فن الحوار الناجح
حين يتبادل شخصان الكلام فيما بينهما، فقد يكون الكلام حديثًا عاديًا، لكن في بعض الحالات يكون الحديث، أو الكلام، أو تبادل الحوار، لغرض معيَّن معروف سلفًا، قد يراوح بين عرض وجهات نظر متباينة، أو محاولة كل من فريقي الحوار إقناع الفريق الآخر بأمر ما، أو الوصول إلى حل وسط بين موقفين، وفي هذا الإطار تدرج الأنواع التالية من تبادل الكلام:
• المناظرة: طرفان يعرض كل منهما وجهة نظره مع حججه في أمر ما، ويحاول إثبات صحة موقفه في هذا الأمر، وعدم صحة النظرة الأخرى.
• التفاوض: السعي، من خلال تبادل الحديث والأخذ والرد، إلى إحراز تسوية بين طرفين، بعد تنازل كل منهما، أو أحدهما، عن بعض آرائه، أو كلها.
• الإقناع: عرض أفكار على طرف آخر؛ لمحاولة كسب تأييده لهذه الأفكار، واصطفافه مع المحاور الآخر في موقف واحد، أو تليين موقفه من أجل شيء من التقارب.
لو استعدنا أي جانب من جوانب حياتنا والطريق الذي قادنا إليه، لوجدنا أن حوارًا ما في وقت ما كان مفصلًا في وصولنا إلى ما نحن عليه، فمن أبسط الشئون الأسرية في المنزل، مرورًا بحياتنا العملية والمهنية، وصولًا إلى القضايا العامة، وحتى ما هو على مستوى الأوطان والعالم، نرى أن الحوار فعل دائم الحضور، سواء أكان للإقناع أو للاقتناع أو للاستطلاع أو للبحث عن حل أو اتخاذ قرار.
ومن هذا نستنتج أن الحوار بهذا المعنى هو عبارة عن نقاش؛ إما بين طرفين، أو عدة أطراف، ويهدف إلى الوصول إلى حقيقة، أو من أجل إقامة الحُجَّة على أحد الطرفين، وقد يُستخدم الحوار لدفع شبهة ما، أو تهمة وغيره.
وعلى الرغم من أننا جميعًا نعي أهمية الحوار عند إقدامنا عليه، فإن معظمنا يكتفي بالاتكال على ما يعتقد أنه (الحجة القوية)، ويفوتنا أن الحوار مهارة ذات مقومات عديدة، من دونها تضعف أقوى الحجج، لا؛ بل ليس من المبالغة القول أن حظوظ الحجة القوية، في أن تفرض نفسها، قد تنعدم وتنهزم أمام الحجة الخاطئة؛ إذا لم تعرض ولم يدافع صاحبها عنها بمهارة، ناهيك بأن الحجة القوية قد تصطدم بوجود حجة أقوى.
قال تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]؛ أي: فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث، مذكرًا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة: أنا أكثر منك مالًا، كما ترى من جناتي وزروعي المختلفة، وأعز عشيرة ورهطًا، تقوم بالذبّ عنى ودفع خصومتي، وتنفر معي عند الحاجة إلى ذلك(1).
فَخَرَ بكثرة ماله، وعزة أنصاره، من عبيد وخدم وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته(2).
وفي قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37]؛ أي قال له صاحبه المؤمن، واعظًا وزاجرًا عما هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثم يصير هذا الغذاء دمًا، يتحول بعضه إلى نطفة، يكون منها خلقك بشرًا سويًا، على أتم حال وأحكمه، بحسب ما تقتضيه الحكمة، فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى(3).
وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابًا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينًا، فوليدًا، فطفلًا، فرجلًا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيهًا وعجبًا، في هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال، وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه، ثم، وبسرعة خاطفة أيضًا، يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها، فيقول: {لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}.
وفى هذا العرض يكشف المؤمن لصاحبه الموقف الذي كان جديرًا به أن يقفه، حين دخل جنّتيه، ورأى فيهما ما رأى من بديع صنع الله، وروعة قدرته، فيقول: «ما شاء الله»؛ أي: هذا ما شاءه الله وقدّره لي، ولو شاء غير هذا لكان، فسبحانه له الحمد والشكران(4).
