logo

تعامل الداعية مع أصحاب البدع


بتاريخ : الأحد ، 11 محرّم ، 1442 الموافق 30 أغسطس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
تعامل الداعية مع أصحاب البدع

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: من كان مستنًا فليستن بمن قد مات؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدى المستقيم (1).

وقال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها (2).

وقال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا (3).

وذكر الشاطبي رحمه الله أن مفاسد البدع تنحصر في أمرين:

(1) أنها مضادة للشارع، ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة لا منصب المكتفي بما حد له.

(2) أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع فيكون قادحًا في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر (4).

قال ابن القيم: ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذب عنه، ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (5).

وأما من كانت بدعته دون ذلك أي من المعاصي والذنوب التي لا تصل إلى حد الكفر أو الشرك، فهذه تختلف أيضًا باختلاف الأشخاص والأزمان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة، وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك أن يقتصر على نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك» (6).

والله سبحانه قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه {وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، أي: فرقًا كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه.

وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وفي الحديث: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي» (7).

فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل، من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، الرسل برآء منها، كما قال: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] (8).

وكل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وحض رسوله صلى الله عليه وسلم عليه، فهي في حيز المدح؛ وإن لم يكن مثاله موجودًا؛ كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه.

ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها بدعة؛ لكنها بدعة محمودة ممدوحة.

وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في حيز الذم والإنكار، قال معناه الخطابي وغيره.

قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (9)، يريد ما لم يوافق كتابًا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (10)، وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره (11).

ودعوة أهل البدع إلى الحق وظيفةُ العلماء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها؛ إذ بها تتم حماية الدين، وتنقيته من شائبة الباطل.

والبدعة: هي طريقة في الدِّين مخترعة، تضاهي الشرعية، يُقْصَد بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبُّد لله سبحانه؛ وهذا على رأي مَن لا يُدْخِل العادات في معنى البدعة، وإنما يَخُصُّها بالعبادات (12).

وهي ليست على درجة واحدة من الشر؛ بل هي متفاوتة، ويصنِّف العلماءُ البدعةَ مِن عدة زوايا، فمِنْ حيث مجالها، تنقسم إلى:

بدعة اعتقادية: وهي اعتقاد الشيء على خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، كبدعة الخوارج في اعتقادهم تكفير العصاة من المسلمين؛ وكالمجسمة والمشبِّهة الذين شبَّهوا الله بخَلْقه تعالى الله علوًّا كبيرًا.

وبدعة عملية: وهي التي تكون في المسائل الفقهية القطعية أو الظَّنيّة، كالتي تكون في العمل الظاهر، كصلاةٍ تخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الأعمال، وكلُّها داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدٌّ» (13).

وبدعة قولية: وهي ما كان فيه تغيير لما جاء في كتاب الله عز وجل، ولِمَا ثبت في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأقوال المبتدعة من الفِرَق المشهورة، مما هو ظاهرُ المخالَفة للكتاب والسُّنَّة، وظاهر الفساد والقُبْح، كأقوال الرافضة والخوارج والجَهْمية والمعتزلة والأشعرية؛ وجميع الفِرَق المؤولة، التي وضعت لنفسها مناهجَ مخالِفة لمنهج الطائفة الناجية المنصورة، الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة.

وتُقسَّم البدعة بحسب ما يَؤُول إليه صاحبُها إلى: بدعة مكفِّرة، وبدعة غير مكفِّرة.

وربما تخلَّف الحكمُ على المعيَّن بالبدعة رغم قيامه بها إذا توفَّر مانعٌ أو انتفى شرطٌ؛ فالحكمُ على العمل أو القول لا يلزم منه تبديعُ المعيَّن القائل أو العامل به؛ إلا إذا أُقيمت عليه الحُجَّة، وتوفرت الشروط وانتفت الموانع.

خطر البدع:

البدعة أشد من المعصية، ويرجع ضررها إلى وجوه:

الأول: أنَّ البدع مفسِدة للقلوب، مزاحِمة للسُّنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبقَ فيها فضلٌ للسنن، فتكون بمنزلة مَن اغتذى بالطعام الخبيث (14).

فهي تُلْبَس لباس الدِّين، فيظن المنتسب لها أنها حق، وأنه مأجور عليها، وبذلك فإنه يَعْقِد عليها الكُرْهَ والحبَّ والولاء والبراء والثواب والعقاب، فتزاحِم السنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة، والأعمال الفاسدة، والخروج عن الشريعة.

