logo

تفقهوا قبل أن تسودوا


بتاريخ : الأحد ، 28 جمادى الأول ، 1440 الموافق 03 فبراير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
تفقهوا قبل أن تسودوا

كلمة أطلقها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حملت من المعاني ما جعل العلماء يبحثون عنها وعن مدلولاتها، فهو الملهم المحدث رضي الله عنه، فالفقه مطلب عالٍ لا يناله الكسالى والبطالين، ولا يرقى إليه تجار الدراهم والدنانير، ولا ينال هذه الدرجة إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية.

لقد فسر كلام عمر رضي الله عنه أبو عبيدة فقال: «تفقهوا وأنتم صغار قبل أن تصيروا سادة، فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جهالًا»(1).

وقال الراغب: «الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، ومن ثم فهو أخص من العلم، قال تعالى: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]، {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، إلى غير ذلك من الآيات، والفِقْهُ: العلم بأحكام الشريعة، يقال: فَقُهَ الرجل فَقَاهَةً: إذا صار فَقِيهًا، وفَقِهَ؛ أي: فهم، وفَقِهَهُ؛ أي: فهمه، وتَفَقَّهَ: إذا طلبه فتخصّص به، قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]»(2).

وقال الجوهري: «الفقه: الفهم، قال أعرابي لعيسى بن عمر: (شهدت عليك بالفقه)؛ أي بالفهم، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه، يقال: فاقهته إذا باحثته في العلم»(3)، وقال غيرهم: الفقه العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، يقال: أوتي فلان فقهًا في الدين؛ أي فهمًا فيه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: «اللهم فَقِّهه في الدين، وعلمه التأويل»(4)؛ أي فَهِّمْه تأويله ومعناه، ويقال فقه فقهًا؛ أي علم علمًا، وحكى بعضهم: فقه الرجل فقهًا وفقهًا، وفقه الشيء علمه، وأفقهه وفقهه: علمه، وفي التهذيب: أفقهته علمته الفقه، وفقه عنه بالكسر: فهم، ورجل فقه؛ أي فقيه.

 وأما فقه (بضم القاف) فإنما يستعمل في النعوت، يقال فقه يفقه فقاهة؛ أي صار فقيهًا، وقال ابن شميل: «أعجبني فقاهته؛ أي فقهه»، ورجل فقيه؛ أي: عالم، وكل عالم بشيء فهو فقيه.

وفقيه العرب: عالم العرب، وتفقه: تعاطى الفقه، ومن معاني الفقه أيضًا الفطنة، وفي حديث سلمان، أنه نزل على نبطية بالعراق فقال لها: «هل هنا مكان نظيف أصلي فيه؟»، فقالت: «طهر قلبك وصل حيث شئت»، فقال سلمان: «فقهت»؛ أي: فهمت وفطنت، ولو قال: فقهت، كان المعنى صارت فقيهة، ويقال: فقُه (بالضم) إذا صار الفقه سجية له، وفاقهه ففقهه؛ أي: باحثه في العلم فغلبه فيه(5).

وقال الجرجاني: «هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وقيل: هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فقيهًا؛ لأنه لا يخفى عليه شيء»(6).

وعن معاوية رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)»(7).

قال محمد فؤاد عبد الباقي: «الفقه في الدين هو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويظهر أثره على الجوارح، ويترتب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122](8).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» يريد، والله أعلم، أن الفقه في الدين يقتضي إرادة الله سبحانه وتعالى الخير لعبيده، وأن من أراد الله به الخير فقهه في دينه، والخير، والله أعلم، دخول الجنة والسلامة من النار، قال الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185](9).

قال النووي: «فيه فضيلة العلم، والتفقه في الدين، والحث عليه، وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى»(10).

قال في «فيض القدير»: «قال السمهودي: (ومفهومه أن من لم يفقهه في الدين ولم يرشده لم يرد به خيرًا)، وقد أخرجه أبو نعيم وزاد في آخره: «ومن لم يفقهه في الدين لم يبال الله به»، وكذا أبو يعلى، لكنه قال: (ومن لم يفقهه لم يُبَلْ به)، وفيه أن العناية الربانية وإن كان غيبها عنا فلها شهادة تدل عليها، ودلالة تهدي إليها، فمن ألهمه الله الفقه في الدين ظهرت عناية الحق به، وأنه أراد به خيرًا عظيمًا كما يؤذن به التنكير، وهذا التقرير كله بناءً على أن المراد بالفقه علم الأحكام الشرعية الاجتهادية.

