logo

دور الكتاتيب في نشر العلم الشرعي


بتاريخ : الأربعاء ، 24 صفر ، 1441 الموافق 23 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
دور الكتاتيب في نشر العلم الشرعي

الكتاتيب هي مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال، كانت، ولا تزال، من أخطر وأهم المؤسسات التعليمية التي عنيت بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عبر أجيال متوالية، حافظت على اللغة العربية واستقامة اللسان العربي، وكانت بمثابة الدروع التي حافظت على تراث الأمة في مواجهة مدارس الإرساليات التي غزت عالمنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر.

وقد نشطت مدارس الإرساليات في بداية القرن التاسع عشر، إلا أنه ومع تنامي الصحوة الإسلامية اشتد الاهتمام العام بدور تحفيظ القرآن، التي تطورت في الآونة الأخيرة من ناحية الشكل والبناء.

ومع تنامي وانتشار المدارس الأزهرية اهتم العامة والطبقات المتوسطة بإرسال أطفالهم إلى الكتاتيب للهروب أولًا من المدارس الخاصة وتكاليفها، إلى جانب الحرص على التعليم الديني وخاصة للفتيات، حيث تم افتتاح معاهد أزهرية خاصة بهن بجانب معاهد البنين القديمة.

أداة نشر العلم الديني:

كانت الكتاتيب، وما زالت، الأداة التعليمية الرئيسية التي ينتقل بها العلم الديني، وبالذات القرآن الكريم، من جيل إلى جيل، كما كانت الأداة التي تشع منها قاعدة التنوير الديني وحفظ القرآن ونشره، كما أن الكتاتيب هي النظام التعليمي المناسب والملائم لاحتياجات المجتمع المتنوعة، بحيث كانت تندمج بشكل طبيعي في نشاطات وحياة المجتمع الصغير اليومية، سواء في القرية أو في الحضر، كما كانت الكتاتيب نظامًا تعليميًا مجانيًا لا يكلف المجتمع أية أعباء للدراسة، فوق أنها تستمد تكاليفها المادية إما من نظام الأوقاف أو من التبرعات البسيطة والجهود التطوعية للمجتمع.

هذه الكتاتيب هي النظام التعليمي الأمثل من عدة نواح، على الأقل من ناحية التعليم الأساسي والأولي، وهي منظومة ضرورية في حياة المجتمع المعاصر، ولا يمكن القول مثلًا أن نظام رياض الأطفال أو السنوات الأولى من التعليم الأساسي يمكن أن تحل محل الكتاتيب؛ لأن هذه الأنظمة الحديثة لا تتمتع بنظام الكتاتيب في التعليم المباشر وفي إتقان الجوانب الدينية(1).

البداية التاريخية:

ويُعَدُّ الكُتَّاب من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين، وقيل بأن العرب عَرَفُوه قبل الإسلام، ولكن على نطاق محدود جدًّا، وكانت مكانة الكُتَّاب في القرون الهجرية الأولى عالية الشأن؛ إذ يُعِدُّ لبداية تعليم أعلى، فكان الكُتَّاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة بحيث عدَّ ابن حوقل ثلاثمائة كُتَّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية(2).

وقد أنشئت هذه الكتاتيب في عهد مبكر، وكان لها آثارها العظيمة في حفظ القرآن الكريم، فقد ثبت وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من القادرين من أسرى بدر الفداء؛ ومن لم يكن قادرًا، قبل منه تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، وطبعي أنهم كانوا يزاولون ذلك في مكان غير المسجد النبوي؛ لأن المشرك ممنوع من دخوله؛ ويدل على ذلك ما رواه ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، فجاء غلام يبكي إلى أمه فقالت: «ما شأنك؟»، قال: «ضربني معلمي»، فقالت: «الخبيث يطلب بذحل (بثأر) بدر، والله لا تأتيه أبدًا».

ثم أنشئت كتاتيب بعد ذلك، وكثرت كثرة خارجة عن الحصر، حتى لا تجد مصرًا أو بلدًا إلا وفيه كُتاب وكتاتيب»(3).