الثاني: أنه في مقابل كل بدعة تُهْدَم سُنَّة، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام أيضًا: مِن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة: الخروج عن الشِّرعة والمنهاج الذي بُعِثَ به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا؛ فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظانّ الكفر، كما أنَّ السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (15).

لذا كان منهج المبتدعة قائمًا على معارضة نصوص الكتاب والسُّنَّة، كما قال شيخ الإسلام (16).

قواعد في التعامل مع أهل البدع والأهواء:

لا بد لنا قبل الخوض في غمار هذا الموضوع الخطير من أن نقرر جملةً من الثوابت المتعلقة بالموضوع؛ وإن بدا بعضها بدهيًا، فالغرض هنا تقريرها حتى نتحاكم إليها فيما يفرضه الواقع من متغيرات وجزئيات متبدلة، فتكون عونًا لنا على الاستنارة حيث تدلهم الخطوب، فربِّ يسِّر وأعن:

القاعدة الأولى: إن الافتراق أمر ثابت في هذه الأمة لا يجدي جحوده ولا يقلل من خطره إنكاره:

والدليل على ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فهذا أصلٌ في الافتراق المنهجي العلمي، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72]، فهذا أصل في وقوع المفارقة الحسية ابتداءً، وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات: 9].

القاعدة الثانية: خطر الافتراق علميٌ منهجي أو عمليٌ سياسي وقد يجتمعان:

وإن أهمية التمييز بين أنواع الافترق المذكورة آنفًا تتمثل في معرفة مناط الخطر من هذا الافتراق؛ أهو الأمن العقدي العلمي الذي يُخشى أن يفتتن الناس به في دينهم، أم هو الأمن الحسي الجماعي الذي يُخشى أن يتخطف به الناس من أمنهم واستقرارهم.

فهذا الافتراق ليس مسألة جماعة من الناس اختارت لنفسها رأيًا أو طريقًا خاصًا يحتمل السكوت عنه تحت تأثير وَهم حرية الرأي والتعبير، وإنما هو خطر حقيقي يضر بأمن المسلمين علميًا وعمليًا؛ فأما الضرر العلمي العقدي فهو ما يدخل على قلوب المسلمين من شبهات تشكك في العقيدة وتنكت النكت السوداء في القلب، ولقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة هذا المسلك حين مارسه طائفة من أعداء الدين الأصليين حين كانت الدعوة في مهدها، تأمل معي قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].

واعلم أن الغالب في منهج أهل الفرقة والهوى هو لَبس الحق بالباطل، كما كان منهج اليهود والنصارى حيث قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71].

وأما الضرر العملي فحسبك عليه منبهًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، وتأمل حولك اليوم لترى كم من مساجد الضرار، وكم من هيئات الضرار، وكم من فتاوى الضرار، يطلع علينا بها عُبَّاد الأهواء من المنظرين لجماعات الافتراق والتفريق الذين قطَّعوا الأمة إربًا إربًا تحت شتى رايات البدع والضلال، فتأمل.

القاعدة الثالثة: أتباع منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمتحنون الناس:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخفروا الله في ذمته» (17).

قال الحافظ ابن حجر في شرحه: وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك (18).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور الحال باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن، فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم (19).

فالحاصل أن أتباع منهج الصحابة يأخذون بظواهر الناس التي قررها الشرع ولا ينقبون عما في قلوبهم، ولا يمتحنون الناس بسؤالهم ماذا تقول في كذا وماذا تعتقد في كذا، وإنما هذا التفتيش والامتحان مسلك أهل البدع لأنهم محتاجون إلى هذا القمع حيث أعوزهم الدليل الشرعي والحجة العقلية، وهذا كله حيث بقيت هذه البدع مستورة في قلوب حامليها فلا ينقب عنها، أما إذا أظهر أهل البدعة بدعتهم فذاك مقامٌ آخر من حيث الإنكار الشرعي بضوابطه المعروفة.

