أخطاء الخطباء
للخطبة في الإسلام منزلة عظيمة؛ فهي شعيرة من شعائر الإسلام العظام، وعبادة يتقرب بها المسلمون إلى الله، ومنها يتعلمون ويتعظون، ويجتمعون فيتذكرون وينتفعون، وصدق الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
وخطبة الجمعة تعد من مزايا هذه الأمة؛ حيث يجتمع المسلون أسبوعيًا في المساجد للاستماع إلى الخطيب، وهي فرصة عظيمة للانتفاع من هذه المناسبة الأسبوعية حين تعطى حقها من الاهتمام من طرفي الخطبة؛ الخطيب والسامع، ومن هنا وجب على الدعاة والخطباء إيلاء خطبة الجمعة ما تستحقه من اعتناء واهتمام بالغ، وملء وقت الخطبة بالنافع المفيد، واغتنام هذه المناسبة بشكل إيجابي بنّاء يخدم الأمة جمعاء.
إن خطبة الجمعة رسالة مؤثرة غاية الأثر في المجتمع المسلم، وهي خطاب أسبوعي يلتزم بحضوره كل مسلم، فكما أنه واجب على المسلمين الحضور لأداء صلاة الجمعة والإنصات للخطبة، فإنه واجب على الخطباء الإحسان في أداء خطبة الجمعة، امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»(1).
ومن الإحسان في خطبة الجمعة جودة التخطيط والإعداد لها، ومواكبة الواقع للمجتمع، فإن الإعداد الجيد والتخطيط المتميز للموضوعات هو عنوان النجاح، وهو الذي يجعل رسالة المسجد بالغة التأثير.
وتُعَدُّ الخطبة من أمثل أنواع الدعوة وأكثرها تأثيرًا في المدعوِّين، وخاصَّةً إذا قام الخطيب بواجبها وآدابها، وأدرك ما لها من الدور في التوجيه والتربية، والسببُ يعود إلى أمور، منها:
1- التزام المسلمين، باختلاف شرائحهم ومذاهبهم، بآدابها وسننها، ولو بشكل عام؛ مثلَ: الإنصات، والحضور المبكر، والإصغاء التام لما يقوله الخطيب، وإن ليوم الجمعة المكانة الرفيعة في قلوبهم ونفوسهم.
2- حضور المسلمين وتركهم لأعمالهم؛ امتثالًا لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9].
3- احترام الناس لشخص الخطيب، وتقديرهم له وما يصدر عنه، واعتبار أن ما يقوله ويدعو إليه أقرب إلى الصواب.
4- فرصة عظيمة للاجتماع بالمسلمين، وتوجيه النصح والإرشاد لهم، وذلك حين يعطي الخطيب للخطبة حظَّها من الاهتمام والرعاية، والمستمع حظَّها من الإنصات والإصغاء.
أخطاء في الخطابة:
ومن هنا وجَبَ على الخطيب أن ينتبه إلى أخطائه، إن وجدت، ويحاول تقويمها ومعالجتها، وألا يُصرَّ على خطئه؛ لما له من الأثر السلبي على مَن ينصحهم ويرشدهم، وسواء كانت تلك الأخطاء قولية، أو فعلية، أو شكلية.
والملاحظ أن بعض الخطباء مع أهمية الخطابة، ودورها الفاعل في التوجيه والتربية، وتقويم أخطاء المدعوِّين، فإنهم يهملون الكثير من آدابها وسننها، والتزام الأسلوب الأمثل فيها؛ مما يعرِّضهم إلى الوقوع في أخطاء تفوِّت عليهم ثمرة الخطبة.
ومن الملاحظ أيضًا أن بعض المنابر غدت محلًا للتجارب، فما عاد الخطيب يهتم بمواعظه وخطبه، فلا يلتزم بفن الخطابة، ولا يراعي أحوال مَن يخطب فيهم، ولا يهتم ويلتزم بمظهره وهندامه؛ ولذا أصبح هؤلاء، في بعض الأحيان، عبئًا ثقيلًا على السامعين، لا يجدون مفرًّا من الحضور إليهم، والاستماع إلى خطبهم.