وبعد انطلاق فكرة التعليم الابتدائي وتعليم الكبار في العهد النبوي، توسَّع العمل بذلك في عهد عمر رضي الله عنه، ومما يدلُّ على هذا أن أطفال الكُتَّاب في المدينة النبويـة خرجوا إلى ظاهرها فـي يوم خميس لاسـتقبال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عند عودته من رحلة فتـح بيت المقدس، فأصـابهم مـن السـير علـى الأقدام، في الذهاب والإياب، عناء شديد، فأشار عمر رضي الله عنه ألا يذهب الأطفالُ إلى الكُتَّاب في يوم الجمعـة التالي؛ ليسـتريحوا ممَّا نالهم، وصـار الأمر بعـد ذلك عادة متَّبعة، في أن يكون يومُ الجمعة يومَ راحة وإجازة، ليس لأطفال الكتاتيب وحدَهم؛ بل لسواهم من المشتغلين في دواوين الدولة وإداراتها(4).

عن غياث بن شبيب أنه قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان، ويسلم علينا ونحن في الكتاب، وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه(5).

الهدف من إنشاء الكتاتيب:

وكان الهدف من إنشاء الكتاتيب قد تمثّل في تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الأطفال والشباب؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم أسرى المشركين عقب بَدْر أن يُعلِّم كل واحد منهم عشرةً من الغلمان الكتابة، ويخلِّي سبيله، فيومئذ تعلّم الكتابةَ زيدُ بن ثابت في جماعة من غلمة الأنصار(6).

وكان الأطفال في الكتاتيب يتعلَّمون احترام اللغة العربية، خاصة إذا كتبوا في ألواحهم آيات من القرآن الكريم، أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد قيل لأنس بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم؟ قال أنس: كان المؤدب له أجانة (إناء من فخار يُوضع فيه الماء)، وكل صبي يأتي كل يوم بنوبته (بترتيبه) ماءً طاهرًا، فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم، قال أنس: ثم يحفرون حُفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فيها فينشف، قلت: أفترى أن يلعط (يلحس)؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسح بالرجل، ويُمسحُ بالمنديل وما أشبهه، قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكتاب من المسائل؟ قال: أما ما كان من ذكر الله فلا يمحوه برجله، ولا بأس أن يمحو غير ذلك مما ليس في القرآن(7).

فهذه الصورة الرائعة تعبر أصدق تعبير عما كان في نفوس أبناء ذلك العصر من احترام للحرف العربي عندما يكتب به الوحي الإلهي، فيختارون الماء الطاهر لمسحه، ويحفرون له في الأرض ويصبونه لينشف(8).

كان اليوم الدراسي في الكُتَّاب يبدأ مع شروق الشمس وينتهي بصلاة العصر، وكان أولياء الأمور يُحضِرون أطفالهم إلى الكُتَّاب ابتداءً من عمر ثلاث سنوات، أما أدوات التلاميذ فتلخصت في الأقلام والألواح الخشبية التي استخدموها في الكتابة عليها، ودوام الكُتَّاب كان خمسة أيام فقط في الأسبوع، ويعطل في الأعياد وأيام البرد الشديد والعواصف والمطر الغزير.

أشهر المعلمين في الكتاتيب:

اتصف معلمو ومعلمات الكتاتيب بالخصال الرشيدة، وكان لا يتولى هذه المهمة إلا من اشتُهر بحسن الخلق والعفاف، مع الخبرة التامة في قراءة القرآن الكريم، والإلمام بالحديث الشريف، ومعرفة علومهما، إضافة إلى معرفة علوم العربية ونحوها من العلوم المساندة، التي تُكوِّن الثقافة الأساسية الابتدائية عند الغلمان والبنات، ومن مشاهير المعلمين أبو علي شقران بن علي الهمذاني، المتوفى سنة 168 هجرية، وكان من فقهاء تونس وعُبَّادها(9).

