logo

التذكر النافع


بتاريخ : الخميس ، 8 رمضان ، 1436 الموافق 25 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
التذكر النافع

التذكر معناه تكلف ذكر الشيء في القلب، أو التدرج فيه بفعله المرة بعد المرة، ويطلق على الاتعاظ، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر:13]، وقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى:10]، والشواهد عليه في الذكر كثيرة، ومثله: الادكار، قال تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15]، وهو افتعال من الذكر، والافتعال يقرب من التفعل، وحكمة القراءتين إفادة المعاني التي تدلان عليها من باب الإيجاز البليغ.

 

والمعنى: ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي، البعيدة مدى الفائدة ومسافة المنفعة لمن قام بها، وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تذكروا في أنفسكم ما فيها من الصلاح لكم، فيحملكم ذلك على العمل بها، أو رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي، الذي أمر الله به بمثل قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، ولكل من الذكر النفسي واللساني وجه هنا، ولا مانع من الجمع بينهما على مذهب الشافعية وابن جرير.

 

وكذا الجمع بينهما وبين معاني التذكر في القراءة الأخرى، والمعنى على هذه القراءة: وصاكم به رجاء أن يتكلف ذكر هذه الوصايا، وما فيها من المصالح والمنافع، من كان كثير النسيان والغفلة، أو كثير الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتذكرها المرة بعد المرة من أراد الانتفاع بها بتلاوة آياتها في الصلاة وغيرها وبغير ذلك، أو رجاء أن يتعظ بها من سمعها وقرأها أو ذكرها أو ذكر بها، وبعض هذه الوجوه عام يطلب من كل مسلم، وبعضها خاص(1).

 

{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله ويخاف عقابه؛ لأنه هو الذي يتأمل في كل ما تذكره له، فيتبين له وجه الصواب، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعوّل عليه.

 

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر:13]، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق:8]؛ ولهذا قالوا في قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}: سيتعظ بالقرآن من يخشى الله، وفي قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ}: إنما يتعظ من يرجع إلى الطاعة؛ وهذا لأن التذكر التام يستلزم التأثر بما تذكره، فإن تذكر محبوبًا طلبه، وإن تذكر مرهوبًا هرب منه، ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس:11]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فأَثْبَت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه؛ فإن الإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم والتخويف، فمن عَلَّمْتَه فتعلَّم فقد تم تعليمه، وآخر يقول: علَّمته فلم يتعلم.

 

وكذلك من خوَّفته فخاف، فهذا هو الذي تم تخويفه، وأما من خُوِّف فما خاف، فلم يتم تخويفه، وكذلك من هديته فاهتدى تم هداه، ومنه قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، ومن هديته فلم يهتد كما قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، فَلم يتم هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته فما انقطع.

 

فالمؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًا، والفعل إذا صادف محلًا قابلًا تم، وإلا لم يتم، والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه؛ ولهذا يسمى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كله إنما يحصل مع صحة الفطرة وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يحس الإنسان باللذيذ فلا يجد له لذة؛ بل يؤلمه، وكذلك يلتذ بالمؤلم لفساد الفطرة، والفساد يتناول القوة العلمية والقوة العملية جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مُرًا، فإنه فسد نفس إحساسه حتى كان يحس به على خلاف ما هو عليه للمُرَّة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:109-110].

 

وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه: «اجلسوا بنا ساعة نؤمن»، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:10-11]، ثم كلما تذكر الإنسان ما عرفه قبل ذلك، وعمل به، حصل له معرفة شيء آخر لم يكن عرفه قبل ذلك، وعرف من معاني أسماء الله وآياته ما لم يكن عرفه قبل ذلك، كما في الأثر: من عمل بما عَلِم وَرَّثَهُ الله علم ما لم يَعْلَمْ، وهذا أمر يجده في نفسه كل مؤمن(2).

 

فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان، ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والذكرى تنفع دائمًا، ولن تعدم من ينتفع بها كثيرًا كان أو قليلًا، ولن يخلو جيل، ولن تخلو أرض، ممن يستمع وينتفع، مهما فسد الناس، وقست القلوب، وران عليها الحجاب.

وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ندرك عظمة الرسالة، وضخامة الأمانة، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى، وذلك الإقراء والحفظ، وتكفل الله بهما كي ينهض الرسول صلى الله عليه وسلم بعبء التذكير، وهو مزود بهذا الزاد الكبير.

 

فإذا نهض صلى الله عليه وسلم بهذا العبء فقد أدى ما عليه، والناس بعد ذلك وشأنهم تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى:10-12].

 

فذكرّ...، وسينتفع بالذكرى {مَنْ يَخْشى} ذلك الذي يستشعر قلبُه التقوى، فيخشى غضب الله وعذابه