وإليكم بعض الأخطاء، والتي نأمل من عرضها أن يطَّلع الخطيب عليها، ويحاول، بقدر الإمكان، أن يقوِّم أخطاءه، ويرتب أوراقه؛ حتى يكون له الأثر العظيم في الارتقاء بنفسه وبمن يدعوهم.
وتركيزنا على أخطاء الخطباء لا يعني خلوَّ الأمة من خطباء يجيدون فن الوعظ؛ فهناك خطباء تأنس الأسماع لحديثهم، وتنبسط النفوس لكلامهم، ويجد المستمع أثرًا واضحًا في حياته، ويلمس تغييرًا في واقعه وأفعاله بعد خروجه من المسجد أو الجامع.
ومن هذه الأخطاء:
أولًا: توظيف الخطبة في الصراع الشخصي:
المقصود من الخطابة هو: إقامة ذكر الله، وحث المدعوين على عمل الخير، وترك الشر؛ من خلال الترغيب في الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة، وما أعد الله للمؤمنين من الجزاء الحسن في الآخرة، والترهيب كذلك من الأعمال السيئة المؤدية لدخول النار، وحلول النقم والفساد في الأرض، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، أو الجدال بالتي هي أحسن، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ولم تُشرَع الخطبة لأجل الخصومات الشخصية، أو نشر المساوئ على المنابر، أو إدخال المدعوين في دوامة من الصراع القبلي أو المذهبي، أو طرح الخلافات بين علماء الأمة وفقهائها، أو نشر أخطائهم، كل ذلك ونحوه يُعَدُّ خارجًا عن إطار الخطبة وما شُرعَتْ له، وخارجًا عن مقصودها وهدفها الأسمى؛ من إيقاظ الناس من غفلتهم، ودعوتهم إلى الحق بالحكمة والأسلوب الأمثل؛ انطلاقًا من سيرة سيدنا الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعوته السمحة الزكية، المتمثلة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
قال الإمام ابن القيم: «كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكرِ الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته؛ فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفةً بالله وأيامه»(2).
ومن تأمَّل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثانيًا: غياب الإعداد الجيد:
فكثير من الخطباء لا يحضرون خطبة الجمعة إلا ليلة الجمعة؛ بل ربما صبيحة الجمعة، فلا يستغرق إعداد المادة العلمية في خطبة الجمعة إلا نذرًا يسيرًا من الوقت، مما يعني النذر اليسير من الفائدة.
ومن أسباب عدم التحضير الجيد أن الخطباء لم يتدربوا في الكليات الشرعية على كيفية التحضير والتجهيز لخطبة الجمعة، فليست هناك دورة في الإعداد لخطبة الجمعة، وليست هناك ورشة عمل لخطبة الجمعة، وغالب الخطباء الذين تخرجوا من الكليات الشرعية يدرسون قرابة خمسة عشر عامًا أحيانًا؛ لكنه رغم كثرة السنوات التي درسها فهو لم يعتلِ منبرًا، ولم يمارس الخطابة وهو في مرحلة الطلب، ويفاجأ أنه بعد تخرجه قد تعين إمامًا وخطيبًا، فيتعلم في الناس، ولا يدري من أين يبدأ، ومن تميز فيهم بعد ذلك فباجتهاد شخصي، ولكثرة الممارسة فيما بعد، وقليل ما هم.
