logo

انحراف مفهوم العبادة


بتاريخ : السبت ، 8 رمضان ، 1443 الموافق 09 أبريل 2022
بقلم : تيار الاصلاح
انحراف مفهوم العبادة

العبادة تطلق على أمرين: على الفعل وعلى المفعول، فهي تطلق على الفعل الذي هو التعبد، فلو أن رجلًا رآك وأنت تقوم وتركع وتسجد، لقال: إنك تعبد الله عز وجل بهذه الحركات التي تؤديها، فهي هنا تطلق على الفعل، وهو التعبد نفسه، كما تطلق على المفعول، وهو الذي تقربت به إلى الله تعالى، وهو التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك.

وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.

وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.

وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها، كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]، وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] (1).

والعبادة ضرورة؛ لأنها غذاء للروح، فإذا حُرمت الروح غذاءها أصابها ما يصيب الجسد عند الجوع، فيتخبط ويصيبه الجزع والهلع والانحراف، ولذا يلجأ البعيدون عن الله تعالى إلى كل مسكر حتى ينسوا أنفسهم.

والعبادة ضرورة، فهي أداء للأمانة، وذلك بتنفيذ ما أمره الله به، ومن فعل ذلك أدى الله له الأمانة بالحفظ والتوفيق والخير، ومن أصلح فيما بينه وبين ربه، أصلح الله فيما بينه وبين زوجه وولده ودابته، ومن حفظ أمانة الله، حفظ الله أمانته.

وبما أن الحكمة من خلق الخلق عبادة الله تعالى وتقواه، فمن غير الممكن قصرها على ركعات خاشعة يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، ولا على أيام من العام معدودة يصومها العبد طاعة لله سبحانه، ولا على جزء من المال يدفعه زكاة ليطهِّر بها نفسه وماله، ولا على حج البيت الحرام عند الاستطاعة مرة في العمر، فإن هذه العبادات كلها مع جلالتها لا تستغرق من حياة العبد إلا جزءًا يسيرًا، فهل يُعقل أن يُترك أغلب ساعات عمره وأيام حياته، دون عبادة الله، والله جل وعلا إنما خلقه لها؟

إن قصر العبادة في الإسلام على مجرد الشعائر التعبدية، وحصرها في مجرد علاقة العبد بربه، وعدم تعميمها على سائر جوانب الحياة المختلفة، دعوى يدحضها القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].

وكما في توجيهه عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يُصرِّح بذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163].

وتكذِّبها إرشادات السنة المطهرَّة في سائر أمور الحياة، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه فيما صحَّ عنه: لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرِّك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علمًا (2).

إن القول بكون العبادة شاملة لجميع جوانب الحياة، قول معلوم من الدين بالضرورة، حتى شهد بها غير المسلمين، كما قال رجل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: علّمكم نبيكم حتى الخراءة – يعني: آداب قضاء الحاجة– قال سلمان: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (3).

إذن العبادة شاملة لجميع مناحي الحياة، وهي متعدّدة ومتنوعة، ومنها:

1– العبادة القلبية: وهي الأساس لما بعدها من أنواع؛ لأنه يترتب على الإخلال بها الدخول في الشرك الأكبر أو الأصغر، وسُمّيت قلبية؛ لأنها من قول القلب وعمله، وأعظم العبادات القلبية وأساسها: الاعتقاد بأن الله هو رب العالمين، الذي له الملك والخلق والأمر، والاعتقاد بأن له أسماء حسنى، وصفات حسنى، هي صفات كمال وجمال وجلال، والاعتقاد بأنه هو وحده سبحانه لا شريك له، الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، ومنها: الإخلاص والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والخشوع والخضوع والتوبة والإنابة وطهارة القلب، ونحو ذلك.

2– العبادات القولية: سمّيت بذلك؛ لأنها من قول اللسان ولفظه، وأعظمها النطق بكلمة التوحيد، ومنها: الذكر والدعاء والاستعاذة والبسملة والاستغفار، ونحو ذلك.

3– العبادات البدنية: سُمّيت بذلك؛ لأن العبد يؤديها ببدنه، ومن أعظمها: الصلوات، والصيام، والجهاد في سبيل الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى دين الله تعالى، والإحسان إلى الناس، والتحلّي بمكارم الأخلاق من كفٍّ للأذى، وبذلٍ للندى، والابتسامة، والبشاشة، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وإصلاح ذات البين، وعيادة المريض، وإماطة الأذى عن الطريق، والعمل من أجل كسب لقمة العيش، سواء بالتجارة أو الوظائف، ونحو ذلك، وهكذا عمل الإنسان بعامة، إذا كان في دائرة الشرع، وكل عمل اجتماعي نافع.

وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، يا رسول الله قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة» (4).

وفي حديث كعب بن عجرة قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ كان خرج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» (5).

4– العبادات المالية: وهي التي تعتمد على المال وحده، كالزكاة والصدقات.

5– العبادات البدنية المالية: وهي التي ترتكز على عمل البدن وبذل المال كالحج والعمرة والأضاحي (6).

وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هَوَت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي تعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلها، لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب، كما تنهش الفريسة الذئاب، ويعلم الإنسان في الوقت ذاته الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الصحوة الإسلامية وهي تجاهد لرفع هذا الغثاء من حضيضه الذي يعيش فيه، ليعود كما أراده الله أن يكون: {خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاس} [آل عمران: ۱۱۰].

مفهوم العبادة عند الرعيل الأول:

كان المفهوم الصحيح للعبادة في حس الأجيال الأولى أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما فهموا من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِیَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].

إن هذه الآية الكريمة كانت تمثل في حسهم معنى هائلًا جدًا، وعميقًا جدًا، وشاملًا لكل حياة الإنسان، فالقرآن نازل بلغتهم، وهم يفهمون إيحاءات تلك اللغة، ويدركون أسرار بلاغتها، فيدركون من معنى الآية أن غاية الوجود الإنساني كله محصورة في العبادة لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق، فالنفي والاستثناء هما أقوى صور الحصر والقصر في اللسان العربي، ومعناهما النفي البات من جهة والحصر الكامل من الجهة الأخرى: نفي أي غاية للوجود البشري غير عبادة الله، وحصر غاية هذا الوجود كله في عبادة الله.

وكانوا إلى جانب ذلك يحسون إحساسًا صادقًا بعظمة الله جل جلاله فيحسون تبعًا لذلك بما ينبغي للعبد -في مقام عبوديته– تجاه الله –في مقام ألوهيته– من إخلاص العبودية له، وإخلاص العبادة.. سواء.

ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها، كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للإسلام غريب عن الإسلام.

العبادة لا تنحصر في الشعائر التعبدية فقط:

كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة؟ وكم تستغرق من عمر الانسان؟ وبقية العمر، وبقية الطاقة، وبقية الوقت، أين تنفق وأين تذهب؟ تنفق في العبادة أم في غير العبادة؟ وإن كانت في غير العبادة فكيف تتحقق غاية الوجود الإنساني التي حصرتها الآية حصرًا كاملًا في عبادة الله؟ وكيف يجوز للإنسان –من عند نفسه– أن يجعل لوجوده –أو لجزء من وجوده– غاية لم يأذن بها الله؟

إن الإنسان لا يستطيع –مهما حاول– أن يقضي واجب العبادة المفروض عليه نحو الله من خلال الشعائر التعبدية وحدها، من صلاة وصيام وزكاة وحج..

لسنا ملائكة:

والملائكة –وحدهم فيما نعلم– هم ذلك الخلق النوراني الشفيف الذي يسبح الليل والنهار لا يفتر: {وَمَن عِندَهُۥ لَا یَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِۦ وَلَا یَستَحسِرُونَ (19) یُسَبِّحُونَ ٱلَّیلَ وَٱلنَّهَارَ لَا یَفتُرُونَ (20)} [الأنبياء: ۱۹– ۲۰]، وهم –وحدهم– الذين لا يعصون الله في أمر من الأمور: {لَّا یَعصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُم وَیَفعَلُونَ مَا یُؤمَرُونَ} [التحريم: 6].

أما الإنسان، ذلك الكائن المخلوق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، المشتمل –إلى جانب روحه الشفيفة– على جسد يكدح وينزع، ويأكل ويشرب، ويتعب وينام، وعقل يفكر في تدبير مطالب الحياة الحسية والمعنوية، ويسرح بخواطره في شتى المجالات، فإنه لا يستطيع أن يعبد الله على طريقة الملائكة التي تسبح الليل والنهار لا تفتر، ولا تنشغل عن التسبيح.