وذهب جمعٌ، منهم الحكيم الترمذي، إلى أن المراد بالفقه الفهم، فالفهم انكشاف الغطاء عن الأمور، فإذا عَبَدَ الله بما أمر ونهى بعد أن فهم أسرار الشريعة، وانكشف له الغطاء عن تدبيره فيما أمر ونهى انشرح صدره، وكان أشد تسارعًا إلى فعل المأمور وتجنب المنهي، وذلك أعظم الخيور، وغيره إنما يعبده على مكابدة وعسر؛ لأن القلب وإن أطاع وانقاد لأمر الله تعالى فالنفس إنما تنشط وتنقاد إذا رأت نفع شيء أو ضره.

وأما من فهم تدبير الله تعالى في ذلك فينشرح صدره، ويخف عليه فعله؛ فذلك هو الفقه»(11).

قال المناوي: «ولولا العلماء الذين يتلقون العلم ويعلمونه الناس، ويبينون الحلال من الحرام جيلًا بعد جيل لهلكت الناس والدواب والأنعام، حتى حيتان البحر، وضاع الدين، واضمحل العدل، فحق لهم أن يستغفروا له»(12).

وقال في موضع آخر: «أراد بالفقه المذكور العلم بمعرفة الله وصفاته»، قال: «وأما الفقه الذي هو معرفة الأحكام الشرعية فقد استحوذ على أهله الشيطان، واستغراهم الطغيان، وأصبح كل منهم بعاجل حظه مشغوفًا، فصار يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، حتى ظل علم الدين مندرسًا، ومنار الهدى في الأقطار منطمسًا، فتعين أن المراد هو علم الآخرة، الذي هو فرض عين، فنظر الفقيه بالإضافة إلى صلاح الدنيا، ونظر هذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة.

ولو سئل فقيه عن نحو الإخلاص والتوكل أو وجه التحرز عن الرياء لما عرفه، مع كونه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه، ولو سئل عن اللعان والظهار يسرد من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج لشيء منها، وقد سمى الله في كتابه علم طريق الآخرة فقهًا وحكمة وضياءً ونورًا ورشدًا»(13).

وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»(14).

قال المهلب: «فيه ضرب الأمثال في الدين والعلم والتعليم، وفيه: أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قبله نقيًا من الإشراك والشك، فالتي قبلت العلم والهدى كالأرض المتعطشة إليه، فهي تنتفع به فتحيا فتنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وعت العلم حيت به، فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه.

ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم، لكنها ليس لها رسوخ، فهي تقبل وتمسك حتى يأتي متعطش فيروى منها، ويرد على منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقية فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه.

ومنها قيعان؛ يعنى قلوبًا تسمع الكلام فلا تحفظه ولا تفهمه، فهي لا تنتفع به، ولا تنبت شيئًا؛ كالسباخ المالحة التي لا تمسك الماء ولا تنبت كلأً»(15).

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمّنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فهم فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها»(16).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تفقهوا قبل أن تسودوا»، قال أبو عبد الله، يعني البخاري: «وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم»(17).

قال ابن بطال: «وقول عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا)، فإن من سوده الناس يستحيى أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة»، وقال يحي بن معين: «من عاجل الرياسة فاته علم كثير»، وقيل أن السيادة تحصل بالعلم، وكلما زاد العلم زادت السيادة، فقصد عمر رضي الله عنه الحث علي الزيادة منه قبل السيادة؛ لتعظم السيادة به(18).

والمعنى أن تصيروا سادة، من ساد قومه يسودهم سيادة، إذا كان سيدهم، والسيد هو الذي يلجأ إلى سَوَاده؛ أي: شخصه عند الشدائد.

وقيل: السيد كل مقهور مغمور بحلمه، قال أبو عبيدة: «أي تفقهوا وأنتم صغار قبل أن تصيروا سادة، فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم، فتبقوا جهالًا».

وفسر التسود بالتزوج، فإنه إذا تزوج صار سيد أهله، ولا سيما إن ولد له، وهذا حمل بعيد؛ إذ المراد بقوله تسودوا، السيادة، وهي أعم من التزويج، ولا وجه لمن خصصه بذلك؛ لأنها قد تكون به وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعلم.

