logo

تَفعيل الأفكار واقِعيًّا


بتاريخ : الجمعة ، 9 ذو الحجة ، 1435 الموافق 03 أكتوبر 2014
بقلم : سهام أمسغرو
تَفعيل الأفكار واقِعيًّا

سأضرب مثالًا قد يبدو للوهلة الأولى بعيدًا تمامًا عن السياق، لكنه يوضح الرؤية التي أود الانطلاق منها؛ عندما نحتار بين فكرتين ولا ندري أيهما الأصلح لنطبقه في واقعنا، نلجأ إلى الله في الاستخارة فنقول: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك» [صحيح البخاري (6382)].

 

وهنا يتبين لنا الشقان الأساسيان في هذا الدعاء النبوي المعجز.

 

الشق الأول: نستخيرك بعلمك: هنا لجوء إلى علم الله من أجل اختيار "الفكرة الصالحة"، ولكن لماذا لم ينتهِ الدعاء إلى هنا وتمت إضافة الشق الثاني: نستقدرك بقدرتك؟ أليس اللجوء إلى علم الله من أجل امتلاك الفكرة الصالحة كافيًا؟ ما فائدة امتلاك الفكرة الصالحة إذا لم تتحول إلى واقع معاش إذن؟.

 

إنها القدرة، القدرة هي التي تجعل من هذه الفكرة واقعًا مُفَعّلًا ملموسًا!

 

وبعيدًا عن القدرة الإلهية المطلقة، والتي لا يُعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، نتطرق إلى قدرة الإنسان النسبية، والتي من خلالها يستطيع تفعيل أفكاره واقعيًا، هذه القدرة، التي تتميز بخصائص كثيرة متشابكة فيما بينها، أحاول توضيحها حسب ما توصل إليه تأملي، وأقسمها بذلك إلى صنفين:

 

قدرة الإنسان الروحية:

وهي مرتبطة بكيان الإنسان الداخلي، وبتفاعله الروحي مع الفكرة محل التفعيل.

 

قدرة الإنسان المهاراتية:

مرتبطة بملكات ومهارات الإنسان، وبتفاعله مع الواقع الذي هو مجال التفعيل.

 

وانطلاقًا من هذا المخطط، الذي حاولت من خلاله تلخيص الكيفية التي يتم بها تفعيل الأفكار والعوامل المساعدة على ذلك، يظهر بوضوح أن بعض العوامل مرتبطة بتفاعل الإنسان مع الفكرة، والبعض الآخر مرتبط بتفاعله مع الواقع؛ إذ لا يمكن تفعيل فكرة في واقع ما دون مراعاته ودراسة حيثياته وامتلاك أدواته، كما أن مراعاة الواقع والتمكن منه لا تغني عن ضرورة تشرب الفكرة والتفاعل معها روحيًا.

أسرد العوامل إذن، كما وضحتها في الرسم مع شيء من التفصيل:

 

العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الفكرة محل التفعيل:

 

الإيمان بالفكرة:

 

امتلاك الفكرة بمعنى العلم بها ومعرفتها والوعي بها ليس كافيًا، إنما تحتاج الأفكار إلى إيمان؛ ذلك الإيمان الذي يجعل من الأفكار جزءًا لا يتجزأ من كيان الإنسان، ذلك الإيمان الذي يشكل منها قناعة لا تتزعزع، وجوهرًا لا يتلاشى ولا يغير الوجهة إذا ما غيرتها رياح الواقع، فهي تظل ثابتة صلبة في مكانها، عميقة بما يكفي كي تتمثل واقعًا في جوارح الإنسان، الذي لن يكون أمامه سوى الاستجابة لروحه.

 

ولقد عبر عن ذلك الدكتور أديب الدباغ بشكل ممتاز عندما قال: «عندما لا يملؤك الشعور بأن دعوتك هي قلب الكون، وروح الوجود، وأنها صمام أمن وأمان له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كله؟!» [تقديم كتاب طرق الإرشاد في الفكر والحياة، لمحمد فتح الله كولن].

 

الحماس لها:

الحماس هو وليد الإيمان والاعتقاد الشديد بالفكرة، ولا يمكن التعويل على تفعيل فكرة ما إذا لم يتوفر الحماس لها، فهو كالوقود الذي يحرك عجلة العمل، ويبث روح الإقناع، ولهيب كلمات إنسان متحمس هو الذي قد يغرس إيمانًا بالفكرة في قلوب أخرى غير قلبه، وحماسه هو الذي ينشط جوارحه كي تكدح وتعمل في سبيل تفعيلها.

 

علو الهمة وقوة العزيمة:

قد يؤدي الحماس إلى رفع الهمة، ولكن الهمة العالية وحدها تجعل الحماس مستمرًا وليس مرحليًا آنيًا فقط، الهمة العالية هي جوهر الفعل الإنساني، هي الرصيد الذي يضمن الأمد الطويل للفكرة، وكما قال ابن الجوزي فإن الهمة «خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل».