ومنهم: أسَد بن الفُرات، فاتح صقلية، وكان قد عمل في بدايـة حياته معلِّمًا للغلمان، ثم رحـل إلى المشـرق للاســتزادة من العلم، ثم تولَّى القضاء في القيروان، ثم فتح صقلية واستشهد فيها، واشتهر بالاستقامة والشجاعة وسَعة العلم والفقه في الدين(10).

ومنهم: صالح الكلبي، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومعبد الجهني، وقيس بن ســعد، وعطاء بن أبي رَباح، والكُمَيْت الشـاعر، وعبد الحميد كاتب بني أمية، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والزُّهري، والأعْمش، والحجَّاج بن يوسف(11).

ومن المعلمات المربِّيات: الصحابية الشِّفاء بنت عبد الله العدوية، وعابدة الجهنية، المتوفاة ببغداد في عام 348 للهجرة، وآيغر بنت عبد الله التركية، المتوفاة في دهستان عام 540 للهـجرة، وشمس الضحى بنت محمد الواعـظ، المتوفاة بمكة عام 583 للهجرة، وعائشـة زوجة شـجاع الدين بن الماغ، المتوفاة بدمشـق عام 655 للهجـرة، وعائشة بنت إبراهيم الغدير، المتوفاة بدمشق عام 718 للهجـرة، وفاطمة بنت محمد السمرقندي، المتوفاة بحلب عام 570 للهجرة، ووجيهة بنت المؤدب، المتوفاة بمصر عام 732 للهـجرة، ورقية بنت عبد السلام المدنية، المتوفاة بدمشق عام 815 للهـجرة، والهَمَّاء بنت يحيى، المتوفاة باليمن عام 837 للهـجرة، وزينب ابنة علي السبكي، المتوفاة بمصر في القرن التاسع الهجري، وعائشة بنت الخضر، المتوفاة بمكة عام 837 للهجرة، وأم عيسى البغدادية، المتوفاة ببغداد في القرن الثالث عشر الهجري {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوْا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].

وقد تعلم كثير من كبار الفقهاء والعلماء في الكتاتيب في صغرهم، فيحكي الإمام الشافعي عن مرحلة الكُتَّاب في صغره فيقول: «كنت يتيمًا في حجر أُمي، فدفعتني في الكتاب، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنت أُجَالِس العلماء»(12).

وقد كان الآباء يحرصون على أن يذهب أبناؤهم إلى المعلمين المجيدين، الذين لهم باع ودُربة على تعليم الأطفال، فكان من جملة هؤلاء المسلم بن الحسين بن الحسن أبو الغنائم، (ت 544هـ)، الذي قال عنه ابن عساكر: «اشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب حتى كثر زبونه»(13).

وقد كان الأمراء والخلفاء يحترمون المعلمين والمؤدبين، وينزلون على آرائهم؛ احترامًا لهم، ولذلك كان المعلمون يتمتعون بالاحترام الوافي من قبل الناس جميعًا، فقد بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله يستحضره؛ ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فأبى عليه، وقال: «إن العلم يُؤتى، لا يأتي»، فبعث إليه ثانيًا فقال: «أبعثهما إليك يسمعان مع أصحابك»، فقال مالك: «بشريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهي بهما المجلس»، فحضراه بهذا الشرط(14).

ولأهمية تعليم الأطفال وتأديبهم اهتم كثير من فقهاء ومؤلفي الإسلام بتربية الأطفال، وإرساء القواعد التربوية المهمة التي تُعين المدرسين والآباء على تعليم أبنائهم، فهذا الإمام الحجة أبو حامد الغزالي يضع فصلًا في كتابه القيم (إحياء علوم الدين) بعنوان (بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم، ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم)، ومما جاء فيه: «اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمهُ نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه والوالي له»(15).

ولم تكن مُقَرَّرَات ومواد التعليم واحدة في العالم الإسلامي؛ بل اختلفت من قُطْرٍ لآخر، وإن كانت تشتمل على القرآن الكريم، والقراءة والكتابة، وأحاديث الأخبار، وبعض الأحكام الدينية، والشعر، وبعض مبادئ الحساب، وبعض قواعد اللغة العربية، وكانت مدة بقاء الطفل في الكُتَّاب خمسة أو ستة أعوام على الأكثر، وتكون في الغالب ابتداءً من السَّنَةِ الخامسة أو السادسة، ويحفظ الطفل خلال هذه الفترة القرآن كله أو بعضه، وعندما يُتِمُّ الطفل مدة الدراسة في الكُتَّاب، ويحفظ القرآن؛ يمتحنه المعلِّمُ ليتأكد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل بالختمة(16).

وكان على كل مسلم أن يأخذ القدر الضروري من العلم الشرعي، وكان أهل العلم يبدءون تعليم الصغار في الكتاتيب فيعلمونهم أولًا القرآن الكريم والقراءة والكتابة، فكان كل طفل يوجه إلى الكتاتيب، ويتعلم هذه الأساسيات، ثم بعد ذلك يرتقي إلى دروس العلم الشرعية وما يتفرع عنها من علوم أخرى تنفع المسلمين.

وما كانوا يرتبطون بسن معينة كما حصل الآن في أنظمة التعليم، التي تربط التعليم بسن معين وبمراحل معينة تجعل الناس على وتيرة واحدة، الذكي منهم والغبي؛ بل كان المعلمون يعلمون أبناء المسلمين هذه الأساسيات، فإذا وجدوا عند بعضهم شيئًا من الاستعداد أقرءوه المتون الأساسية حفظًا وشرحًا، فإذا وجدوا منه استعدادًا أكثر نقلوه إلى شرح المتون، فإذا وجدوا عنده استعدادًا أكثر نقلوه إلى شروح الشروح وإلى ما نسميه الآن الموسوعات، وكتب السنن والآثار، وكتب الفقه المطولة، وكتب اللغة المطولة(17).

قال الشوكاني: «والحال هنا تختلف من طالب إلى آخر باختلاف القرائح والفهوم وقوة الاستعداد وضعفه، وبرودة الذهن وتوقده، وقد كان الطلب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب، والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد، للمبتدئين ثم المتوسطين، ثم المتمكنين، ففي التوحيد ثلاثة الأصول وأدلتها، والقواعد الأربع، ثم كشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، هذا في توحيد العبادة.

وفي توحيد الأسماء والصفات: العقيدة الواسطية، ثم الحموية، والتدمرية، ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فالطحاوية مع شرحها.

وفي النحو: الأجرومية، ثم ملحة الإعراب للحريري، ثم قطر الندى لابن هشام، وألفية ابن مالك مع شرحها لابن عقيل.

وفي الحديث: الأربعين للنووي، ثم عمدة الأحكام للمقدسي، ثم بلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى للمجد بن تيمية رحمهم الله تعالى، فالدخول في قراءة الأمهات الست وغير ذلك.

وأما المعلم فإذا تغيّب لشغل طارئ فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك...، كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بد منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما، فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بَعُد أو خيف بعد القريب، لما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك»(18).

ومثلت الدور المتخصصة في تحفيظ القرآن الكريم (الكتاتيب) دورًا متميزًا في تكوين الخلفية القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة, وكانت تلك الكتاتيب قد انتشرت في كثير من ربوع دولة الإسلام من جنوب شرق أسيا، عبر إندونيسيا وماليزيا ومملكة فطاني، سابقًا، وغيرها مرورًا بباكستان وأفغانستان ودول شمال آسيا، إلى أقصى الغرب الإسلامي في المغرب وموريتانيا، ثم الجنوب في جنوب السودان والصومال ووسط أفريقيا وغيرها، ولقد وجهت كثير من المخططات الخبيثة المنظمة للقضاء على الآثار الإيجابية لتلك الكتاتيب في العالم الإسلامي، حتى أصبحت مؤسسة (الكتّاب)، تلك المؤسسة الصغيرة العتيدة، مهددة بالانهيار التام بل والانقراض، ونحن في السطور التالية نحاول معًا إلقاء نظرة عابرة على تلك الكتاتيب ودورها، وكيف ينظر إليها من خلال (الكتاتيب المصرية نموذجًا).