ثالثًا: الجهل بالمراجع والمصادر:
فمن الخطباء، رغم دراسته في الكليات الشرعية، ليست عنده مكتبة جيدة، وإن كان عند البعض مكتبة؛ لكنه لا يدري أي كتاب يأخذ منه، وإن أراد معلومة لا يعرف من أين يستقيها من أمهات الكتب، وأقرب شيء هو أن يبحث عن خطبة قديمة قالها، أو خطبة جاهزة من كتاب سابق، أو يبحث في الإنترنت عن عنوان خطبة، فتكون منقولة ليس فيها روح الواقع، ولا يظهر فيها بصماته الشخصية.
رابعًا: انفصال الخطبة عن قضايا الأمة والمجتمع:
فكثير من الخطب التي تلقى على مسامع المسلمين مكررة، جافة، تفقد روح النصوص ورونقها، ولا تنزل الآيات على واقع المجتمع والأمة؛ بل تكون بعيدة كل البعد، ففي الوقت الذي تحصل فيه بلبلة في المجتمع في قضية من القضايا، فينظر الناس الخطيب مرشدًا لهم، كاشفًا لهم عن وجه الشريعة في القضية، تجد الخطيب يتكلم في واد والناس في واد آخر، فتنفك خطبة الجمعة عن مقصدها ووظيفتها من بيان الحق في قضايا الساعة، من غير تحيز ولا تحزب؛ بل إظهارًا للحق، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، فمن الواجب أن تلتحم خطبة الجمعة مع واقع الناس، وأن تكون معبرة عن قضاياهم واهتماماتهم، فتكون لها قيمة أكبر في نفوس المصلين.
خامسًا: تطويل الخطبة:
ومن المنفرات من خطبة الجمعة أن طائفة من الخطباء لا يحلو لهم إلا أن يطيلوا على الناس الخطبة، ولو كان المسجد صغيرًا ضيفًا، ولو كان الجو صيفًا والناس يتصببون عرقًا، فهو لا يشعر بما يشعر به الناس، ويطيل إطالة ممقوتة، فيها نوع من الاستطراد والتكرار الممل، فيكرر المعنى الواحد بجمل متعددة، ويكثر الإنشاء من الكلام، ويقل في خطبته الآيات والأحاديث والآثار، ظانًا منه أنه يفهم الناس أكثر، ولو أردنا أن نلخص الخطبة التي تقترب من الساعة لاختصرناها في خمس دقائق على أكثر وجه؛ مما يدفع الناس إلى التأخر عن سماع الخطبة، ويكتفي أن يدرك الخطبة الثانية والصلاة.
قال بعض الأدباء: «للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه»(3).
لكن ينبغي للخطيب، وهو يراعي مجانبة هذا العيب، أن يجانب أيضًا الوقوع في ضدّه، وهو القصر المخل، وخير الأمور الوسط، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا»(4).
سادسًا: ضعف أسلوب الخطبة:
يشعر الإنسان أحيانًا أنه مجبر لسماع خطبة الخطيب، فلا يجد فيها معلومة جديدة، ولا أسلوبًا جيدًا؛ بل يتخبط الخطيب في أسلوبه، فلا إدراك للتراكيب اللغوية، ولا مراعاة للقواعد اللغوية، فإذا به يرفع المنصوب، ويجر المرفوع.
والواجب على الخطيب أن ينمي مهاراته اللغوية، وأن يدرب نفسه على التحدث باللغة العربية الفصحى اليسيرة، التي تكون بعيدة عن التقعر اللغوي، وهي في ذات الوقت تحافظ على النسق اللغوي، وقواعد اللغة وجمالها.
وأن يطعم الخطبة ببعض الشعر والأدب، وبعض الحكم والفوائد، حتى يزين خطبته بأسلوب عربي مبين.