قال شِمْرٌ: «ومعنى قول عمر: قبل أن تزوجوا فتصيروا أرباب بيوت، وكذا كان بعض العلماء يقول: ضاع العلم بين أفخاذ النساء».

ونحوه قول الخطيب: «ينبغي للطالب أن يكون عزبًا ما أمكن؛ لئلا يشغله القيام بحقوق الزوجة فيعسر الطلب»، ولكن هو مفسر بما هو أعم من ذلك، وكذا قال الثوري: «من أسرع الرياسة أضر بكثير من العلم، ومن لم يسرع الرياسة كتب، ثم كتب، ثم كتب»(19).

وجوز الكَرَماني أن يكون من السواد في اللحية، فيكون أمرًا للشباب بالتفقه قبل أن تسود لحيته، أو أمرًا للكهل قبل أن يتحول سواد لحيته إلى الشيب، ولا يخفى تكلفه.

وقال ابن المنير: «مطابقة قول عمر للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته»، كذا قال.

والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرياسة وإن كانت مما يغبط بها صاحبها في العادة لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محمودًا إلا إذا كان بعلم، فكأنه يقول: تعلموا العلم قبل حصول الرياسة لتغبطوا إذا غبطتم بحق، ويقول أيضًا: إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة، وتعلموا العلم، لتحصل لكم الغبطة الحقيقية(20).

وقيل: أراد عمر الكف عن طلب الرياسة؛ لأن الذي يتفقه يعرف ما فيها من الغوائل فيجتنبها.

وقيل: معناه لا تأخذوا العلم من الأصاغر، فيُزدرى بكم، وهذا أشبه بحديث عبد الله: «لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم»، وزاد الكَشميهنيّ في روايته: قال أبو عبد الله؛ أي: البخاري: «وبعد أن تسودوا»، وإنما أتى بها البخاري عقب ذلك خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببًا للمنع؛ لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشامُ أن يجلس مجلس المتعلمين، ولهذا قال مالك: «من عيب القضاء أن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه».

وقال الشافعي: «إذا تصدر الحدث فاته علم كثير»(21).

وعليه، فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه، وينتهز الفرصة به، فربما شح الزمان بما سمح وضن بما منح، ويبتدئ من العلم بأوله ويأتيه من مدخله، ولا يتشاغل بطلب ما لا يضر جهله فيمنعه ذلك من إدراك ما لا يسعه جهله.

فإن لكل علم فصولًا مذهلة وشذورًا مشغلة، إن صرف إليها نفسه قطعته عما هو أهم منها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه».

وقال المأمون: «ما لم يكن العلم بارعًا فبطون الصحف أولى به من قلوب الرجال».

 وقال بعض الحكماء: «بترك ما لا يعنيك تدرك ما يغنيك».

 ولا ينبغي أن يدعوه ذلك إلى ترك ما استصعب عليه إشعارًا لنفسه أن ذلك من فضول علمه، وإعذارًا لها في ترك الاشتغال به، فإن ذلك مطية النوكى وعذر المقصرين.

ومن أخذ من العلم ما تسهل وترك منه ما تعذر كان كالقناص إذا امتنع عليه الصيد تركه، فلا يرجع إلا خائبًا؛ إذ ليس يرى الصيد إلا ممتنعًا، كذلك العلم كله صعب على من جهله، سهل على من علمه؛ لأن معانيه التي يتوصل إليها مستودعة في كلام مترجم عنها(22).

ولذلك نقول بمناسبة موضوعنا: إنه إذا ولي الأمر العالم الفقيه العادل، فإنه هو الذي يضبط أمر الوعظ والتوجيه وخطب الجمعة والتصدر للإفتاء.

 يضبط ذلك بأن يقوم هو بنفسه في هذه الشئون، أو يعين لها من يقوم بها، فإذا لم يوجد مثل هذا الأمير فالأصل أن يقوم العلماء المجازون عن أشياخهم بهذا الشأن، ومن ثم وجدت الإجازة عند العلماء؛ وهي بمثابة الأمر لمن يأخذها بالقيام بالوعظ والتوجيه، والخطبة والإفتاء، ومنذ فقدت الخلافة الراشدة تنازع هذا الحق أولياء الأمور والعلماء، فولي الأمر يعتبر أن من حقه التدخل في هذه الشئون بسيف السلطة، والعلماء يعتبرون أن هذا الحق لهم بسيف الحق.