القاعدة الرابعة: توعد أهل الافتراق والبدع بالنار لا يستلزم كفرهم :

وهذا مما ضل فيه كثير من الخلق حيث نظروا إلى ظاهر قوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث افتراق أمته: «كلها في النار إلا واحدة» (20)، فهالهم أن تكفر –بزعمهم- اثنتان وسبعون فرقة من أمته صلى الله عليه وسلم ولا تنجو من الكفر إلا فرقة واحدة، والحق أن ذكر النار في الحديث من باب الوعيد، والوعيد كما أنه يصح لأهل الكفر يصح لعصاة الموحدين وأصحاب الكبائر من أهل القبلة، فإذا عُلم هذا فليعلم كل مسلم أن أهل النجاة هم أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم وتطبيق الكتاب والسنة، وكل من عداهم قد سلكوا من الضلال مسلكًا قد يقف بهم عند حدود المخالفة والفسق، فيكون وعيدهم بالنار من جنس وعيد عصاة الموحدين من أصحاب الكبائر، وقد يفضي بهم مسلك الضلال إلى مهالك الكفر؛ فيكون وعيدهم بالنار من جنس ما وعد الله تعالى به الكفار والمشركين والمنافقين.

القاعدة الخامسة: مكافحة أهل الأهواء والبدعة:

فحيث كانت الفُرقة علمية منهجية كانت مجاهدتها بالحجة والبيان، وحيث كانت الفُرقة عملية حسية كانت منازلتها بالشوكة والسنان، ولا يستلزم القتال والقتل في الأخيرة تكفيرًا ولا خروجًا عن الملة؛ وإن كان يحتمله بحسب حال الأصل البدعي المفارَق عليه؛ ولعل بعض الأمثلة التاريخية توضح هذا الأمر؛ فمكافحة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج انطوت على شق علمي حيث بعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليناظرهم ويخاصمهم بالحجة، وكانت أقوى حججه عليهم أنهم ليس لهم سلف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الكبائر، وشق عملي تمثل في مقاتلة من أصر منهم على استباحة دماء المسلمين ببدعتهم هذه، فكان قتاله إياهم من جنس قتال أبي بكر الصديق للمرتدين، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الخوارج: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد» (21).

ثم تأمل في قتال أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمتنعين عن الزكاة؛ فمنهم من امتنع جحودًا بها فكان قتالهم لردتهم، ومنهم من أقر بها ولكنه تأول عدم استحقاقها لغير الرسول صلى الله عليه وسلم فقاتلهم لامتناعهم لا لكفرهم، وهو ما يُعرف في فقه السياسة الشرعية بقتال الطوائف الممتنعة، فتأمل هذه الفروق الدقيقة وهذه التنوعات المسلكية في مكافحة البدعة والفرقة.

سادسًا: رد التنازع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

ولقد تركنا المسك للختام حيث إنه مهما أعيت المنافحَ عن السنة الحيلةُ في رد الخصوم وبيان تهافت الضلالات، فإن له ملاذًا آمنًا لا يخذله البتة ألا وهو قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، ومعلوم أن هذا التحاكم إنما ينضبط بمنهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] (22).

سابعًا: يراعى في التعامل مع أهل البدع أن نستشعر الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الحكم ببدعة ما، واتخاذ موقف من أهلها؛ مسائل شرعية نحن متعبدون بها، فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص أنه ينبغي ألا يكون الموقف (عقابًا أو تألفًا) إزاء أحد من المبتدعة تشهيًا ولا تشفيًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به؛ كان خارجًا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله (23).

وقال رحمه الله عن الرجل: إذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقًا يخالف الكتاب والسنة؛ بُيِّنَ أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله، ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله تعالى، لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد، أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرًا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان (24).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله: وأئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم، وجهلهم، وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق (25).

وعلى العموم فأهل السنة لا يحكمون على الفرد المعين لا بجنة ولا نار إلا بدليل خاص، وصاحب البدعة إذا دعا إلى بدعته استحق العقوبة الشرعية، أما إذا أسر بها فإنه يناصح ويوعظ سرًا، وينبغي كشف أهل البدع للناس إذا تعدى شرهم إلى غيرهم، ويجب تحذير الناس منهم، والأصل عند أهل السنة عصمة دم المسلمين وأموالهم وأعراضهم، لأن أهل الحق معروف عنهم أنهم أرحم الناس بالناس، فالحق الذي يحملونه، ويدعون الناس إليه، ويريدون تطبيقه في الأرض؛ إنما جاء من عند الله، والله هو أرحم الراحمين، ودينه كله رحمة (26).

