بئس أخو العشيرة
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة»، فلما جلس تطلَّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره»(1).
قال عياض: «المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة»، وقال غيره: العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده.
والمداراة هي: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتِيج إلى تألفه، ونحو ذلك(2).
قال الخطابي: «جمع هذا الحديث علمًا وأدبًا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة؛ وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض؛ بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره؛ فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق؛ أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته».
وقال القرطبي: «في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك، من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى»، ثم قال تبعًا لعياض: «والفرق بين المدارة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى».
وقال عياض: «لم يكن عيينة، والله أعلم، حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه؛ فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له، ثم ذكر نحو ما تقدم، وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم»(3).
ومن ذلك نستنتج أن المداراة جائزة فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وفيما لا يخالف أصلًا من أصول الإسلام وواجباته، وإن مداراة أهل الفسق والفجور ليست قاعدة مطردة يؤخذ بها في كل وقت وحال، وإنما يجوز العمل بها فقط إذا خيف حصول شر أعظم مما هو كائن، أو مثله، وكان المداري غير قادر على إنكار هذا المنكر بالقول أو الفعل، فيجوز له درء الشر بالقول اللين، أو الإعراض عنه لهذه الأسباب، أما إذا زالت الأسباب الموجبة للمداراة، أو كانت المداراة تؤدي إلى ضرر الغير أو إلى مخالفة أصل من أصول الإسلام وواجباته؛ فإن المداراة حينئذ لا تصح ولا تجوز، لأنها انتقلت من كونها مداراة إلى كونها مداهنة، والمداهنة محرمة في الإسلام كما سبق بيان ذلك(4).
أما المداهنة فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل، أو عمل مكروه، فهي بلادة في النفس، واستكانة للهوى، وقبول ما لا يرضى به ذو دين، أو عقل، أو مروءة، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم:8-9]، فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق، كما يفعلون في التجارة، وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا.
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق، وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان، جاهلية الأمس وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء، إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة ولا صلة، وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق.
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم، ليدهن لهم ويلين ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}.
ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يُتَخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد(5).
المداهنة خلق قذر، لا ينحط فيه إلا من قل في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة، جناحاها الكذب، وإخلاف الوعد.
قال ابن القيم رحمه الله: «المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضُرب لذلك مثل مطابق؛ وهو حال رجل به قرحة قد آلمته، فجاءه الطبيب المداوي الرفيق، فتعرف حالها، ثم أخذ في تليينها، حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء فاسترها عن العيون بخرقة، ثم الْهُ عنها؛ فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها»(6).
قال بعض العلماء: «تجوز المداراة فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير، فأما إن كانت المدارة في أمور تخالف أصول الدين فهي مداهنة لا مداراة، فلا يجوز مداراة الناس في مظالمهم من قتل نفس أو سرقة أموال، أو انتهاك أعراض، أو شهادة زور، أو نحو ذلك من الأمور المحرمة»(7).
قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول والعمل، وذلك من أقوى أسباب الألفة»(8).
أما المداهنة فهي من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه.
أما المداراة فهي تعني: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حتى لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه على الخير، ومنع ما يحصل منه من شر(9).
والمداراة فيما لا يهدم حقًا ولا يبني باطلًا فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق، ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونًا من سفههم، واتقاءً لفحشهم(10).
قال ابن الجوزي: «وكن حسن المداراة للخلق، مع شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحة من خلطاء السوء، ومبقية للوقار؛ فإن الواعظ، خاصة، ينبغي له ألا يُرى متبذلًا، ولا ماشيًا في السوق، ولا ضاحكًا، ليحسن الظن به، فينتفع بوعظه، فإذا اضطررت إلى مخالطة الناس فخالطهم بالحلم عنهم، فإنك إن كشفت عن أخلاقهم لم تقدر عن مداراتهم»(11).
لا ريب أن الواعظ من أحوج الناس إلى ذلك؛ إذ هو يلاقي الناس، ويخالطهم، ويعرض عقله كثيرًا أمامهم؛ فهو محتاج إلى مداراة الناس عمومًا، ومداراة زمانه، ومداراة مخالفيه.
بعض معالم المداراة:
أ- المداراة ترجع إلى حسن اللقاء، وطيب الكلام، والتودد للناس، وتجنب ما يشعر بغضب أو سخط، كل ذلك من غير ثلم للدين في جهة من الجهات.
ب- من المداراة أن يلاقيك ذو لسان أو قلم عرف بنهش الأعراض، ولمز الأبرياء، فتطلق له جبينك، وتحييه في حفاوة؛ لعلك تحمي جانبك من قذفه، أو تجعل لدغاته خفيفة الوقع على عرضك.
فلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل المعروف بالبذاء من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رفق به في الخطاب، فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم؛ فلا يظهر إلا في مكان أو زمان يليق إظهاره فيه.
ويريد تعليمهم أدبًا من آداب الاجتماع، وهو رفق الإنسان بمن يقصد إلى زيارته في منزله، ولو كان شرُّه في الناس فاشيًا.
ج- من المداراة مراعاة أعراف الناس وعاداتهم ما لم تخالف الشرع: وهذا الأدب يتجلى عندما يعظ الإنسان في مكان غير المكان الذي عاش فيه وألف؛ فربما رمته الغربة في بلد ما، فوجد خلائق أهل ذلك البلد وطباعهم وعاداتهم على غير ما يألف؛ فيحسن به، والحالة هذه، أن يراعي ما عليه أهل ذلك البلد، وأن يتجنب في وعظه منافرتهم، أو مخالفتهم، أو فيما اعتادوا عليه؛ فذلك من جميل المعاشرة، ومن حسن المداراة.
وكل ذلك مشروط بألا يكون في عاداتهم محذور شرعي؛ فإن كان ثَمَّ محذور شرعي تعين تقديم الأمر الشرعي على كل عادة وعرف؛ مع مراعاة الأسلوب الأمثل في التنبيه على ما خالف الشرع.
قال ابن حزم رحمه الله: «وإياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلًا»(12).
د- من المداراة ألا يستسلم الواعظ لعوارضه النفسية من حب وبغض، ورضا وغضب، واستحسان واستهجان؛ إذ لو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون، في كل وقت وعلى أي حال، لاختل الاجتماع، ولانقبضت الأيدي عن التعاون، ولشاعت البغضاء بين الناس؛ فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يحدث تقاطعًا، أو يدعو إلى تخاذل؛ ذلك هو أدب المداراة؛ فهو مما يزرع المودة، ويجمع القلوب المتنافرة.
هـ- من المداراة أن يلقي الواعظ موعظة أمام ذي يد باطشة، فيمنحه جبينًا طلقًا، ويتجنب في حديثه ما يثير ذلك الباطش.
والمداراة ترجع إلى ذكاء الشخص وحكمته؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون؛ ذلك أن لأسباب العداوة مدخلًا في تفاوت مقادير المداراة، واختلاف طرقها.
ز- المداراة يبتغى بها تأليف الناس في حدود ما ينبغي؛ فلا يبعدك عنها قضاء بالقسط، أو لقاء للنصيحة في رفق.
ج- وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء؛ فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كالجسد الواحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يصفوا لها بعد دواءً.
بعض معالم المداهنة:
وبعد أن اتضحت بعض معالم المداراة يحسن أن نوضح بعض معالم المداهنة؛ فإليك شيئًا من ذلك.
أ- المداهنة هي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق، من قول باطل أو عمل مكروه؛ فهي بلادة في النفس، واستكانة للهوى، وقبول ما لا يرضى به دين، أو عقل، أو مروءة.
ب- المداهنة خلق قذر، لا ينحط به إلا من قل في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة.
ج- المداهنة تضم بين جناحيها الكذب، وإخلاف الوعد، وقلة الحياء.
د- من المداهنة أن يدخل الرجل على من يضطره الحال إلى الثناء عليه مع استغنائه عن الدخول عليه، ثم يبدأ بإطرائه ومدحه بما ليس فيه.
أما إذا اضطر الإنسان إلى الدخول على ذي قوة لا يخلص من بأسه إلا أن يسمعه شيئًا من المديح، فهو في سعة أن يمدحه بمقدار ما يخلص من بأس، ولا تلحقه هذه الحالة بزمرة المداهنين.
ومن المداهنة أن يجعل المداهن لسانه طوع بغية الوجيه، فتراه يسبق هوى الوجيه، ويعجل إلى قول ما يشتهيه الوجيه، فيمدح ما يراه الوجيه حسنًا، ويذم ما يراه الوجيه سيئًا؛ بغض النظر عن قناعة هذا المداهن من عدمها.
ز- من المداهنة أن يجعل الإنسان لسانه طوع رغبة طائفته وأتباعه، دونما نظر في رضا الخالق جل وعلا.
هذه هي المداهنة، وتلك أحوال أهلها؛ يراوغون، ويخاتلون، ويخادعون، ويكذبون، ويسترون وجه الحقيقة الأبلج، ولا يبالون بما يترتب على ذلك من عواقب.
أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على من في استطاعته الخير، فيربئون بألسنتهم أن تساير في غير حق، ويؤثرون نصح الأمة بكافة طبقاتها بأبلغ أسلوب على أن يزينوا للناس ما ليس بزين؛ بعلمهم بأن المداهنة خيانة، وتفريط في أداء الأمانة، وأنها ضرر محض على أصحابها وعلى من يسايرونه.
ثم إن الناس، كبيرهم وصغيرهم، يكرهون المداهنة، ويملئون أعينهم باحترام من يوقظهم لوجه الخير إذا كانوا في غفلة، ولوجه الشر إذا اشتبه عليهم.
ولقد كان العلماء الأجلاء والدعاة الصادقون يأخذون بسنة المداراة، ولم يكونوا يتلطخون برجس المداهنة.
ولقد تظاهرت نصوص الشرع، وتضافرت أقوال والعلماء والحكماء في الحث على المداراة، وذم المداهنة، وقد مضى شيء من ذلك.
قال الحسن رحمه الله: «حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المئونة»(13).
وقال العتابي: «المداراة سياسة لطيفة، لا يستغني عنها ملك ولا سوقة، يجتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثر مداراته فهو في ذمة الحمد والسلامة»(14).
وقال بعضهم: «ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري»(15).
وقال ابن حبان رحمه الله: «من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد عن معاشرته بدًا، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، أو استقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثمًا؛ فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من دارى فلم يسلم؛ فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟!»(16).
وإذا كان الأمر كذلك فإن على دعاة الإصلاح أن يراعوا هذا الجانب، وأن يحرصوا على تربية الناس على خلق المداراة؛ حتى تكون بلاد المسلمين منابت نشءٍ يميزون المداهنة من المداراة؛ فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق، ولا يكتمهم الحقائق، متى اتسع المقام، لأن يحدثهم بصراحة(17).
من المداراة أن يوجه الداعي أو الناصح الإنكار إلى نفسه وهو يعني السامع، قال تعالى فيما يقصه عن مؤمن آل ياسين، حين أراد دعوة قومه إلى عبادة الله عز وجل: {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22].
فإنه إن أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئًا، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفًا في الخطاب، وإظهارًا للخلوص في النصيحة؛ حيث اختار لهم ما يختاره لنفسه(18).
فعلى الداعية ألا يتنازل عن الدين، ثم يخادع نفسه بأنه يسلك مسلك التلطف والحكمة؛ بل تلك هي المداهنة المذمومة والركون المذموم للباطل، وإن كان لديه مشروع إصلاح واضح لا مجرد تعايش في ود ووئام مع الباطل وأهله، إن على الداعية أن يحمل الدين وينشره في قالب لطيف حسن، ولا يصح الخلط بين اللطف في الدعوة وبين التنازل عن ثوابت الدين أو التنازل عن دعوة الناس تلطيفًا لأجواء الحياة.
ولا بد أن نعي، في مثل هذا المقام، أنه كما يوجد من يداهن السلطان فهناك من يداهن الجمهور ويسعى لإرضائهم، ولا يتكلم إلا بما يطلبه المستمعون؛ حفاظًا على التفافهم حوله، وسعيًا في زيادة حبهم له، لا طمعًا في نقلهم عمّا هم فيه، وهذا شأنه كشأن الأول؛ فالمداهنة محرمة أيًا كان المداهَن، وليس التلطف حينها من التلطف الممدوح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس»(19).
وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء؛ فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خُلِقوا ليكونوا في الائتلاف كالجسد الواحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يصفوا له بعد دواءً.
***
____________
(1) أخرجه البخاري (6032).
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/ 528).
(3) فتح الباري، لابن حجر (10/ 454).
(4) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية (1/ 229).
(5) في ظلال القرآن (6/ 3659).
(6) الروح (1/ 231).
(7) روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن (1/ 404).
(8) فتح الباري (10/ 528).
(9) المصدر السابق (10/ 528-529).
(10) تفسير المنار (3/ 231).
(11) صيد الخاطر، ص513.
(12) الأخلاق والسير، ص61.
(13) عيون الأخبار، لابن قتيبة (3/ 22).
(14) عين الأدب والسياسة، وزين الحسب والرياسة، ص154.
(15) المصدر السابق، ص154.
(16) روضة العقلاء، لابن حبان (71-72).
(17) أدب الموعظة، ص30.
(18) سوء الخلق، ص161.
(19) أخرجه الترمذي (2414).