والذي نراه من وجهة النظر الشرعية أنه حيثما كان تدخل ولي الأمر في هذه الشئون بالعدل والحق فهو نافذ الأمر، ولمن عينه أن يقوم بهذه الشئون مبرورًا مأجورًا.

ولمن أجيز من أشياخ الحق والعدل والعلم والعمل أن يقوم بهذه الشئون إذا فُتِح لهم طريقُ ذلك، وإجازتهم له تكون من باب الأمر له من أهله.

وبذلك يدخل في الحديث: لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور، فهو بعد الإجازة من شيوخه أمير ومأمور معًا.

وأما فيما سوى هذه الشئون الأربعة فكل مسلم مجاز من الشارع نفسه؛ بل مأمور أن يعلم ما تعلمه من الحق، وأن يبلغ عن الشارع ولو آية، وأن يدعو إلى الله على بصيرة، وأن يأمر بمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير، فهذا كله مطلوب من المسلم، لا يحتاج فيه إلى إذن ولا استئذان.

وحصر حق القصص بمعانيه الأربعة، بالأمير والمأمور في كل من المعاني التي ذكرناها نوع من التأديب للمجتمع الإسلامي، فلا يتطاول إنسان لغير مقامه فيسيء الأدب، ويعرف كل إنسان حدوده، وتضبط الأنفس فلا تدفعها الهوى إلى الكلام، وما يجره ذلك من رغبة في التصدر والرياء، ويحال بذلك بين الغلط وتسربه إلى الناس(23).

قال الإمام الغزالي رحمه الله: «الفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه(24).

آداب يتحلى بها المتفقه:

على طالب الفقه أن يراعي جملة من الأمور يتحلى بها في سلوكه سبيل العلم ومن بينها:

أولًا: حسن النية في الطلب: بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله.

قال سفيان الثوري: «ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي»(25).

ولا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.

فإن العلم إن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه(26).

ثانيًا: أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل: ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة،  قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تفقهوا قبل أن تسودوا».

وقال الشافعي: «تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه»(27).

ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة، والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق؛ ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن؛ لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

 وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

ثالثًا: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة له، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.

وقال الخطيب: «أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم وسط النهار، ثم الغداة»، قال: «وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع»(28).

رابعًا: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.

ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف؛ بتنزه وتفرج في المستنزهات، بحيث يعود إلى حاله، ولا يضيع عليه زمانه(29).

خامسًا: أن يترك مصاحبة من كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع سراقة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، والذي ينبغي لطالب العلم ألا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه.

وإذا احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحبًا صالحًا، دينًا، تقيًا، ورعًا، ذكيًا، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبره(30).

سادسًا: أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه، ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله، ليستنير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به، وعليه أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيرًا، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خَلقًا، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب على مفترقات الآمال؛ فتفجر فيه ينابيع الحكم(31).

قال الخطيب البغدادي: «ينبغي لمن اتسع وقته، وأصَحَّ الله له جسمه، وحَبَّب إليه الخروج عن طبقة الجاهلين، وألقى في قلبه العزيمة على التفقه في الدين أن يغتنم المبادرة إلى ذلك؛ خوفًا من حدوث أمر يقطعه عنه، وتجدد حال تمنعه منه»(32).

فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه، وينتهز الفرصة به، فربما شح الزمان بما سمح، وضن بما منح، ويبتدئ من العلم بأوله، ويأتيه من مدخله، ولا يتشاغل بطلب ما لا يضر جهله، فيمنعه ذلك من إدراك ما لا يسعه جهله، فإن لكل علم فصولًا مذهلة، وشذورًا مشغلة، إن صرف إليها نفسه قطعته عما هو أهم منها(33).

ومن أخذ من العلم ما تسهل وترك منه ما تعذر كان كالقناص، إذا امتنع عليه الصيد تركه فلا يرجع إلا خائبًا؛ إذ ليس يرى الصيد إلا ممتنعًا، كذلك العلم كله صعب على من جهله، سهل على من علمه؛ لأن معانيه التي يتوصل إليها مستودعة في كلام مترجم عنها(34).