وإذا كان الإسلام قد رفض المراء وتوعد الممارين فإنه أمر بالحوار سبيلًا للوصول إلى الحق وتبين الرأي السديد؛ لأن ذلك كما يقول الإمام الغزالي: تعاون على طلب الحق، وهو من الدين، شريطة أن يتحلى المتحاورون بما يلي:
1- ألا يشتغل به، وهو من فروض الكفايات، من لم يتفرغ من فروض الأعيان.
2- ألا يرى المناظر (أو المحاور) فرض كفاية آخر أهم منه في وقته ومكانه.
3- أن يكون المحاور أو المناظر يفتي برأيه لا بمذهب فلان أو فلان.
4- أن يكون الحوار أو المناظرة في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه.
5- أن تكون المناظرة (الحوار) في الخلوة أحب إليه وأهم من المحافل، وبين أظهر الأكابر والسلاطين؛ لأن في حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء، ويوجب الحرص على أن ينصر كل واحد نفسه محقًّا كان أو مبطلًا.
6- أن يكون الحوار في طلب الحق، وذلك كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يد من يعاونه.
7- أن يرى محاوره معينًا له لا خصمًا، وأن يشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق.
8- ألا يمنع مناظره أو محاوره من الانتقال من حجّة إلى حجة، ومن دليل إلى دليل، ومَن تفحَص مشاورات الصحابة رضوان الله عليهم ومفاوضات السلف وجدها من هذا الجنس؛ إذ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم وينظرون فيه.
9- ألَّا يناظر أو يحاور إلا من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم(5).
جاء ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وقال: «أيكم محمد؟»، فقال الصحابة: «هذا الرجل الأبيض المتكئ»، فقال: «يا ابن عبد المطلب»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتك»، قال: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك»، قال: «اسأل ما بدا لك»، قال: «يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك؟»، قال: «صدق»، قال: «فمن خلق السماء؟»، قال: «الله»، قال: «فمن خلق الأرض؟» قال: «الله»، قال: «فمن نصب هذه الجبال؟» قال: «الله»، قال: «فبالذي خلق السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، أألله أرسلك؟» قال: «نعم».
قال: «وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا»، قال: «صدق»، قال: «فبالذي أرسلك، أألله أمرك بهذا؟»، قال: «نعم».
قال: «وزعم رسولك أن علينا زكاةً في أموالنا»، قال: «صدق»، قال: «فبالذي أرسلك، أألله أمرك بهذا؟»، قال: «نعم».
قال: «وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا»، قال: «صدق»، قال: «فبالذي أرسلك، أألله أمرك بهذا؟»، وسأله عن الحج، فلما ولى قال: «والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن»(6).
قال صاحب التحرير: «هذا من حسن سؤال هذا الرجل، وملاحة سياقته وترتيبه، فإنه سأل أولًا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولًا؛ للتأكيد وتقرير الأمر، لا لافتقاره إليها، كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة»(7).
وفي حين أن مصطلح الاتصال يعني تبادل الأفكار والمعلومات بين طرفين أو أكثر، عن طريق وسائل الاتصال المختلفة؛ مثل الإشارة والكلام والقراءة والكتابة والمراسلة، فإن الحوار يدل على تفاعل لفظي بالدرجة الأولى، وغير لفظي بدرجة أقل، في إطار التواصل وتبادل المعرفة والخبرات بين المتحاورين؛ توخيًا للوصول إلى نتيجة معينة، كما يتميز الحوار بمحدودية الوقت المتاح للتفكير وتمحيص الأفكار وطرحها، عكس ما هو عليه الحال في المراسلة مثلًا، الأمر الذي يجعله يتميز بخصوصية معينة بين باقي أنماط الاتصال، فلا يكفي الأديب أن يكون بارعًا في كتابة الرسائل ليكون حكمًا محاورًا بارعًا.
فالاعتماد المفرط على القوة، والاتكال على عدم تكافؤ القدرات هو من أكثر الأخطاء شيوعًا لدى أغلب المتحاورين.