ولو شاء الله أن يكلف الإنسان العبادة على طريقة الملائكة لمنحه طاقة الملائكة في التسبيح الدائم بغير فتور، ولركبه منذ البدء تركيبًا آخر، لا يفتر ولا يكل ولا يمل، لأن الله من رحمته لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ويجعل العبادة المفروضة على كل كائن من خلقه متناسبة مع طبيعة ذلك الكائن، ومع حدود طاقاته..

والكون كله –بما فيه من كائنات– عابد لربه بأمر ربه فيما عدا العصاة من الجن والإنس، وكل على طريقته الخاصة كما هيأه الله: {وَإِن مِّن شَیءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفقَهُونَ تَسبِیحَهُم} [الإسراء: 44]، {أَلَم تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یَسجُدُ لَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِی ٱلأَرضِ وَٱلشَّمسُ وَٱلقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَاۤبُّ وَكَثِیر مِّنَ ٱلنَّاسِ..} [الحج: ۱۸]، {ثُمَّ ٱستَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ ٱئتِیَا طَوعًا أَو كَرهًا قَالَتَاۤ أَتَینَا طَاۤىِٕعِینَ} [فصلت: ۱۱].

ولكن الله سبحانه وتعالى قد شاء أن يخلق الإنسان على نمط متفرد بين جميع الكائنات، {ذَلِكَ عَـٰلِمُ ٱلغَیبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ (6) ٱلَّذِیۤ أَحسَنَ كُلَّ شَیءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلقَ ٱلإِنسَـٰنِ مِن طِین (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُۥ مِن سُلَـٰلَة مِّن مَّاۤء مَّهِین (8) ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمعَ وَٱلأَبصَـٰرَ وَٱلأَفـِٔدَةَۚ قَلِیلا مَّا تَشكُرُونَ (9)} [السجدة: 6- 9].

فعدد مواهبه، وعلمه من العلم ما يناسب المهمة التي خلقه من أجلها {وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِل فِی ٱلأَرضِ خَلِیفَة} [البقرة: ۳۰]، {وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسمَاۤءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].

وسخر له من الأدوات ما يعينه على هذا الأمر: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِی ٱلأَرضِ جَمِیعًا مِّنهُ} [الجاثية: ۱۳].

وهيأه من خلال ذلك كله لحمل الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض: {إِنَّا عَرَضنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرضِ وَٱلجِبَالِ فَأَبَینَ أَن یَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنسَـٰنُ} [الأحزاب: ۷۲].

ثم إن الله فرض عليه عبادة تناسب تكوينه وتناسب مهمته: تناسب طاقاته المتنوعة، والكبد الذي يعانيه، والكدح الذي يلازمه، وتناسب في الوقت ذاته مواهبه التي اُختص بها بين الكائنات، ومجالات نشاطه الواسعة، والأمانة التي يحملها.. عبادة لا تعنته في شيء، ولا تكلفه ما لا يطيق، وتتسع في الوقت ذاته حتى تشمل وجوده كله وعمره كله من لحظة التكليف إلى لحظة الموت، لا تند عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي، ولا لمحة ولا خاطر ولا لون من ألوان النشاط: {قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ (162) لَا شَرِیكَ لَهُ..} [الأنعام: 162– 163].

تلك هي العبادة التي كلف بها الإنسان، تشمل الصلاة والنسك –أي الشعائر التعبدية– وتشمل معها كل الحياة.. وكذلك فهم الجيل الأول رضوان الله عليهم معنى العبادة.

لم يحصروها قط في داخل الشعائر التعبدية، بحيث تصبح اللحظات التي يقومون فيها بأداء الشعائر التعبدية هي وحدها لحظات العبادة، وتكون بقية حياتهم خارج العبادة.

إنما كان في حسهم أن حياتهم كلها عبادة، وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة، يتزود الإنسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادة المطلوبة منه، ولذلك كانوا يحتفلون بها احتفالًا خاصًا، كما يحتفل المسافر بالزاد الذي يعينه على الطريق، وباللحظة التي يحصل فيها على الزاد، كانوا كما وصفهم ربهم: {یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم} [آل عمران: 191]، أي في جميع أحوالهم..

وكما قلنا في أكثر من موضع، لم يكن ذكرهم مجرد الذكر باللسان، ولا مجرد الذكر بالقلب، إنما كان إلى جانب هذا وذاك عملًا يؤدى بروح العبادة لله.