سابعًا: عدم تطوير الخطيب نفسه:
ولأن وظيفة الخطابة من أوضع الوظائف في العائد المادي، فنرى الخطيب يبحث عن وظيفة أخرى يحاول أن يسد به حاجاته ولا يتسول الناس؛ بل هناك من الخطباء من يتسول الناس فعلًا وإن كانت بأشكال مختلفة، فلا يفرغ الخطيب لوظيفته، عاملًا بالمثل القائل: على قدر فلوسهم نعمل، ناهيك عن أن الخطيب ولو كانت هناك من الدول من تكفيهم حاجاتهم فهو لا يطور نفسه، فلا يكتسب مهارات جديدة تعينه على أداء وظيفته على أكمل وجه؛ كدورات في التخطيط، أو دورات في الإلقاء، أو دورات في البحث والإعداد أو غيرها، حتى تنكمش وظيفة الخطابة في إلقاء بعض كلمات يعرفها الناس، وربما سمعوها عشرات المرات، خاصة خطب المناسبات؛ بل ربما يكتفي الإمام بنقل خطبة أحد الخطباء المشاهير، راحة لباله، وتوفيرًا لجهده، ولو علم المسكين لرأى أن التعب في تجهيز خطبة متميزة لها أثر كبير في الأمة، لكن الأمة عن فكره غائبة.
إن الواجب على الخطباء أن يتقوا الله تعالى في خطبتهم، دون أن يتحجج البعض بأن وظيفة الإمامة والخطابة لا تكفي حاجاته وأهله؛ بل قليل من الجهد والتفكير يجعل الخطبة ناجحة لها أثر كبير، ولا ينسى الخطباء أن وظيفتهم امتداد لوظيفة الأنبياء والمصلحين، وأنهم مسئولون عنها أمام الله تعالى قبل أن تكون مسئولية وزارات الأوقاف، التي يجب عليها أن تراعي حقوق الأئمة والخطباء، وأن يغنوهم عن ذل المسألة، وأن يجزلوا لهم العطاء؛ لأن باستقرارهم يكون استقرار المجتمع، فإن كانت وزارات الداخلية تعالج الجريمة بعد وقوعها، فإن الخطباء يعالجون الجريمة قبل وقوعها(5).
ثامنًا: عدم تفاعل بعض الخطباء مع الخطبة:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
وإذا لم يكن الخطيب جياش العاطفة، حي المشاعر، رقيق القلب، مرهف الإحساس خرجت كلماته ميتة لا حياة فيها ولا روح، وكان أشبه بالنائحة المستعارة، ولم تتجاوز كلماته الآذان.
فالعاطفة للخطبة كالروح بالنسبة للجسد، لكن ينبغي أن تكون هذه العاطفة موزونة بالعقل الرشيد، والرأي السديد، وأن تكون خاضعة وموافقة لأحكام الشرع المجيد.
فعن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: (صبحكم ومساكم)»(6).
إن الخطبة قد تشتمل على فنون شتى متغايرة؛ فقد تشتمل على الترغيب والترهيب، وعلى التحذير والتبشير، وقد تشتمل على ما يقتضي الحزن أو الفرح، أو الغضب أو الخوف، والخطيب الموفق يعطي كل مقام حقه من الانفعال والتغيّر.
وسبب هذا العيب في الغالب هو خروج الكلام من اللسان دون القلب، ومتى حصل ذلك لم تؤت الخطبة ثمارها.
والتفاعل الذي ننشده هو التفاعل الحقيقي الصادق، وليس التفاعل الصوري المتكلّف، فهذا يضر صاحبه، ويجعله هزأة عند المستمعين.
تاسعًا: عدم إتقانهم قواعد اللغة:
ومحاصرة العربية باللغات الأجنبية واللهجات العامية في ألسنة بعض الدعاة والأئمة، وهو خطر مضاعف لا يمكن التغاضي عنه، وكذلك تحدثهم بالعامية أو اللهجات الدارجة التي تستعمل في الحياة اليومية وفى المحادثات في المنزل والشارع، وجهلهم بأحكام التجويد، فقد يجهل البعض منهم صفات الحروف، تلك التي توضح طريقة نطق الحرف من مخرجه، ودرجة شدته ولينه، وجهره وهمسه، وجهلهم بمخارج الحروف، فمعرفة مخرج الحرف ليس الهدف منه فقط، وإنما التعرف على صفاته أيضًا.