حكم التعامل مع المبتدع:

المبتدع في الأساس شخصٌ يريد الحقَّ، ويقصد التقرُّب، وهذا الغالب في أحوال الكثير من أتباع البدع، يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

فالمبتدع مريد للحق لكنه ضل طريقه إليه، لذا فإنَّ أهل البدعة قد يُظْهِرون مِن التنسُّك أو الأحوال ما يُعبِّر عن اعتقادهم الحق فيما يؤمنون به؛ ومن أجل ذلك فإن المبتدع -ما لم يكن زنديقًا- يُحْكَم له بالإسلام، ويبقى شأنه وحاله أفضل بكثير ممَّن قصد الكفر البُواح أو الشرك الظاهر، إلا أنَّه ونظرًا لخطورة البدعة على الدِّين نفسه من حيث هو؛ فإن المبتدع أخطر شأنًا على الدِّين وأهل الإسلام من الكافر والمشرك؛ لأنَّ البدعة تُفْسِد الإسلام، وتُحَرِّف الناس عن الحق إلى مزالق لتأويله ما يُقَسِّمهم شيعًا وأحزابًا.

ومِن هنا يأتي الإسلام ليرسم أحكام التعامل مع المبتدع من هذه الزاوية، زاوية أنَّ المقصود من التعامل مع المبتدع أمران:

الأول: معالجة المبتدع، وإخضاعه للتدابير التي مِن شأنها تحقيق العلاج لأهدافه.

الثاني: صيانة المجتمع من الآثار التي قد تلحق به دينيًّا مِن البدعة ذاتها، فضلًا عن المبتدع.

ومِن أَوْلَى أحكام التعامُل مع المبتدع: بيان مخالفته للدِّين بالحُجَّة والبرهان والدليل، وهذا ما سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشاب، الذي أتى يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، ومع ذلك الشخص الذي توجَّه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالقولِ: اعدِلْ يا محمد، نُصْح المبتدع، وإظهار الشفقة به، مع بيان عِظَم ما وقع فيه وعِظَم الآثار التي ستترتب على بدعته؛ وهذا بالفعل ما قام به عبدالله بن عباس رضي الله عنه وهو يُحاوِر الخوارج، ويُلْزِمهم بلازمِ مَذْهَبهم الذي ذهبوا إليه في شأن الفريقين المتقاتلين مِن الصحابة.

الوقوف بصرامةٍ إزاء تحوُّل هذه البدعة إلى مَذهب يتلقَّفه الناس، ويتخذونه منهجًا؛ لذا حذَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مِنَ البناء على القبور واتخاذها مساجد، ولعن اليهود والنصارى معرِّضًا بهم كل مَنْ يقوم في هذه الأمة بهذه البدعة.

كما واجه الرسول عليه الصلاة والسلام النفرَ الذين تقالُّوا عبادته في شأنهم لما قد غُفِرَ للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بالبيان والتحذير والإنكار الشديد.

وفي جميع الأحوال السابقة يبقى للمرء حقوق الإسلام، وعليه واجباته، لا يسقط منها شيء، لذا فإنه نادرًا ما كان يُقصِي الرسول صلى الله عليه وسلم مَن جاء بأمر مُنْكَر في الدِّين، بل احتمل عليه الصلاة والسلام بقاءهم في المجتمع، ولكن مع إنكاره عليهم، وتحذيره مما صنعوا.

معالجة جادة وصارمة:

أ- إنْ كانت البدعة مكفِّرة: أي أنْ يُحْدِث المرءُ من العقائد أو الأفعال أو الأقوال ما يوجب تكفيره، فإن كان ذلك صادر منه عن جهلٍ أو تأوُّل؛ بُيِّن له، ورُوجع في الأمر، وأُقيمت عليه الحُجَّة، واستتيب من قِبَل ولي الأمر، فإنْ وُجِدَ أنَّ بدعته صادرة عن زندقةٍ وإلحادٍ منه عُزِّر، وإنْ كان بالقتل.

وقتل المبتدع الذي تصل بدعته حدَّ الكفر والزندقة، التي بحيث ينتقد الدين بها عادةٌ متبعةٌ في دول الإسلام؛ وتدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسبئية حين حرَّقهم، وكذلك قتل الجعد بن درهم والحلاج وغيرهم.

والحاصل: أنَّ القتلَ مما يُعاقَب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفِّرة واستُتيب ولم يَتُبْ، أو رأى أهل الحل والعقد أو الإمام أو مَن أفتى مِنَ العلماء أنَّ هذا المبتدع يُقتل وإنْ لم يُستتب.