وأما الذكر على طريقة الخلوة التعبدية التي يغيب فيها الإنسان عن الواقع المحسوس، وينقطع عن الدنيا من أجل أن يخلو إلى ربه، فينقطع بذلك عن العمل في واقع الأرض؛ فهذا أيضًا لم يؤثر عن ذلك الجيل الفريد.

ولما هم بذلك قوم من المسلمين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (7).

شمولية العبادة:

إنما كانوا يقومون بالعبادة وهم يمارسون الحياة في شتى مجالاتها، وكانت عبادتهم الكبرى هي العمل في شتى مجالات الحياة، كانوا يذكرون الله فيسألون أنفسهم: هل هم في الموضع الذي يرضى الله عنه أم فيما يسخط الله؟ فإن كانوا في موضع الرضى حمدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه: {وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا فَـٰحِشَةً أَو ظَلَمُوۤا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا ٱللَّهَ فَٱستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن یَغفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَم یُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُم یَعلَمُونَ (135) أُولَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغفِرَة مِّن رَّبِّهِم وَجَنَّـٰت تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَنِعمَ أَجرُ ٱلعَـٰمِلِینَ (136)} [آل عمران: 135- 136].

وكانوا يذكرون الله فيسألون أنفسهم: ماذا يريد الله منا في هذه اللحظة؟ أي: ما التكليف المفروض علينا في هذه اللحظة؟ فإذا كان التكليف: {فَلیُقَـٰتِل فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یَشرُونَ ٱلحَیَوٰةَ ٱلدُّنیَا بِٱلآخِرَةِ} [النساء: 74]، كان ذكر الله مؤديًا إلى القيام بالجهاد في سبيل الله.

وإذا كان التكليف: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلمَعرُوفِ} [النساء: ۱۹]، كان ذكر الله مؤديًا إلى القيام بهذا الواجب الذي أمر به الله تجاه الزوجات.

وإذا كان التكليف: {قُوۤا أَنفُسَكُم وَأَهلِیكُم نَارًا} [التحريم: 6]، كان ذكر الله مؤديًا إلى القيام بتربية الأهل والأولاد على النهج الرباني الذي يضبط سلوكهم بالضوابط الربانية، ويوجه مشاعرهم وأفكارهم وأعمالهم إلى ما يرضي الله.

وإذا كان التكليف: {فَٱمشُوا فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِۦۖ وَإِلَیهِ ٱلنُّشُورُ} [الملك: 15]، كان مقتضى ذكر الله هو المشي في مناكب الأرض وابتغاء رزق الله في حدود الحلال الذي أحله الله، لأنه إليه النشور، فيحاسب الناس على ما اجترحوا في الحياة الدنيا.

{إِنَّ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفِ ٱلَّیلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّأُولِی ٱلأَلبَـٰبِ (190) ٱلَّذِینَ یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًا سُبحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (191) رَبَّنَاۤ إِنَّكَ مَن تُدخِلِ ٱلنَّارَ فَقَد أَخزَیتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِن أَنصَار(192) رَبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعنَا مُنَادِیًا یُنَادِی لِلإِیمَـٰنِ أَن ءَامِنُوا بِرَبِّكُم فَـَٔامَنَّا رَبَّنَا فَٱغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّر عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبرَارِ (193) رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخزِنَا یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخلِفُ ٱلمِیعَادَ (194) فَٱستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَىٰ بَعضُكُم مِّن بَعض فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا وَأُخرِجُوا مِن دِیَـٰرِهِم وَأُوذُوا فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَیِّـَٔاتِهِم وَلَأُدخِلَنَّهُم جَنَّـٰتٍ تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ ثَوَابًا مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسنُ ٱلثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 195-۱۹۰].

ودلالتها –كما أشرنا من قبل– أن الله سبحانه قد استجاب للتفكر والتدبر والدعاء والضراعة حين تحول هذا كله إلى عمل في واقع الحياة.

ومن مثل هذه التوجيهات المبثوثة في كتاب الله، ومن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم فهم المؤمنون من الجيل الأول والأجيال التالية له، أن العبادة المطلوبة لا تنحصر في الشعائر التعبدية، وأنها أوسع من ذلك وأشمل.

وفهموا أن الصلاة والنسك –أي الشعائر– إنما هي المنطلق الذي، ينطلق منه الإنسان ليقوم ببقية العبادة، التي تشمل الحياة كلها، بل الموت كذلك.