عاشرًا: الجفاء والغلظة والقسوة على المخاطبين:
وذلك بتوجيه الألفاظ النابية وأصناف الشتائم وألوان السباب إليهم، وتنزيل نصوص الوعيد عليهم، واحتقارهم والتكبر والتعالي عليهم، وجرح مشاعرهم، من ذلك مثلًا أن يقول: إن أبناءكم قد بلغوا منتهى سوء التربية والخلق، وإن أزواجكم قد خرجن عن حدود الأدب...، وكان ينبغي له إذا اضطر إلى مثل هذا الكلام أن يدخل نفسه في جماعتهم، وأن يشعرهم بأنه فرد من أفرادهم، فيقول: إن أبناءنا...، وإن نساءنا.
ومن مساوئ هذه الآفة أن يمقت الناس الخطيب فلا يُصغُون إلى كلامه، ولا يستفيدون من وعظه، بالإضافة إلى ما يلزم من ذلك من تزكية الخطيب لنفسه وإعجابه بها، واغتراره وكبره.
ولتجنب ذلك ينبغي للخطيب أن يكون حكيمًا، وأن يستعمل التواضع والتودد والرفق واللين، وأن يشعر المخاطبين بأنه يريد نفعهم، وأنه حريص على نجاتهم في الدنيا والآخرة، قال الحافظ ابن حجر: «من آداب الخطيب في حال وعظه ألَّا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه؛ بل يبالغ في التواضع؛ لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه»(7).
حادي عشر: عدم الاعتناء بالهيئة:
وهذا خلاف السنة، فإذا كان من السنة لعموم الناس يوم الجمعة أن يغتسلوا، وأن يستنّوا، وأن يتطيبّوا، وأن يلبسوا من جميل الثياب، فكيف بالخطيب الذي ترمقه الأبصار وتتجه إليه الأنظار؟!
وإن الخطيب إذا ابتذل في مظهره احتقره الناس، وربما أهانوه، وصُرفوا عن الاشتغال بالإنصات إليه إلى الاشتغال بالنظر إلى هيئته.
وكما أن الابتذال في الهيئة عيب ومذموم، فكذلك الاعتناء الزائد على المشروع والخارج عن العرف، والذي ينبغي للخطيب الاعتدال في ذلك، وألا يخرج عن المعروف المألوف.
ثاني عشر: الصوت النمطي المطرد على وتيرة واحدة:
وذلك كأن يستوي عنده الاستفهام والتعجب والإنكار والإخبار والأمر وغير ذلك، ويستوي عنده أيضًا مقام الغضب ومقام الرضا، ومقام الفرح ومقام الحزن، ومن أسباب هذا العيب عدم تفاعله مع الموضوع أو عدم استيعابه له.
ومن أضراره أنه يصعب بسببه فهم كلامه، ويبعث الملل في نفوس السامعين، ويقذف فيهم النعاس، وتشرد أذهانهم؛ لأنه ليس في طريقة الإلقاء ما يشدهم ويلفت انتباههم.
ثالث عشر: مناقضة لسانه لحاله:
وهذا من أعظم العيوب وأخطرها، وأشدها ضررًا على الخطيب وعلى الدعوة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي تذم الذي يقول ما لا يفعل، وتبين ما له من الوعيد يوم القيامة.
ثم إن ضررها على الدعوة محقق؛ لأن الناس ينظرون إلى الأفعال أكثر من نظرهم إلى الأقـوال، فإذا وجدوا تنافرًا بينهما كان ذلك فتنة لهم.
رابع عشر: اشتمالها على ألفاظ منكرة شرعًا أو عرفًا:
مثال الألفاظ المنكرة شرعًا أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، أو يقول: من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما، أو يقسم بغير الله تعالى أو غير ذلك من الألفاظ المنهية.