ب- وإنْ كانت البدعة مفسِّقة، لكن لها أثرها على وِحْدة الأُمَّة وأمنها واستقرارها -كبدعة التكفير عند الخوارج-؛ فلا يُكفَّر صاحبها، لكنَّ مقاتلتَه فيما لو أفسد في الأرض، وحمل السيف؛ واجبةٌ لوَأْدِ الفتنة وإخماد ثورتهم، وهذا ما فَعَلَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، حيث لم يُبَادِئهم بقتالٍ، ولا حَكَمَ بكفرهم ولا بنفاقهم، ومع ذلك قاتَلَهم لمَّا حَمَلوا السيف على المسلمين.

تنبيهات عند دعوة المبتدع:

وهذه أمور ينبغي أن يُنتبه لها عند قصد دعوة أهل البدع:

1- ألا يحملنا كراهة البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعة، بل لا بد من العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، فقد ظن أناس أن هجر المبتدع حكم شرعي لازم كملازمة المسببات لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينًا اختلاف الناس في أخذهم بعقوبة هجر المبتدع: إن أقوامًا جعلوا ذلك عامًّا فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره... ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا.. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه (27).

2- كما أنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلًا أو معصية، فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافًا عقديًا أو مخالفات شرعية، أو ربما كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلًا (28).

فينبغي للمسلم أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

3- كما أنه لا بد من العدل مع المبتدعة حتى يكون ذلك سببًا لاستجابتهم، فإن العدل فضيلة مطلقة، لا تقييد في فضله، فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه.  

وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، فمن العدل ذكر ما لهم من صواب، وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد، والجمع بين ذكر محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.  

ويتمثل هذا العدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الباقلاني الأشعري مثلًا حيث يقول: مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتبًا وتصنيفًا (29).

4- من كان رادًا على المبتدعة فليتحلَّ بالصبر وإلا فلا يشق على نفسه وعلى المسلمين، وليكف عن الناس أذى لسانه وبنانه فهو صدقة منه على نفسه، وليس لأحد عذر في أن يرد على الباطل بالباطل، والبدعة بالبدعة أبدًا.

5- لا بد من الحرص على دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم.

6- الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس، وإعطائهم الأمصال الواقية من تلك البدع وإظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته وأتباعه على بدعته إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه.

7- الحرص على جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلًا، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم، وليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.  

8- اغتفار زلة العلماء والدعاة الذين ثبت أن منهجهم هو منهج أهل السنة، ثم وقع منهم هفوة أو زلة أو بدعة متأولة ينبغي نصحهم والتحذير من الخطأ الذي وقعوا فيه، لكن لا ينبغي إسقاطهم بالكلية، وإخراجهم من المنهج لزلة أو هفوة، فإن العصمة ليست لأحد سوى الأنبياء، كما قال ابن القيم: وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلومًا جهولًا؟! ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته (30)، فإذا كان واجبنا أن نلتمس العذر للمسلم بصفة عامة فينبغي أن يكون لدعاتنا وعلمائنا نصيب أكبر في العذر وإحسان الظن..

وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى الأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج وهو الموازنة بين حسنات الرجل وسيئاته، وما له وما عليه، يقول شيخ الإسلام: إن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قررته في غير هذا الموضع (31).

وقال الذهبي: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك (32).

9- لا بد أن نعلم أن عبارات السلف الشديدة في حق المبتدعة خرجت في حق أهل العناد والداعين إلى البدع، ومن هذه العبارات ما خرج من أجل الزجر عن الوقوع في البدع والتساهل فيها، أو مع أهلها، قال ابن القيم رحمه الله: كان ابن عباس رضي الله عنهما شديدًا على القدرية، وكذلك الصحابة (33).

ومما يُظهِرُ شدة الصحابة على المبتدعة وتبرئهم منهم قول ابن عمر رضي الله عنهما حينما سئل عن القدرية فقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني (34).  

فينبغي على الداعية لأهل البدع أن يعرف متى يستخدم الشدة؟ ومتى يستخدم اللين؟ وما يحقق المصلحة الشرعية وما لا يحققها، فيضع الشدة في مكانها، واللين في مكانه، لأن إغفال هذا الأمر مضر، وكما قال المتنبي:  

ووَضعُ الندى في موضع السيف بالعلا     مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى (35).

