إشكاليات العمل الدعوي المعاصر
من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطًا لازمًا للنجاح، كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات؛ منها ما يتعلق بالعمل الدعوي أو التخطيط أو التنفيذ أو الدعاة أنفسهم، ومن ذلك:
1- الرؤية الإقليمية للإسلام:
إن اجتهادنا ضمن دائرة معينة, ولو كان اجتهادًا مشروعًا؛ إلا أنه ليس من الضرورة تصور أنه يمثل الإسلام نفسه، الذي من أخص أصوله مناسبته لكل زمان ومكان, ربما كان اجتهاد مجموعة من أصحاب العمل في رسم رؤيتهم الخاصة تحت دلالة الشريعة، وعنايتهم الخاصة بالاستدلال يمنحهم تسليمًا شعوريًا أن رؤيتهم شرعية، وهذا يعني أن التقاطع معها أو الاختلاف يعني التقاطع والاختلاف مع الشريعة نفسها، حين لا يدرك هؤلاء الإخوة غلطًا شرعيًا في رؤيتهم، فمن غير الممكن السماح لأحد بالاختلاف أو عدم التسليم لهذا الاتجاه، وهذا محل نظر، فربما كان في الاستدلال من أصله خطأ خفي، وربما كانت هذه الرؤية شرعية في واقعها الذي درست فيه، لكن الشريعة لا تقضي بها في كل الأحوال التي تحمل اختلافًا في واقعها.
من المهم أن نعرف أن التقاطع مع خياراتنا الخاصة، التي نجتهد في رسمها رسمًا شرعيًا، ليس بالضرورة تقاطعًا مع الشريعة.
2- عدم الموازنة بين النظرية والتطبيق:
كثيرون يظنون أن صحة النظرية يعني صحة التطبيق، وهذا وهم ابتُلي به كثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم، وربما صح عند كثيرين التلازم بين النظرية والتطبيق في الشمولية والصحة, وغير ذلك.
إن النظرية أحد مؤهلات التطبيق، لكنها ليست وحدها المرسم له، ولهذا نرى ارتباط التكليف الشرعي بالقدرة والاستطاعة.
إن فقدان الإمكان للتطبيق يعني كثيرًا خللًا في المطالبة، وحديث بناء الكعبة خير مثال على ذلك، وحتى في أصل التشريع، فإن اقتضاء الأدلة الشرعية للأحكام يكون على وجهين:
أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض, وهو الواقع على العمل مجردًا عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة, وما أشبه ذلك.
الثاني: الاقتضاء التبعي, وهو الواقع على المحل, مع اعتبار التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء, ووجوبه على من خشي العنت, وكراهية الصيد لمن قصد به اللهو, وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام, أو لمن يدافعه الأخبثان(1).
إن من الأزمات اليوم أن ثمت كمًا كبيرًا من النظريات المجردة غير المؤهلة للتطبيق أو القابلة له، وكثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم يواجهون هذه الإشكالية، وربما تجاوز كثير منهم هذا بالإصرار على الصراع مع الواقع لفرض نظرية، أو رؤية اجتهادية، وربما قضى الكثير من الوقت في هذه الدائرة، وحاول تهدئة نفسه بشعور مجاهدة يتمثل في هذا الصراع.
وهنا يقع تمكين الأزمة وتعميقها، وهو حين يلقي بشكل عفوي أو حماسي جلبابًا شرعيًا على مشكلة منتجة طارئة، يجعل الاحتكاك بها أو محاولة كشفها وتصحيحها نوعًا من العدوان على قداسة شرعية.
إن الإسلام جاء ليحكم على الواقع ويقدم التصحيح, وفي حديث بناء الكعبة على قواعد إبراهيم إشارة إلى الرؤية الشرعية النظرية المجردة (إلحاق الحِجْر, فتح بابين للكعبة... الخ) جنبًا إلى جنب مع الرؤية الشرعية العملية الواقعية (بقاء الكعبة على ما هي عليه إلى اليوم وإلى أن يشاء الله) وكلاهما دين وشريعة، فما تمناه صلى الله عليه وسلم كان شريعة, وما فعله من تركها على ما هي عليه مراعاة لواقع معين هو شريعة أيضًا.
3- الخطاب الخاص الموجه:
يجب أن نتجاوز الخطاب الخاص، الموجه إلى التجمعات الخاصة ذات الطابع الموحد باسم (جماعة)، أو (منهج) أو (حزب)، أو (علاقة) أو نحو ذلك، وليس معنى هذا ضرورة رفض التجمع الذي يقع به خير كثير، أو تقتضيه أسباب مختلفة، إن وجود التجمع لا يلزم منه الاقتصار عليه.