 

أما قوة العزيمة فهي التي تولد الإصرار، وتساعد على تخطي العقبات.

 

العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الواقع مجال التفعيل:

 

فهم الواقع والتأقلم معه:

في المخطط أعلاه بينت أن الواقع يتكون من ثلاثة أسس: المكان – الزمان - الإنسان، وهي كلها أمور متغيرة، لا يمكن أن تخضع للتعميم؛ ولذلك فهي تحتاج إلى فهم، ثم إلى تأقلم.

 

إذ لا يمكن أن نشرع في تفعيل فكرة ما في بيئة ما دون مراعاة العوامل المكانية والزمنية والإنسانية، فهناك أفكار تكون صالحة لمكان ما، وغير صالحة في غيره، وهناك منها ما كان مناسبًا لعصر من العصور ولم يعد كذلك، وهناك من الأفكار ما يمكن تطبيقه على شريحة إنسانية ذات فكر وثقافة محددين، في حين أن تطبيقها على أناس آخرين قد لا يكون مناسبًا.

 

ولذلك فإن فهم الواقع، بأبعاده الزمنية والمكانية والإنسانية، فهمًا عميقًا عبر دراسته دراسة متأنية وممحصة، يبدو في غاية الأهمية قبل الشروع في عملية التفعيل للأفكار فيه.

 

وبعد الفهم والاستيعاب الجيدين للواقع سيكون لا بد من التأقلم، ومن المؤكد أن ما أقصده بالتأقلم ليس هو تصغير حجم الفكرة لتحاكي الواقع، أو تشويها كي تتناسب معه، ما أقصده بالتأقلم هو المرونة في الطرح.

فأي فكرة في تصورها النظري لن يتم تنزيلها واقعيًا إذا ما سلكت طريق الجمود، فالواقع يتطلب نوعًا من المرونة والقابلية للتغيير أحيانًا، وللتنازل أحيانًا أخرى، ولكن دون أن يكون هذا التنازل يضر بقيمة الفكرة في حد ذاتها، وهنا لا بد من الحكمة من أجل تقديم المصالح العليا دون إفراط أو تفريط.

 

مهارات القيادة:

القيادة هي ملكة أساسية لإنجاح أي مشروع، فلا يوجد مشروع ناجح ما لم يكن له قيادة ناجحة، وما المشاريع في النهاية إلا أفكار، تحتاج إلى من يمتلك القدرة على التأثير في سلوك الآخرين وتوجيه سلوكهم من أجل إنجاحها، وهذا هو الدور الذي يلعبه القائد، ومن الملاحظ أن أغلب الأفكار، التي تم تنزيلها على أرض الواقع، تكون مرتبطة بأشخاص ورموز كان لهم الفضل في هذا التأثير والتوجيه؛ لذلك فغياب الأشخاص القياديين قد يتسبب في ضياع واندثار الأفكار الجيدة.

 

أدوات الإدارة:

الإدارة هي مجال الفعل والتفعيل والتطبيق والتنزيل الواقعي، وامتلاك أدواتها هو الذي يجعل الفكرة تنتقل من كونها مجرد حلم غير واضح المعالم في الذهن، إلى فكرة واضحة ناصعة، لها رؤيا وأهداف ومراحل وأبعاد استراتيجية؛ إذ إن المهارات الإدارية هي التي تسهل عملية التنزيل الواقعي، وتساعد على تصحيح الأخطاء وتداركها، وتجعل تطبيق الفكرة يتسم بخطوات واضحة في مسار واضح، يتبين لك منه قدر الإنجاز ومكامن الخلل، وشكل المسئولية.

إنه انتقال بالفكرة من عالم الهواية إلى عالم الاحتراف، وإنه سبيل لا مناص منه من أجل تنزيل محكم متقن وفعّال.

 

معادلة تفعيل الأفكار:

تفعيل الأفكار = قدرة روحية + قدرة مهاراتية = (إيمان × حماس × همة) + (فهم × قيادة × إدارة).

 

وأخيرًا، إن الأفكار الأصيلة الهادفة للإصلاح تحتاج إلى جهد كبير من أجل تفعيلها، فليست المشكلة أن نُعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، كما قال مالك بن نبي؛ بل ولقد أوضح أكثر مكمن داء "اللافعالية" إذ قال: «إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل؛ بل ليقول كلامًا مجردًا؛ بل أكثر من ذلك، فهو يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرًا مؤثرًا، ويقولون كلامًا منطقيًا، من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط».[شروط النهضة، ص96].

_______________

المصدر: موقع "يقظة فكر".