عن عدي بن حاتم أن رجلًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى»(8).
والمراد بالألفاظ المنكرة عرفًا ما اتفقت طباع القوم على استقباحه واستهجانه، فعلى الخطيب أن يتجنبه وأن يعدل عنه إلى بديل يعرفه القوم ولا ينكرونه، وهذا يختلف باختلاف البقاع والأصقاع، فربّ لفظ حسن شريف عند قوم قبيح هجين عند آخرين، وعليه يلزم من أراد أن يخطب في قوم أن يعرف لسانهم وعاداتهم وأعرافهم؛ حتى لا يقع فيما يصدهم عنه ويسقط في أعينهم.
خامس عشر: عدم مناسبة الخطبة للمخاطبين:
وسبب هذا العيب، في الغالب، هو الجهل بواقع المخاطبين وأحوالهم ومستوياتهم وأعرافهم، فلا يراعي في خطبته المستوى العلمي واللغوي لدى المخاطبين، فيتناول موضوعًا يفوق أفهامهم، ويستعمل ألفاظًا لا يدركها أكثرهم، ولتحاشي هذه الآفة على الخطيب أن ينوع في استعمال المرادفات حتى يقع على اللفظ الذي يفهمه السامع، ويصل به إلى المعنى الذي يريد أن يبلغه.
وعن بعض الأدباء: وليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتصنع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة من الخطاب، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، فمن تمكن من البلاغة في البيان على أن يفهم العامة معاني الخاصة، ويكسو الخطبة بالألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء فهو البليغ التام والخطيب المصقع(9).
وقال بشر بن المعتمر: «ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات»(10).
نصائح للخطيب:
وبعد: ننصحك، أخي الخطيب، ببعض النصائح المفيدة، التي تعينك على النجاح في خطابتك، وهي:
1- اغتنام فرصة نشاط النفس، وفراغ البال لإعداد الخطبة، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف، ومعنى بديع.
2- الحذر من التوعر، فإنه سبيل التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك المعاني، ويشين الألفاظ.
3- التماس الألفاظ الكريمة للمعاني الكريمة، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف.
4- صون اللفظ والمعنى عما يفسدهما ويهجنهما.
5- الحرص على أن يكون اللفظ رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، وأن يكون المعنى ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، سواء عند الخاصة إن كانت الخطبة للخاصة، أو عند العامة إن كانت الخطبة للعامة(11).
لقد حقَّقت دعوة الرسول الكريم انقلابًا عجيبًا في كيان الإنسان؛ بفضل ما كان يمتلكه من وسائلَ فعَّالةٍ ناجحة في الدعوة إلى الله، فقد تحوَّل ذلك الإنسان من محبٍّ عاشق للدنيا، يموت ويحيا من أجلها، لا يُفكِّر أبعد من شهوته وبطنه، إلى إنسان يفكر، ويجول نظره في الكون الفسيح، إلى ما وراء ذلك من الشوق إلى نعيم الآخرة ولذَّتها، يحمل همَّ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وإخراج من حوله من البشر من ظلم العباد إلى عدل الإسلام ومساواته، ومن عبادة الحجر والبشر إلى عبادة الديان الذي لا يموت(12).
***
______________
(1) أخرجه مسلم (1955).
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد، ص39.
(3) البيان والتبيين (1/ 99).
(4) أخرجه مسلم (866).
(5) سبعة أسباب لخطبة منفرة، إسلام أون لاين.
(6) أخرجه مسلم (867).
(7) فتح الباري (2/ 217).
(8) أخرجه مسلم (870).
(9) مستفاد من العقد الفريد (4/ 55-56).
(10) البيان والتبيين (1/ 138-139).
(11) المصدر السابق (1/ 135-136).
(12) اختيار الوقت في الموعظة، موقع: الألوكة.