من الصعب أن ينقلب الإسلام إلى مفهوم حزبي واحد, أو رؤية لجماعة إسلامية واحدة، فيكون مشروعها بتمام صياغته هو الإسلام أو أرقى رؤية للإسلام.
وهذا يتطلب قدرًا من الفقه للإسلام، ومعرفة الحقائق الشرعية على وجهها الصحيح، ولئن كان علماء الأمة وأئمتها الأوائل وضعوا قواعد الاعتقاد، وقواعد الشريعة؛ فإن صور التطبيق في الحكم على الأحوال الطارئة لا يزال بحاجة إلى فقه ورؤية شرعية.
لقد كان من أُسُسِه عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم»، «كل المسلم على المسلم حرام»، «وكونوا عباد الله إخوانًا» وعليه يجب أن ندرك أنها من أسس الفرقة الناجية.
إن الإشكالية تقع في كون بعضنا ينتج رؤية مبنية على جملة من الثوابت الشرعية، مع جملة من الحركة المعرفية الاجتهادية التي تكون، في كثير من الأحيان، هي المنتج للصياغة المنهجية، فيتمثل عند كثيرين أن المخالفة للحركة المنهجية، أو لهذه الرؤية، يمثل مخالفة للإسلام؛ ولهذا يعيش كثيرون روح الجهاد الخاصة في مثل هذه الظروف، وكأن الفرقة الناجية، المخبر عنها في الأحاديث النبوية، يجب أن تكون مجموعة دعوية خاصة، أو جماعة ذات علاقة واقعية بشرية قائمة وارتباط ذاتي في التعامل.
لقد نعى الإمام ابن تيمية كثيرًا على الذين يرسمون مذهب السلف بأوجه من نظرهم، واجتهادهم، وذكر أن هذه طريقة مخالفة لطريقة السلف أنفسهم؛ بل هي من طرق مخالفيهم، وأن طريقة السلف تكون بالتواتر والإجماع في الحقائق الشرعية المتمثلة في عقيدتهم ومنهجهم، هذه حقيقة علمية يجب أن ندركها.
ولم يكن من شأن أئمة الإسلام، الصحابة ثم الأئمة بعدهم، إدخال مسائل الخلاف والاجتهاد في الإضافة السلفية، أو عصمة الصحة بأي شعار أو مفهوم، أو حتى إيحاء، ولا شك أن الاختصاص برؤية معينة قد لا يمثل معضلة كبرى؛ إذا ما أدركنا الاختصاص والمحدودية في هذه الرؤية، وإن كنا نفضل أن تكون رؤيتنا أكثر استيعابًا حتى تكون أكثر هداية.
4- الخلط بين الثوابت والمتغيرات:
يجب أن نحدد الثوابت بشكل واضح، وأن نتجاوز إشكالية الربط بين هذه الثوابت وبين الصور الإلحاقية لها، التي هي إنتاج للاجتهاد والنظر، وأن ندرك أن هذا الربط لا يمثل عصمة ضرورية لهذه الإلحاقات الاجتهادية.
والتخريج على الثوابت أصبح اليوم يمثل معضلة علمية، لقد استعمل الفقهاء في مذاهبهم التخريج الفقهي على القواعد، أو حتى على قول الإمام, وطرأ في المعرفة السلفية المعاصرة عند بعض فضلاء الدعاة التخريج على الثوابت، فأنتجوا فروعًا كثيرة ألحقت في القيمة المبدئية بالثوابت السلفية، وهذا، في الغالب، هو سبب الانقسام اليوم في الرؤية السلفية؛ بل وعدم وضوح الاتصال السلفي في عدد من المناهج المنتسبة للسلفية اليوم.
إن السلفية يفترض ألا تكون متجاوزة للهدي الإسلامي، وهذه حقيقة شرعية وعقلية لازمة، ويجب أن يبقى الأصل أصلًا، والخلاف خلافًا، والاجتهاد اجتهادًا.
ولئن كان بعض الإخوة اليوم ينقمون على من يريد أن يحول الأصل إلى اجتهاد، فكذلك يقع اللوم على من يحول الاجتهاد والخلاف إلى أصل.
5- عدم القدرة على استيعاب إشكاليات العالم المعاصر:
يفترض أن تكون الدعوة قادرة على استيعاب كل إشكاليات العالم المعاصر, وليس غريبًا أن نكون منقسمين تجاه هذه النظرة قبولًا أو رفضًا، ولكن ربما كان من الخير أن نفكر في سببية انقسامنا أمام وجهات النظر، والأطروحات المقدمة من داخلنا أو خارجنا.