وفي هذا الإطار نتذكَّر قصة «الشمس والريح»، حيث راحت كل منهما تتباهى بقوتها، فتحدَّت إحداهما الأخرى في القدرة على إرغام رجل أن يخلع سترة كان يرتديها أو نزعها عنه، فنفخت الريح بكل قوتها حتى تحوَّلت إلى عاصفة هوجاء، دون أن تتمكن من نزع السترة عن الرجل.
أما الشمس فراحت ترسل مزيدًا من أشعتها ببطء وصمت، حتى أحس الرجل بالحر، وخلع سترته.
والعِبرة التي سلَّم بصحتها الجميع هي أن الاعتماد المفرط على القوة غير مضمون النتائج، فتقنية الحوار تولي الأناة والمرونة أهمية أكبر بكثير.
الإنصات فن:
الإنصات الفعال الذي يمكن اعتباره عن حق من أبرز مستلزمات المحاور الجيد، ويعود بالفائدة على صاحبه، والإنصات هو التركيز على ما يقوله المتحدث ذهنيًا وبدنيًا، والسعي إلى استيعاب كل ما هو وارد فيه، وبالعمق.
قلائل منا يعرفون أن الإنسان يقضي 40% من حياته في الإنصات! وهذا ما يستدعي وجوب تطوير فن الإنصات كمهارة قائمة بحد ذاتها، لاستفادة أفضل من كل هذا الوقت الطويل، بدلًا من أن يضيع إنصاتنا سدى بسبب عدم التركيز لحساب أمور أقل أهمية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ينصت الناس؟ ما دافعهم إلى قضاء وقتهم في الإنصات؟ يمكن القول: إنهم ينصتون لكي يتعلموا الجديد، وللتيقن من أمر ما، أو لكسب الاحترام وبناء العلاقات، فالإنصات فن لا يتقنه إلا من يرغب في الحصول على أفضل النتائج غالبًا، ويتطلب قدرة على التغلب على العادات السلبية؛ مثل الاستسلام للملل، أو المقاطعة، أو الإحساس بالمعرفة أكثر من المتحدث.
ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة، والطفيل بن عمرو، والغلام الذي جاء للنبي يستأذنه في الزنا.
درجات الحوار:
• التجاهل، وهو عدم الالتفات إلى المتحدث أو إلى حديثه؛ كالانشغال بأمر آخر، قد يكون هاتفًا أو مجلة أو مشهدًا من نافذة الغرفة، وما إلى هذا.
• التظاهر، وهو ليس تجاهلًا ظاهرًا، ولكنه ليس إنصاتًا صادقًا؛ بل تكلّفًا للإنصات، فيما الفكر والانتباه مركزان في أمر آخر، غير موضوع الحديث.
• الانتقاء، وهو التركيز على جانب معيَّن من الحديث، واختيار ما يهمنا ويخصنا منه، وإهمال ما بقي من عناصر الحديث، وكأن المنصت يبحث سلفًا عن أمر ما في كلام محدثه.
• الإنصات بانتباه، وهو الاستماع الواعي والكامل لما يقوله المتحدث، والتفهم التام لمضمون الكلام، دون الموافقة عليه بالضرورة.
• الإنصات المتفاعل، وهو لا يكتفي بالإنصات بانتباه؛ بل يتعداه إلى التفاعل مع المتحدث، ومحاولة معرفة سبب رأيه، لا سيما إذا كنا لا نوافقه في حديثه.
وهناك خطوات وأساليب لفظية يمكنها أن تجعلنا أكثر قبولًا لدى الآخر، وهي أمور تكاد لا تظهر في نهاية الأمر، ولا يلاحظها الطرف الآخر عادة، فيجب التركيز عليها بشكل متكرر لتحسين الأداء.
حوار الطرشان:
ومن أنواع تبادل الكلام ما يسمونه (حوار الطرشان)، وغالبًا ما يكون سببه عدم أهلية المتحاورين لإجراء حوار، أو شعور أحدهما، أو كليهما، بشكوك في نيات الفريق الآخر، أو سوء التقدير، أو التعقيد الشديد في العلاقة بين الطرفين. وتؤدي كل هذه العوامل إلى:
• التمسك المطلق بالرأي الشخصي.