أسلوب الزجر للمصرين على بدعتهم:

يختلف أسلوب التعامل مع المبتدع تبعًا لاختلاف بدعته واختلاف حاله؛ فأسلوب التعامل مع من نرجو منه توبة وإنابة ورجوعًا عن بدعته، غير أسلوب التعامل مع المصرين على بدعتهم المكابرين الداعين إليها، وأسلوب التعامل مع من كانت بدعته عن جهل وقلة علم غير أسلوب التعامل مع من بدعته عن هوى وكبر وعلى علم، وسوف نجمل في النقاط التالية أصول التعامل مع كل منهم.

الأصل الأول: بغضهم، وبغض بدعهم؛ فنبغض صاحب البدعة المكفرة كما نبغض الكفار، أما صاحب البدعة التي لا تكفِّر، فنبغض ما فيه من بدعة ونحبه بقدر ما فيه من سنة؛ يقول ابن تيمية: وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة (36).

وبغض المبتدع من تمام الإيمان؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله؛ فقد استكمل إيمانه» (37).

الأصل الثاني: هجرهم؛ فهو أمر الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ٦٨]، وهاك بعض أنواع الهجر:

أولًا: ترك السلام على أهل البدع؛ يقول الشوكاني: يستحب ترك السلام على أهل البدع والمعاصي الظاهرة تحقيرًا لهم وزجرًا، ولذلك قال كعب بن مالك: فسلمت عليه فوالله ما رد السلام عليَّ (38).

وإن بدأنا المبتدع بالسلام لا نرد عليه، يقول الشوكاني – أيضًا -: فيه جواز ترك الرد على من سلم وهو مرتكب لمنهي عنه ردعًا له وزجرًا عن معصيته، ويؤيد ابن رسلان ذلك قائلًا: ويستحب أن يقول المسلَّم عليه: أنا لم أرد عليك لأنك مرتكب لمنهي عنه (39).

قال الإمام البَغْوي: وفيه – أي حديث كعب بن مالك – دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين، متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم (40)، ومن الهجر: عدم أخذ العلم عنه، ولا مناكحته، ولا الصلاة خلفه مع وجود إمام غيره؛ فإن كان هو الوالي فإنه يصلي خلفه الصلوات التي لا يمكنه فعلها إلا خلفه كالجمع والأعياد، ولا يعيد (41).

ثانيًا: عدم مخالطتهم؛ فلا نشاوره في أمور الدين، ولا نرافقه في سفر، يقول الإمام أحمد: ولا تشاور أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك (42)، ولا نعوده إذا مرض، ولا نشهد جنازته إذ مات: يقول أحمد بن أبي الحواري: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تبايعوهم، ولا تشاوروهم، ولا تناكحوهم، وإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم، وكان يبكي وهو يحدث حتى يسيل دموعه (43).

وعن أبي زُرعة عن أبيه قال: لقد رأيت صَبيغ بن عِسْل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحِلَق فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزيمةَ أمير المؤمنين (44).

وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: أسألك عن كلمة، فولَّى أيوب وهو يقول: لا، ولا نصف كلمة مرتين يشير بأصبعيه (45).

الأصل الثالث: عدم أخذ العلم عن مبتدع داع إلى بدعته: يقول ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم (46).

وقال ابن طاووس لابنه حين تكلم مبتدع: يا بني أدخل إصبعيك في أذنيك لا تسمع ما يقول، ثم قال: اشدد (47).

 وإن تركنا أخذ العلم عنه، فكذلك نترك الصلاة خلفه إن وُجد إمام غيره: إلا أن يكون هو الوالي؛ فإنه يصلي خلفه الصلوات التي لا يمكن أداؤها إلا خلفه كالجمع والأعياد، يقول البغوي: وكان أحمد يرى الصلاة خلف أئمة الجور، ولا يراها خلف أهل البدع (48).

وسئل الإمام مالك عن الصلاة خلف أهل البدع القدرية، فقال: ولا أرى أن يصلى خلفهم، قال ابن وهب: وسمعته وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع؛ فقال: لا، ونهى عنه (49).

الأصل الرابع: الإنكار والرد عليهم: يقول ابن تيمية: أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل (50).

الأصل الخامس: عقاب ولي الأمر للمبتدع؛ فإن له أن يعاقب المبتدعين المغيِّرين في الدين بالعقوبة التي تردعهم وتميت بدعتهم، وقد تصل تلك العقوبة إلى القتل إن كانت المصلحة في ذلك، وقد حدث ذلك فعلًا للجَعْد والجَهْم، قال ابن تيمية: وكان أول من أحدث هذا في الإسلام الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد ابن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه، فكأنه قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره عليه وإليه أضيف قول الجهمية فقتله سلم ابن أحوز أمير خراسان بها (51)، (52).

ينبغي أن نراعي مقصدين في التعامل مع المبتدعة:

المقصد الأول: إصلاحهم وهدايتهم، فليس المبتدع في الجملة شرًا من الكفار الذين شرع لنا دعوتهم ودلالتهم على الحق، بل ربما كان فيهم من القرب للحق ما يدعو للاهتمام بهم، وبخاصة إذا كانت البدعة عن جهل وبُعد عن مصادر العلم، وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج، فرجع منهم من أراد الله به الخير والهداية (53).

المقصد الثاني: حماية الدين، قال الشاطبي: إن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام: إحداهما: الْتفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، والثانية: العدل مع أهل البدع.

في الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع، واستيقان استحقاقه للعقوبة؛ ينبغي أن نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل شيء، على أن العدل المحض في كل شيء كما يقول شيخ الإسلام: متعذر علمًا وعملًا، ولكن الأمثل فالأمثل (54)، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (55).

_______________

(1) شرح السنة للبغوي (1/ 214).

(2) شرح السنة للبغوي (1/ 216).

(3) الاعتصام (2/ 53).

(4) الاعتصام (2/ 61) بتصرف بسيط.

(5) إعلام الموقعين (4/405).

(6) أخرجه أبو داود (341).

(7) أخرجه البخاري (3442)، ومسلم (2365).

(8) تفسير ابن كثير (3/ 377).

(9) أخرجه مسلم (867).

(10) أخرجه مسلم (1017).

(11) تفسير القرطبي (2/ 87).

(12) الاعتصام (1/ 21).

(13) أخرجه مسلم (1718).

(14) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 281).

(15) مجموع الفتاوى (10/ 565).

(16) درء تعارض العقل والنقل (1/ 149).

(17) أخرجه البخاري (391).

(18) فتح الباري لابن حجر (1/ 496).

(19) مجموع الفتاوى (4/ 331).

(20) أخرجه ابن ماجه (3993).

(21) أخرجه البخاري (3344).

(22) منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة/ صيد الفوائد.

(23) مجموع الفتاوى (28/ 207).

(24) مجموع الفتاوى (28/ 221).

(25) الرد على البكري (ص: 257).

(26) التعامل مع أهل البدع/ موقع إمام المسجد.

(27) مجموع الفتاوى (28/ 213).

(28) قضايا دعوية.. كيف نتعامل مع المبتدعة؟ لسليمان الخضير، بتصرف

(29) درء تعارض العقل والنقل (1/ 283).

(30) مدارج السالكين (3/ 522).

(31) الفتاوى الكبرى (6/ 92).

(32) سير أعلام النبلاء (5/ 271).

(33) شفاء العليل (1/ 29).

(34) أخرجه مسلم في الإيمان (1/ 28- 102).

(35) التعامل مع المبتدعة في مقام الدعوة/ طريق الإسلام

(36) مجموع الفتاوى (28/ 209).

(37) أخرجه الترمذي (2521).

(38) أخرجه البخاري (4418).

(39) نيل الأوطار (2/ 115).

(40) شرح السنة (1/ 226- 227).

(41) مجموع الفتاوى (23/ 342).

(42) الفروع وتصحيح الفروع (3/ 269).

(43) الطيوريات (3/ 1032).

(44) شرح أصول أهل السنة للالكائي (ص: 140).

(45) شرح أصول أهل السنة للالكائي (ص: 291).

(46) مقدمة الإمام مسلم (1/ 15).

(47) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 218).

(48) شرح السنة للبغوي (3/ 397).

(49) الإبانة الكبرى لابن بطة (4/ 257).

(50) مجموع الفتاوى (28/ 231).

(51) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 510)

(52) أصول التعامل مع أهل البدع/ ملتقى الخطباء.

(53) منهاج السنة (8/ 530).

(54) مجموع الفتاوى (10/ 99).

(55) التعامل مع أهل البدع/ موقع إمام المسجد