إن الاختلاف ينبغي أن يكون مقبولًا، نعم، لكن ليس من الخطأ أن نعرف سبب اختلافنا؛ بل هذا هو حقيقة الفهم للخلاف.
إن إعطاء أحكام المنع والتحريم لصورة في الاقتصاد والاجتماع ونحوها ليس كافيًا؛ لتكن هناك مبادرات إسلامية يعيش الناس في ظلها اقتصاديًا واجتماعيًا، وهذه شمولية الرسالة.
فالإسلام لم يأت ليلاحق أشكال التجاوز البشري فقط في أي مجال من مجالات الحركة البشرية، والرسالة الإسلامية تضمن صياغة مشاريع النهضة الشمولية في أي دائرة.
والحركات الإسلامية اليوم تعاني مشكلة في تبشيرها بالمشروع الإسلامي، من حيث عجزها عن مواكبة التبشير العقدي بصياغة حياتية تقدم البديل الشرعي, بينما هي تواجه مشاريع علمانية متمكنة في الواقع، وربما كان من أهم الأسباب هنا القصور في المرجعية العلمية القادرة على التعامل مع الحال القائمة.
الإسلام ليس ورقة تمنحنا الوصاية على الناس، أو حركة لمراقبة الفرد من الداخل البشري، إنه مراقبة بين العبد وربه، ولهذا يجب أن يكون مقصودنا تديين الناس لرب العالمين، وليس أن نحظى بالتبعية والالتفاف حولنا.
6- عدم القدرة على الاندماج في المجتمع:
من إشكاليات الرؤية عند بعض الإسلاميين تقديم المطالبة الكمالية للإسلام، ورسم صورة مثالية للالتزام والتدين، والمطالبة بالنموذج الكلي في التدين، وتمييز الدعاة أنفسهم بلغة خاصة ومظهرية خاصة, وربما صعبت الحركة داخل المجتمع، أو بعبارة أظهر: أصبحنا إلى حد كبير غير قادرين على الاندماج داخل مجتمعاتنا الإسلامية، وأصبح المجتمع الإسلامي في كثير من الأقاليم عاجزًا عن فهم التطبيق الإسلامي، فإنه لا يشاهد إلا حركتنا الخاصة، وهي حركة لها واقع محدود, وغير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي، وأصبحنا نتعاطف مع مجتمعاتنا في الأزمات فقط، وربما نظرنا إلى الواقع الاجتماعي نظرًا معقدًا، يتعذر علينا أن نندمج معه بشكل صحيح.
والإسلام الذي يتعلق به حق الأخوة والحقوق الإسلامية ليس مقصورًا على التمسك الخالص التام؛ بل هو تحقيق أصل الإسلام، ويفترض أن نفتح علاقات ولائية صادقة مع كل أشكال المجتمع وطبقاته، مع الدعوة إلى التمام والإيمان، وترك منكر القول والفعل، وألا نكون وحدنا وننتظر أن يتحول المجتمع إلى رؤية نقدمها.
إن هذه الرؤية لو كانت تمثل الإسلام تمامًا لم يكن من الشرعي ولا من العقلي الوقوف في العلاقة الولائية التعاملية عندها، فضلًا عن كونها محاولة خاصة قد تكون أحيانًا غير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي لكونها تقف وراء إلحاح معين في مفهوم نسبي، ولو كان ذا قيمة مبدئية عالية.
7- كثرة التنظير لتوحيد العمل الإسلامي:
إذا نظرنا في واقعنا الإسلامي وصيغ العمل الإسلامي وجدنا قدرًا كبيرًا من الاختلاف والتمايز، وإني أجد أن من غير المهم أن نشتغل كثيرًا في التنظير لتوحيد العمل الإسلامي في هذه المرحلة.
إن المجتمعات؛ بل والأفراد، تختلف عقولها ونفوسها والمؤثرات التي يقعون تحتها، وهذا يجعل التعددية مطلبًا ملحًا، مع المحافظة على أصول الدين وثوابت الشريعة، وجعلها مرتكز الاجتماع.
والعمل الإسلامي اليوم رغم اختلافه وتمايزه في كثير من الأحوال؛ إلا أنه يملك تجمعًا مؤهلًا للصياغة الشمولية إذا استطعنا الاعتراف والإيمان بثلاث حقائق:
أولًا: تجاوز خلافاتنا الخاصة، والتخلي عن المطالبة الذاتية.
ثانيًا: