم يرميهم كما ترمى الثياب الخَلِقة البالية، لا يؤبه لهم في قول أو فعل.

 

إن الواجب على كل مسلم هو عدم التنازل عن شيء من دينه وعقيدته تحت وطأة الإغراءات المتعددة، التي يلوح بها الكفار(6).

 

إن الركون اليسير من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تم لكان نتيجته عذاب الدنيا والآخرة، فما ظنك إذا كان ذلك الركون ركونًا تامًا وتوليًا عامًا، ومن شخص أبعد ما يكون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألا يكون ذلك كفرًا وخلودًا في النار(7).

أما العمل مع الكفار، ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فينظر في ذلك إلى المصلحة الغالبة، فكل من أمروه ابتداءً أن يدخل في شيء من أعمالهم التي أمرها إليهم، وجب عليه ذلك فضلًا عن أن يقال له جائز، إذا كان في ذلك طاعة لله؛ كالمناصب الدينية، والأعمال المباحة، وكان واثقًا من نفسه القيام بما وكل إليه من أعمال الخير، بشرط أن لا يمدح هؤلاء الظالمين أو يدافع عن ذمهم، أو يبرر أخطاءهم.

 

أما مخالطة الظلمة والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم، وكراهة المواصلة لهم، لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على مثل هذا الفعل، فهو مخصص بالأدلة الشرعية الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.

 

وفي الجملة، يجب على من ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، أن يزن أقواله وأفعاله، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، وأن يرجح مصلحة الدعوة على مصلحته الخاصة، في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل(8).

 

فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يوثق أنها دعوة الله، فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعًا، ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!

 

ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج، دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله.

 

فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيرًا في نهاية المطاف.

 

وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك؛ لينفذ منها إلى صميم الدعوة، وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم، فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية، والتحرج البالغ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة، والحرص على ما يسمونه (مصلحة الدعوة).

 

إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه، حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول (مصلحة الدعوة) إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل!

 

إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها، ويتحروا هذا النهج، دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج، قد يلوح لهم أن فيها خطرًا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرًا أو قليلًا، والله أعرف منهم بالمصلحة، وهم ليسوا بها مكلفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد، ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق(9).

 

ويعقب السياق على تلك الآيات، وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان، بأن الذين يكفرون بها مدحورون، ينتظرهم العذاب المهين:

 

{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيم (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ(57)} [الحج:55-57].

قد تقتضي مصلحة الدعوة التنازل عن شيء بالنسبة لأناس معينين، من باب التأليف؛ حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، هذا له وجه، أما أن يتنازل عن أصول الدين، ويدعو على غير سبيل النبي عليه الصلاة والسلام وسبيل المؤمنين، هذا لا وجه له ألبتة.

ولقد تدفع الحماسة أصحاب الدعوات بعد الرسل، والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، إلى استمالة بعض الأشخاص، أو بعض العناصر، بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة، يحسبونه هم ليس أصيلًا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم؛ كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها، ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم؛ وذلك حرصًا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهادًا في تحقيق مصلحة الدعوة(10).

 

الحزبية والعصبية الجاهلية:

 

بين بعض الجماعات العاملة في ساحة الدعوة، وهو (جَرَب الجماعات الإسلامية)، وأخطر ما فيها الغيبة والنميمة وراء دعوى (مصلحة الدعوة)، وتصوير الخوض في أعراض المخالفين على أنه عبادة، يُتقرب بها إلى الله عز وجل! وقد بلغت الحزبية الجاهلية في بعض الجماعات المعاصرة أوْجَها، وأثمرت من مظاهر البغي ما تقف له الشعور، وإن تعجب فعجب زعمهم أن مصلحة الدعوة تبيح لهم مسالك البغي والافتراء والتجني على الأبرياء، جريًا منهم على القاعدة الميكافيلية المشئومة: (الغاية تسوغ الوسيلة).

 

ولقد غلا البعض في سوء استغلال هذه المصلحة المزعومة، حتى قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله منكرًا عليهم: «إن كلمة مصلحة الدعوة يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلَّة ومدخل للشيطان، يأتيهم به حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص، ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل»(11).

 

التحاسد والتنافس على الرياسة:

 

عن يوسف بن أسباط: «سمعت سفيان يقول: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة؛ ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى».

وقال الفضيل بن عياض: «ما من أحدٍ أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحدٌ بخير».

 

وقال سفيان الثوري: «ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب؛ ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يَذكُر الناسُ أحدًا عنده بخير».