• عدم سماع الرأي الآخر، والاكتفاء بتصنع الاستماع.
• عدم الاستعداد، منذ البداية، للأخذ والرد.
استراتيجية الحوار الناجح:
أما فيما يتعلق باستراتيجية الحوار الناجح فقد تم تلخيصها بعدد من النقاط، هي بالترتيب:
أولًا: تحديد الموضوع، ثم جني العسل دون كسر خلية النحل، ووضع الاهتمام بالناس قبل مواجهتهم، بحيث لا يسمح للموقف والحوار أن يكون أهم من العلاقة بين المتحاورين، وضرورة العثور على 1% من الأمور المتفق عليها، ومنحها كل الجهد لتكون منطلقًا لتوسعة دائرتها، وهذا ما يسهل الحوار ويجعله وديًا أكثر بمرور الوقت، وأخيرًا، ضرورة تواصل الفرد مع الآخرين بصفته واحدًا منهم.
ثانيًا: أخلاق المحاور الجيد:
وفي هذا الإطار ذُكرت جملة أمور يجب تلافيها خلال الحوار؛ وهي وإن بدت للبعض أنها ذات تأثير ثانوي، فإنها في الواقع ذات أثر كبير على حسن سير الحوار وضمان استمراريته، ومن هذه الأمور نذكر:
• عدم رفع الصوت؛ لأن تفسير الصوت المرتفع هو قلة احترام للطرف الآخر؛ مما سيفقد الحوار أي فائدة، إن لم يؤد إلى قطعه.
• عدم استخدام عبارات الإلزام، فالمحاور لا يُصدر أوامر.
• تجنب الشرب والأكل خلال الحوار إلا على مائدة الطعام.
• الامتناع عن التشكيك في نية المحاور، وعن شخصنة الموضوع.
• تجنب الانشغال عن المحاور بأي مؤثر خارجي؛ كتلقي مكالمة أو محادثة طرف آخر؛ لأن ذلك كفيل بأن يصل بالحوار إلى طريق مسدود.
لغة الجسد:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيناي في لغة العيون عيناك
تعبيرات الجسد مرتبطة بالموضوع الذي يتحدث عنه المحاور، بحيث يصبح الجسد مرآة صادقة للأحاسيس ليشعر بها جميع من يخاطبهم، وهذا ما يتضمن الظهور بمظهر الخبير الواثق أمام الجميع، فيكون هادئًا وطبيعيًا، بعيدًا عن التوتر الذي يعطي انطباعًا سلبيًا بأنه غير متمكن من الحوار، ولديه مشكلة، الأمر الذي ينعكس سلبًا على المناخ العام للحوار، فللغة الجسد دور كبير وخفي في إيصال أفكارنا وتقبلها؛ لأنها تنطق بالفعل بما يعبِّر عن حالنا عند الاسترسال في الحوار.
هناك دراسة علمية شهيرة كشفت أن الكلمات لا تؤثر إلا بنسبة لا تتجاوز 7 % فقط في الآخرين، أما لغة الجسد فتؤثر في الآخرين بنسبة 55 %، فيما ينال الصوت نسبة تصل إلى 38 %.
وهو ما يعني أن التأثير يخضع لعدة عوامل، ولا يعتمد فقط على الكلام، فالمتلقي لا يكون مركزًا فقط على ما يقال؛ بل يستخدم بقية حواسه لاستكمال انطباعه ورأيه، فطريقة اللبس وحركات الجسم كلها مؤثرة، ولن تكون معزولة في الحكم على المتحدث بالمجمل.
أما (المؤثرات غير اللفظية) فهو الاسم الذي تنضوي تحته ثلاثة مؤثرات فرعية أخرى، هي:
• إيماءات الوجه؛ حيث من المعلوم أن في الوجه نحو 140 عضلة تتحرَّك، معظمها دون وعي منا، ومفتاح استثمارها وحسن توظيفها في الحوار هو في استشعار المواقف، وتقمص الوضع المناسب.
• الاتصال البصري، مع الحرص على التواصل بالنظر إلى العينين، وتوزيع النظر بالتساوي.
• حركة اليدين، التي تساعد كثيرًا في تكوين انطباع إيجابي عن المحاور.
الحوار الناجح صناعة:
من هذا يمكننا أن نخلص إلى أن الحوار الناجح بات صناعة، وقوام هذه الصناعة هو اقتناع كل طرف بالجلوس إلى طاولة الحوار بصفته وسيلة للوصول إلى هدف مشترك بين الجميع، الأمر الذي يتطلب التغلب على معوقات قد تعترض الحوار قبل البدء به، توخيًا للوصول إلى مرحلة انطلاقه.
ثم تأتي مهمة الحفاظ على استمراريته حتى نهايته، الأمر الذي يفترض ضرورة استيعاب الآراء والمواقف المختلفة، لا إسكاتها عنوة، فالحوار الناجح لا يأتي بشكل مرتجل، ولا يمكن تسمية أي حوار بالناجح إلا إذا توافرت مقوماته، وباكتساب الأفراد قيمًا ومفاهيم صحيحة للحوار الناجح، يمكن الحديث عن تحسن المستوى العام للمجتمع، وانعكاسه بشكل مباشر عليه، وتحقيق بقية الطموحات التنموية وما يتبعها، وما هو مخطط له بشكل أسهل من السابق، وهو ما تفعله الدول المتقدمة، وتحرص على تنفيذه، ووضع الخطط له بواسطة مختصين بشكل يضمن أن تؤتي مفاهيم الحوار أكلها(8).
ضوابط الحوار:
لكل حوار ضوابط تحكم مساراته، وتوجه تلاقح الأفكار خلاله، وضوابط الحوار فضلًا عن كونها آدابًا وأخلاقًا هي جزء رئيس ومؤثر في فعالية أي عمل يُبْنى على الحوار؛ ذلك أن أي عمل في بدايته هو مشروع في محتوى بعض الكلمات والأفكار التي ينميها الحوار ويخصبها، ويبعث فيها روح العمل.
ولا شك أن ضوابط الحوار إنما تقوم على أصول سلفنا الصالح، أهل السنة والجماعة، في تمحيص الآراء المتباينة، وتجلية الإشكالات المتوقعة، دون تَحَول الحوار إلى مهاترات، يضيع معها الود لتحل محله الجفوة والقطيعة.
ومن هذه الضوابط:
1- السماع الكامل:
الحوار هو: فن السماع للآخر، وعدم الطمع في الكلام بدلًا منه؛ لأن هذا الطمع يزهدنا فيما يقوله مَن نتحاور معه، ويحرمنا من تَدبّر قوله الذي لا يتحقق إلا بالسماع الكامل لهذا القول حتى دُبرَه؛ أي: آخره.
كما أن السماع الكامل للآخر يُشْعره باهتمامنا بما يقول، وجديتنا في التحاور معه، وثقتنا في الوقت ذاته فيما عندنا.
إن السماع الكامل للآخر، وإعطاءه الفرصة حتى يُتم كلامه، مع استيضاح أي غموض فيما يعرضه من أفكار، إن كل ذلك لا بد أن يكون هو السمة المميزة لكل حواراتنا، فإذا تبين لنا خطأ الآخر، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ، مهما كان عناده وغلظته؛ فإن أشد الناس جفافًا في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين وأن يتأثر إزاء مستمع صبور عطوف، يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب(9).
2- تجريد الأفكار:
هدف الحوار هو الاستفادة من الأفكار وليس تدمير الأشخاص؛ ولذلك فإن من أهم ضوابط الحوارِ التركيزَ على فض الاشتباكات الفكرية، دون التعرض السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل، فلا خلاف مطلقًا بين أشخاص المتحاورين، وإنما بين أفكارهم، والفكرة الحسنة تُمْتدح، بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ تُرَاجع دون تسفيه قائلها أو التهكم منه، فالنظر دائمًا إلى الآخر من خلال ما قيل، لا مَن قال، مع احترام أهل العلم، وحفظ مكانتهم ومراتبهم، فلا نؤثمهم مطلقًا، ولا نعصمهم مطلقًا، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نُهْدرها كلها، وإنما ننتفع بأفكارهم ما دامت حقًا، ولا نعتقد فيهم العصمة من الخطأ، ونرى أن الآخر قد يمتلك الحق أو أنه يكون هو الراجح عنده، وأن ما عندنا يحتمل الخطأ أو أن يكون هو المرجوح.