وقد ألف الإمام الصنعاني رسالة بديعة سماها «إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد»، قرر فيها أن الاجتهاد في عصره أيسر بآلاف المرات من الاجتهاد في العصور الأول؛ لأن العصور الأول كان الإنسان لا يستطيع أن يتحصل على الكتب، ولا أن يضبطها، وكانت الكتابة قليلة، والآن الكتب كثيرة، والفهارس موجودة، لكن العلة اليوم في الهمة(35).

واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها لتفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة.

لأن البناء على غير أس لا يُبنى، والثمر من غير غرس لا يُجنى؛ وذلك لأسباب فاسدة ودواع واهية:

فمنها: أن يكون في النفس أغراض تختص بنوع من العلم؛ فيدعو الغرض إلى قصد ذلك النوع ويعدل عن مقدماته.

ومنها: أن يحب الاشتهار بالعلم؛ إما لتكسب أو لتجمل، فيقصد من العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر.

ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه، ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق، ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبًا مخصوصًا.

ومنها: أن يغفل عن التعلم في الصغر، ثم يشتغل به في الكبر؛ فيستحي أن يبتدئ بما يبتدئ الصغير، ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير، فيبدأ بأواخر العلوم وأطرافها، ويهتم بحواشيها وأكنافها؛ ليتقدم على الصغير المبتدي، ويساوي الكبير المنتهي، وهذا ممن رضي بخداع نفسه، وقنع بمداهنة حسه؛ لأن معقوله، إن أحس، ومعقول كل ذي حس يشهد بفساد هذا التصور، وينطق باختلال هذا التخيل؛ لأنه شيء لا يقوم في وهم، وجهل ما يبتدئ به المتعلم أقبح من جهل ما ينتهي إليه العالم.

ومنها: كثرة اشتغاله وترادف حالاته، حتى إنها تستوعب زمانه، وتستنفد أيامه، فإذا كان ذا رئاسة ألهته، وإن كان ذا معيشة قطعته.

 ولذلك قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا(36).

إن الإنسان ليغبط أناسًا أصغر منه سنًا وأكبر همة، تجدهم من السباقين إلى حلقات العلم، نعم، يغبط أولئك، ويتحسر على أوقات ذهبت من عمره ولم يستغلها في الطلب والحفظ، فإذا ما كبر وكثرت أشغاله وكثرت الطوارق عليه آناء الليل وأطراف النهار تعكر مزاجه، ولم يستطع أن يتهيأ للتحصيل كما لو كان صغيرًا خاليًا من الأشغال.

***

______________

(1) فتح الباري، لابن حجر (1/ 166).

(2) مفردات الراغب (384).

(3) الصحاح (6/ 2243).

(4) أخرجه البخاري (143).

(5) انظر: لسان العرب (13/ 522)، والمصباح المنير (2/ 134)، والقاموس المحيط (4/ 291).

(6) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (8/ 3137).

(7) أخرجه البخاري (71).

(8) سنن ابن ماجه (1/ 80) الهامش.

(9) المنتقى شرح الموطأ (7/ 208).

(10) شرح النووي على مسلم (7/ 128).

(11) فيض القدير (1/ 259).

(12) المصدر السابق (4/ 189).

(13) المصدر السابق (6/ 242).

(14) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282).

(15) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/ 164).

(16) أخرجه الدارمي (305).

(17) الفتح (1/ 199).

(18) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (2/ 41).

(19) المقاصد الحسنة، ص260.

(20) فتح الباري، لابن حجر (1/ 166).

(21) كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (3/ 192).

(22) أدب الدنيا والدين، ص51.

(23) الأساس في السنة وفقهها، العقائد الإسلامية (2/ 877).

(24) إحياء علوم الدين (1/ 17).

(25) الجامع، للخطيب (699).

(26) تذكرة السامع والمتكلم، ص68-70، بتصرف.

(27) المصدر السابق، ص134.

(28) المصدر السابق، ص72.

(29) المصدر السابق، ص77.

(30) نفس المصدر، ص83-84، بتصرف.

(31) طالب العلم بين أمانة التحمل ومسئولية الأداء، ص22-24.

(32) الأخلاق الزكية في آداب الطالب المرضية، ص132.

(33) أدب الدنيا والدين، ص51.

(34) المصدر السابق، ص52.

(35) أرشيف ملتقى أهل الحديث - 5 (19/ 39).

(36) المنتقى الثمين من أدب الدنيا والدين، ص77.