 

وما عبَّر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضلِ

وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يَدَ النقصِ عنه بانتقاص الأفاضل

 

وقال الأوزاعي رحمه الله لبقية بن الوليد: «يا بقية، لا تذكر أحدًا من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير، ولا أحدًا من أمتك، وإذا سمعت أحدًا يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول: أنا خير منه»(12).

 

وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: «من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حبًّا وبغضًا، ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصًا من عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله»(13).

 

تصور ناقص:

والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص، الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله، والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية، دون اعتبار لمصلحة الدعوة، إنما يبددون، بذلك الاندفاع والتهور، طاقة الدعوة وإمكاناتها.

 

وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجُبْن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو مَنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام، في قصة أصحاب الأخدود، للنجاة جبنًا، ولم تكن عودته إلى الملك تهورًا؛ بل كان في كلا الموقفين شجاعًا حكيمًا(14).

 

كذلك فإن غياب الروح وضعف الإيمان يؤدي إلى شيوع ثقافة الانهزامية، والرضا بالواقع، والانبهار بأي تجربة تنجح، ولو نجاحًا جزئيًا، في إبراز بعض المعالم الإسلامية، وإن تخلت عن بعض ثوابت الدين، فالانبهار يعكس الضعف والوهن الذي أصاب القلوب، وجعلها تستطيل الطريق، وترضى بأي نجاح ولو كان زهيدًا.

 

وقد يؤدي غياب الروح عن البعض إلى محاولتهم فرض واقعهم على من حولهم، والاجتهاد في تبرير ما يفعلونه، رافعين شعارات قد تقنع الآخرين، وتدفعهم لتقليدهم في استرخائهم وانشغالهم بمصالحهم الشخصية على حساب العمل الدعوي، ومن هذه الشعارات (مصلحة الدعوة تقتضي ذلك)، (نحن جزء من مجتمع مريض)، (الزمان تغير ولا بد من تغيير الوسائل)، وغير ذلك من الشعارات التي يتم تأويلها على غير وجهها الصحيح؛ فيؤدي هذا إلى مزيد من الاستسلام للواقع، ومن ثم تزداد نسبة البطالة الدعوية، ويقل تدريجيًا عدد من يحمل همّ الدين، ومن يعمل على إنقاذ نفسه والأمة من بعده(15).

 

إن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء؛ بل إن الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يُمَكِّن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات، واسترخاص التضحيات من أجلها.

 

إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة تلفها الكتب، وترويها الأساطير، ثم تُطوى مع الزمن(16).

 

يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: «والاختلاف كما يضعف الأمة ويهلكها؛ يضعف الجماعة المسلمة التي تنهض بواجب الدعوة إلى الله ثم يهلكها، ولهذا كان شر ما تبتلى به الجماعة المسلمة وقوع الاختلاف المذموم فيما بينها، بحيث يجعلها فِرَقًا شتى، بحيث ترى كل فرقة أنها على حق وصواب، وأن غيرها على خطأ وضلال، وتعتقد كل فرقة أنها هي التي تعمل لمصلحة الدعوة.

 

وهيهات أن تكون الفُرقة والتشتت والاختلاف المذموم في مصلحة الدعوة، أو أنّ مصلحة الدعوة تأتي عن طريق التفرق، ولكن الشيطان هو الذي يزين الفرقة والتفرق في أعين المتفرقين المختلفين، فيجعلهم يعتقدون أن اختلافهم وتفرقهم في مصلحة الدعوة»(17).

______________________________

(1) الموافقات، للشاطبي (2/170)، مع شيء من التصرف.

(2)منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (5/254).

(3) الصواعق المرسلة، لابن القيم (3/926(.

(4) الفوائد، لابن القيم، ص145.

(5) تفسير القرطبي (10/299).

(6) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، محماس الجلعود، ص98.

(7) تفسير القرطبي (10/300).

(8) فتح القدير، للشوكاني (2/531).

(9) في ظلال القرآن (النحل: 112).

(10) المصدر السابق (الحج: 55).

(11) المصدر السابق.

(12) الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام، للدكتور محمد إسماعيل المقدم، ص359.

(13) الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص272273.

(14) قصة أصحاب الأخدود (3)، محمود العشري.

(15) عودة الروح ويقظة الإيمان، مجدي الهلالي، ص18.

(16) صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فوزي فيض الله، ص151-152.

(17) السنن الإلهية، للدكتور عبد الكريم زيدان، ص140-141.