ولا شك أن التحاور ضمن هذا المبدأ (مبدأ افتراض المخالفة) هو المدخل الذي يضع الآخر في أول الطريق الصحيح للتفكير؛ لأنه يرى أن من يحاوره يضع نفسه معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق؛ {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، هكذا في هدوء من يبتغي للآخر الإرشاد وليس الإفحام والإذلال، وفي ثقة مَن أخلص للحق المجرد فصح انقياده له، ولم يهتم بمن قاله من البشر، وإنما كان جُل اهتمامه بالقول في ذاته، وتمييز الحسن منه والأحسن، ثم اتباع الأحسن، فكان من أصحاب البشرى بالنجاح وتحقيق الأهداف في الدنيا، والنعيم في الآخرة؛ {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:17-18].
3- ترك المراء:
قد يُخْفِي الحوار في نفس من يمارسه حبًا خفيًا للتميز على الآخر، ولا يمكن اكتشاف هذه العورة النفسية إلا بأن يترك المحاور المراء والجدل، ويلتزم بيان الحق بالحجج والبراهين.
إن المراء يغلق باب الحوار ويلغيه؛ لأنه يدفع طرفي الحوار إلى التصور الخاطئ بأن حوارهما هو مباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتلًا أو مقتولًا، فلا يبحث كل منهما عن حقائق أو أدلة، وإنما يكون بحثه وجهده في محاولة إغراق الآخر في طوفان من الكلام، الذي يُضيع الوقت والجهد في غير فائدة، ويوغر الصدور، ويكرس الفرقة.
4- تغافر لا تنافر:
الحوار هو لون من ألوان التشاور حول بعض الموضوعات والأفكار، ومن ثَم فهو جلسة تناصح وتغافر وليس جلسة تصارع وتنافر، فمع قبول رأي الآخر أو رفضه تبقى طهارة القلب وصفاء السريرة نحوه، مع قبول معذرته والتغافر عن خطئه إن وقع؛ بل والحرص على أن يخرج الحق على لسانه.
إن من طلب الحق فأخطأه لا يمكن تسويته بمن طلب الباطل فأدركه، فطالب الحق وإن أخطأ نتجاوز عن خطئه، ونغفر له تجاوزه، وإن كان ثمة عتاب فبالمودة والإخاء والقول الحسن.
إن الحوار جلسة بدء علاقة يظللها الحب والتغافر، ولسان حال المتحاورين:
من اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا فلا كان ولا صار ولا قلتم ولا قلنا.
5- الصدق والوضوح:
الصدق، مع كونه ضابطًا من ضوابط الحوار، هو خلق نبيل، لا خيار للمسلم في التحلي به، والوضوح في الفكرة هو وسيلة قبولها من الطرف الآخر، والوضوح في المواقف له أكبر الأثر في تصفية القلوب وإعادة الود.
ومن هنا وجب علينا في كل حواراتنا أن نتجنب الكلمات الغامضة، التي تؤدي إلى سوء الفهم، ونتجنب أساليب المغالطات والدفاع عن الأوضاع الخاطئة، التي تؤدي إلى إثارة الحقد، وإيغار الصدور والقلوب، وذهاب الود بين طرفي الحوار، ومن ثم تكون النتيجة هي فشل الحوار في تحقيق أهدافه.
6- العلم والعدل:
الحوار الناجح هو حوار يضبط العلم مساره، ويوجه العدل موقف كل طرف فيه تجاه الآخر.
فأما العلم فإنه لا يستقيم حوار بدونه؛ بل في غيابه يصبح ضرر الحوار أكثر من نفعه؛ لأن جهود المتحاورين في هذه الحال تذهب سدى، وتضيع بلا ثمرة تذكر.
وأما العدل فهو الطريق إلى اعتدال أخلاق المتحاورين بين طرفي الإفراط والتفريط، وهو الحامل لهم على قبول الحق من الخصم؛ بل من العدو المبين.