فعشرات من الأناشيد والأغاني والأشعار والحكايات الأخرى قد احتلت مساحة كبيرة من عقول الأطفال الناشئة، وذلك على حساب حفظ القرآن الكريم في تلك المرحلة العمرية الهامة والحيوية، والتي تستوعب حفظ ملايين من الكلمات.

وقد نجد أطفالًا قد أتموا حفظ أجزاء كبيرة من القرآن الكريم قبل دخول المدرسة، وخصوصًا في الكتاتيب، ويعرف الجميع دور الكتاب أو مكتب تحفيظ القرآن الكريم، على مستوى القرى والأحياء الشعبية، في حفظ القرآن ونشره في بلادنا على امتداد القرون الطويلة.

كما يُعرف عن حكام مصر السابقين أمر اهتمامهم بالكتاتيب، وأبرزهم صلاح الدين الأيوبي، الذي أخذ على عاتقه إصلاح شأن الكتاتيب والاهتمام بها على مدى عشرين عامًا، قبيل انتصاراته التاريخية الباهرة على الصليبيين وتحرير بيت المقدس.

مطاردة الكتاتيب:

ولما جاء المحتل الأجنبي كانت أولى خطواته تجفيف منابع التدين، حسب المخططات الحديثة لمحاربة الإسلام، ومن أهمها مطاردة تلك الكتاتيب وإغلاقها، وإضعاف دورها وإهمالها، وقطع المعونات المادية عنها، وصرف التلاميذ والأطفال بعيدًا عنها، وعدم العناية بالمحفظين.

وتأتي تلك الضربات من عدة نواح، أبرزها من خلال الغزو الثقافي التغريبي، الذي اجتاح البلدان العربية والإسلامية منذ منتصف القرن الماضي، والذي سخر الأدب ووسائل الإعلام للنَّيْل من صورة الشيخ محفظ القرآن الكريم، وتصويره في القصص والروايات، وكذلك في الأفلام والمسلسلات بشكل هزلي كأنه إنسان بشع، يتلذذ بضرب الأطفال، ويتناول طعامهم، وخارج عن السياق الاجتماعي والأخلاقي.

وجاءت قصة الأيام لطه حسين، والتي كانت مقررة، وما زالت، على مختلف مراحل التعليم الإعدادي والثانوي في البداية لترسيخ هذه الصورة، وقد تحولت لعمل درامي أخذ أشكالًا مختلفة، ووضع صورة نمطية لسيدنا الشيخ (المحفظ) ومساعده (العريف)، وتلا ذلك سيل من الأعمال الأدبية والإعلامية التي سارت على نفس هذا المنهج المنفر من محفظ القرآن ومدرس الدين.

أما بقية الخطة المنظمة لتجفيف منابع الدين وحصار دور الكتاتيب فقد جاءت على عدة محاور، أهمها التضييق على المحفِّظين، وإغلاق الأبواب في وجوههم بدلًا من مساعدتهم والاهتمام بشأنهم.

إن هؤلاء المحفظين يعتمدون في معيشتهم على بعض العطايا المتواضعة من أسر الأطفال فقط، ولا يستطيعون ممارسة التجارة أو الزراعة أو العمل خارج البلاد، ومن ثم ظلت أحوالهم الاقتصادية متواضعة، حتى إن وزارة الأوقاف كانت قد أقرت لهم مكافآت رمزية لبعض الوقت، لكن سرعان ما توقف هذا الدعم المتواضع، وقد أدى هذا تباعًا إلى أن أبنية الكتاتيب صارت في معظمها قديمة، وغير مؤهلة على المستوى الإنشائي والصحي لاستيعاب أعداد كبيرة من الأطفال، وخصوصًا أبناء الطبقة المتوسطة وأبناء المتعلمين، الذين يطمحون في إلحاق أبنائهم بدور تحفيظ متطورة، ومن ثم لا يجدون بغيتهم في الكتاتيب؛ فيلحقون صغارهم قبل سن المدرسة الابتدائية بدور الحضانات، التي بدأت تنتشر في الريف على حساب الكتاتيب، وتجد تشجيعًا مشبوهًا من بعض المؤسسات العلمانية.