إن طريق الوصول إلى الحق عبر الحوار هو الاتصاف بالعدل والعلم وحسن القصد، وأما الجهل والظلم وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة بين أهل المنهج الواحد؛ بل بين ذوي الرحم.
ولا تزال قلة الإنصاف قاطعةً بين الأنام وإن كانوا ذوي رحم.
7- التحاور العملي:
المتأمل في حواراتنا يجد أنها تحوي في أكثرها هوة كبيرة بين ما نتحاور له وما يترتب عليه من أعمال في الواقع، وهذه كارثة؛ لأن الحوار يجب أن يكون حول ما ينبني عليه عمل، وفيما ترجى من ورائه مصلحة أو منفعة، أما عدا ذلك فالخوض فيه خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي في الكتاب أو السنة أو عمل سلف الأمة(10).
إن تحاورنا يجب أن يكون هو الخطوة التمهيدية الأولى في طريق أعمالنا المشتركة التي نتعاون على إتمامها؛ ولذلك فإنه من الضروري أن نتعرف قبل التحاور على الأهداف العملية للحوار، ونتبين ما هي الدوّامات الفكرية الطارئة، والمنعطفات النظرية العارضة، التي قد تلفتنا عن أهدافنا العملية لتنحرف بحواراتنا إلى أمور نظرية شكلية، ليس لها أدنى تأثير في مسيرة العمل، ولا يترتب عليها إلا استنفاذ طاقاتنا في غير طائل وبغير ثمرة.
والحوار الناجح هو حوار يخلو من الإطالة الزائدة عن الحد، التي تُحَوّل الحوار إلى خطبة يتشدق فيها كل طرف من أطراف الحوار، ويتفاصح بكثرة الكلام؛ بل وغرابته أحيانًا.
إن الإطالة والتكرار والإسهاب، وهو ما نطلق عليه الحجة الأفقية، لا ينتج عنه إلا دفن الفكرة الرئيسة للحوار وسط هذا الكم الكبير من الكلام؛ ومن ثم عدم قدرة الآخر على اكتشاف ما نقصد، فضلًا عن فهمه وتدبره.
وإذن، فالمحاور العاقل هو من يحاول الوصول إلى هدف الحوار من أقرب طريق، ولا يضيع وقته ووقت الآخر في تكرار الكلام، والإسهاب في المقدمات التي لا فائدة فيها؛ بل يقتصر في الألفاظ والكلمات على قدر الحاجة، ويوضح فكرته بأقرب عبارة وأوجز لفظ، وهو ما نطلق عليه (الحجة الرأسية)؛ حيث يذكر المحاور فكرته الرئيسة، ثم ينتقل بعد ذلك لتدعيمها بالأدلة، في إجمال غير مخل، وتفصيل غير ممل.
إن القدرة على إدارة حديث ناجح مع الأخرين, والتواصل معهم بطريقة جيدة, هو أول خطوة من خطوات النجاح, والتي ترسم بخطوط عريضة ملامح شخصيتنا، والانطباع الحسن عنا لدى الأخرين, وهي ما تقدم تغطية جيدة للأهداف التي دفعتنا لإجراء هذا الحوار, وقد تخدمنا في الوصل إليها أكثر من العمل الفعلي, وفي نفس الوقت, فهي إن لم تكن بالمستوى المطلوب فستطفئ أي صورة مهما بلغت من التألق, وتحكم علينا بالفشل حتى قبل أن نبدأ(11).
***
________________
(1) تفسير المراغي (15/ 149).
(2) تفسير السعدي، ص477.
(3) تفسير المراغي (15/ 150).
(4) التفسير القرآني للقرآن (8/ 620-621).
(5) بتصرف واختصار من إحياء علوم الدين (1/ 44) وما بعدها.
(6) أخرجه مسلم (12).
(7) شرح النووي على مسلم (1/ 171).
(8) تقنية الحوار الناجح، مجلة القافلة.
(9) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ص92، بتصرف.
(10) لمحات في فن الحوار، مجلة البيان (العدد:87).
(11) القصور الإعلامي في العمل الإسلامي، مجلة البيان (ذو الحجة 1438ه).