إن هذه المؤسسات العلمانية وضعت ضمن أهدافها وأولوياتها تشجيع وإقامة دور الحضانات في الريف، وتزويدها بالمناهج المختلفة التي تعج بالغث من المواد، ورغم أن هناك العديد من المحاولات التي يقوم بها بعض العلماء وأهل الخير للاهتمام بالكتاتيب من خلال الجمعيات الأهلية، التي تساهم في مساعدة المحفظين ببعض الأموال، أو تقديم المعونات للنهوض بالأبنية القديمة، إلا أنها في النهاية جهود فردية، يتم حصارها في كثير من الأحيان(19).

وللبيئة الثقافية للفرد دور أساسي في خلق جو من التفاعل اللغوي والإيجابي، من خلال إتاحة الفرص المناسبة لتعلم اللغة وممارستها على النحو الذي يناسب مستوى نضج الطفل، ويساعده على النمو العقلي والانفعالي، ويتشكل ذلك المناخ الثقافي الفعال من قدرة الأسرة على التفاعل اللغوي المثمر، وتوجيه الطفل إلى هذا التفاعل كإلحاقه بجمعيات تحفيظ القرآن (الكتاتيب) التي تعد الطفل ليكون ذاكرًا لأكبر تراث لغوي، ومحافظًا على ذاته من خلال ذلك التذكر الواعي لآياته، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، ويقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، ومن أفضل نعم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن جعل دستورها قرآنًا عربيًا غير ذي عوج، من تعلمه وعمل به فقد فاز في الدنيا والآخرة، ومن تركه خلف ظهره فقد خسر خسرانًا مبينًا.

ورغم انحسار عدد الكتاتيب في وقتنا الحالي، مقارنةً بأعداد دور الحضانة الحديثة، إلا أنَّ أهميتها الكبيرة تجعل منها قيمة لا تبلى حتى مع مرور الزمن؛ لذا فهي تستحق المزيد من الدعم والاهتمام من الحكومات والشعوب العربية على حدٍ سواء.

فيكفي أنها تحفر في وجدان النشء العربي انتماءه للغته العربية، وإتقانه لها في أهم مراحله العمرية، وتستطيع الكتاتيب أن ترفع الحصيلة اللغوية للطفل إلى أكثر من خمسين ألف كلمة قبل بلوغه سن السبع سنوات! مما يساهم في تنمية ذكائه وتعزيز قدراته، وهذا ما لم تستطع دور الحضانة الحديثة تحقيقه.

فلا شك أنه أصبح من الملحوظ جدًا مدى ركاكة اللغة العربية، وكثرة الأخطاء الإملائية، حتى عند بعض خريجي الجامعات من العرب، فإذا لم تكن عودة الكتاتيب هي الحل الوحيد للقضاء على هذه الظاهرة فهي بالتأكيد أهم الوسائل المُثلى التي نستطيع من خلالها حماية الأجيال القادمة من طمس هويتهم وثقافتهم(20).

***

__________________

(1) دور الكـتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا، موقع: المسلم.

(2) من روائع حضارتنا، ص100.

(3) المدخل لدراسة القرآن، ص420.

(4) التراتيب الإدارية (2/ 294).

(5) أسد الغابة (2/ 323).

(6) الروض الأنف (3/ 135).

(7) آداب المعلمين، ص40-41.

(8) عصر الخلافة الراشدة، ص281.

(9) معالم الإيمان (1/ 208).

(10) وترتيب المـدارك (3/ 291).

(11) آداب المعلمين، ص148–149.

(12) جامع بيان العلم وفضله (1/ 473).

(13) تاريخ مدينة دمشق (58/ 74).

(14) المصدر السابق (8/ 269).

(15) إحياء علوم الدين (3/ 72).

(16) الحضارة العربية الإسلامية، ص147-149.

(17) شرح لمعة الاعتقاد (2/ 3).

(18) الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل، ص38.

(19) دور الكـتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا، موقع: المسلم.

(20) اللغة العربية الضائعة في جاهلية أهلها، منير إبراهيم تايه.