والموت في حد ذاته لا يمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال لأنه لا خيار للإنسان فيه، ولكن المقصود في قوله تعالى: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162- 163]، هو أن يموت الإنسان غير مشرك بالله، وذلك هو الحد الأدنى الذي يكون به الإنسان –في موته– عابدًا لله، أما الحد الأعلى فهو أن يكون موته استشهادًا في سبيل الله، وتلك قمة العبادة.

وبهذا النهج وحده.. أي بأداء تلك العبادة الشاملة المتكاملة، التي تشمل الحياة والموت، تتحقق غاية الوجود الإنساني، ويكون الإنسان قد قام –قدر جهده– بالعبادة المطلوبة تجاه الله.

تضييق مفهوم العبادة:

ولقد يبدو هذا المعنى غريبًا في حس «المسلم المعاصر»، أو معتسفًا، بعد إذ تعودنا منذ أجيال أن ننظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي كل العبادة المطلوبة من المسلم، وأنه إذا أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة، ولم يعد لأحد أن يطالبه بالمزيد.

ولكن مرجعنا في تحديد المفاهيم الإسلامية ينبغي أن يكون هو الكتاب والسنة، والصورة التطبيقية الصحيحة للكتاب والسنة كما مارسها الجيل الأول –رضوان الله عليهم– الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون قاطبة: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (8).

هذا هو المرجع.. وليس ما طرأ على المسلمين خلال مسيرتهم التاريخية الطويلة من قصور أو انحراف.

ووقوع القصور أو الانحراف خلال تلك المسيرة الطويلة أمر قد لا يستغرب من البشر من أبناء آدم: {وَلَقَد عَهِدنَاۤ إِلَىٰۤ ءَادَمَ مِن قَبلُ فَنَسِیَ وَلَم نَجِد لَهُۥ عَزمًا} [طه: 115].

ولكن العجب –في الغربة التي يعيشها الإسلام اليوم– أن تتبدل بالصورة الصحيحة صورة خاطئة، ثم نُصر على أنها هي الصورة الصحيحة؛ فإذا جاء أحد يعرض علينا الصورة الصحيحة كما هي في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، اتهمناه بالغلو، وامتنعنا عن التصحيح.

مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة:

إن المتأمل في حال المسلمين الأليم، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم: ليجد كثيرًا من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم الله عز وجل، فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة، وانحراف في عقيدة اليوم الآخر، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر، وانحراف.. وانحراف.. ولقد ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة وأفكارهم المنحرفة، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال المسلمة بدينها وعقيدتها، وعجز عند أكثر علماء الأمة عن تعليم الناس والوقوف في وجه هذا الغزو، فوافق الغزو قلبًا خاليًا فتمكنا.

من هنا سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة، فمن ذلك ما يلي :

1- الانحراف في تطبيق شرطي العبادة :

من مظاهر الانحراف في العبادة فهمًا وتطبيقًا ما هو منتشر بين أهل البدع والخرافة في القديم والحديث؛ من ترك لأحد شرطي العبادة أو كليهما واللذين لا تصح العبادة إلا بهما، ألا وهما: الإخلاص والمتابعة ...

المراد هنا: إيضاح الانحراف الذي يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق ولو كانوا أنبياء أو ملائكة أو أولياء، وهذا صرف للعبادة عن مستحقها، وحجتهم الداحضة عند ربهم: أنهم يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع، ولكنهم يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح، ونذر، وخوف، ورغبة...

وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله عز وجل، وهذا من أشد مظاهر الانحراف في العبادة؛ لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله عز وجل، الذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد وقبول العبادة..

أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة (وهو المتابعة) فينتج عنه انحرافات كثيرة في العبادة وتطبيقاتها، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن بها الله عز وجل، ولم يشرعها الرسول لأمته، وبخاصة بين المتصوفة الذين يعطون لمشائخهم حق التشريع، وبعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدرًا من مصادر الاستدلال، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار، كلها مبتدعة، سواء أكان ذلك في كيفيتها، أو كمها، أو هيئتها، أو طريقة أدائها، أو زمانها، أو مكانها، وهذه كلها مردودة على أصحابها، لأنها تشريع لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]، ولقوله: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (9).

2- الانحراف في مفهوم العبادة :

وهو النظر إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من: صلاة، وصيام، وحج، وذبح، وقراءة قرآن... فحسب، وأن ما سوى ذلك من معاملات، وأخلاقيات، ومباحات.. وغيرها، كل ذلك لا يدخل في العبادة .

نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين، سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي، الصائم، القارئ للقرآن، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ، أو يرابي، أو يظلم، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم، وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع، من سفور، أو زينة محرمة، أو اختلاط.. أو غيره.

وإذا نصح مثل هؤلاء الناس، قالوا: إنهم من المصلين العابدين، وقد انتهى وقت العبادة! وهكذا تنحرف الغايات، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله عز وجل، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك.

إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده، لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثًا، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله عز وجل، وهذا لا يرضاه الباري جل وعلا؛ ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات الباقية؟ هل تنفق في غير عبادة؟! كلا.. فإن الله سبحانه لا يرضى لعباده هذه الحال .

إذن: فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة؛ سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية، أو ما كان منه في المعاملات، أو ما كان منه في المباحات، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور العبادة لله عز وجل يصاحبه، فيراقب ربه في كل أعماله، وينوي بها التقرب إليه عز وجل والاستعانة بها على طاعته .

إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله حتى في مباحاته ولذاته عبدًا لله، مسلمًا وجهه لربه عز وجل، {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162- 163].

3- الانحراف في التطبيق :

وقد ترتب على ذلك الانحراف في مفهوم العبادة انحراف آخر في تطبيق العبادة، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها بحسب، هي الأخرى نالها ما نالها من الضعف والميل بها عن حقيقتها وغايتها، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية معروفة؛ فالانحراف في الفهم لا بد أن ينتج عنه انحراف في التطبيق، ويوضح الأستاذ محمد قطب وفقه الله هذا الانحراف، فيقول: حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة، وانحصرت العبادة كلها في هذا الأمر، كان حريًّا بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر، حتى يصبح المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت.. ولو كان أداءً آليًا بغير روح، أو أداء تقليديًّا يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله .

وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار .

4- الانحراف في مصدر التلقي :

ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطرًا وأسوأ أثرًا، حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصرًا على مستوى الفرد، بينما هذا الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النظم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين اليوم، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها، وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية، ولسان مقالهم أو حالهم يردد تلك المقولة الجاهلية، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام ويقولها العلمانيون في زماننا: ما للدين وحجاب المرأة وعملها؟ ما للدين والسياسة وموالاة الكفار ومحبتهم؟ ما للدين والاقتصاد؟ ما للدين والإعلام والتعليم؟....

إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب بعد أن دعاهم إلى التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان، قال الله عز وجل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]. إنهم يقولون: يا شعيب: ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية، وفي اتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون.

سبحان الله! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا، وما أشبه مقولتهم بمقولة العلمانيين المنافقين.

والحاصل مما سبق: إذا حصرت العبادة في الشعائر التعبدية فحسب، فما معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وما معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقد علق العلامة الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية، فيقول  فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله (10).

وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على قسمين :

- إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام، إذ لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من الغرب أو الشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء، فتمكنت منها، وهؤلاء وأمثالهم من الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم، وقد نرى بعضهم من المصلين، الصائمين، التالين للقرآن الكريم.

وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي، والرفق بهم حتى يفقهوا هذا الدين بمعناه الصحيح .

- والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام، ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم، وينطلقون بخبث وغرض سيء لإثارة الشبهات، وصرف المسلمين عن دينهم، وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم، وهؤلاء إن صلوا أو قاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة.

والحذر من هؤلاء يجب أن يكون على أشده، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعين، فهم من المنافقين الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التحريم: 9].

5- الانحراف في المفهوم والتطبيق :

ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عرف عن بعض غلاة المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول اليقين المطلق، هكذا زعموا، فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة إلى العبادة التي هي من منازل العامة!، أما الخاصة، ومن يسمونهم بالأبدال والأقطاب: فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات، نعوذ بالله من هذه الحال، ونبرأ إلى الله عز وجل من أهل الزندقة والإلحاد.

هذا... ومن شطحات الصوفية في مفهوم العبادة أيضًا: المقالة المشهورة عن بعضهم من أنهم لا يعبدون الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، وإنما حبًّا له وشوقًا إليه.

وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسؤالهم الله عز وجل جنته وتعوذهم به من النار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في معرض رده على هذه المقالة: كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، عن أبي صالح، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: «كيف تقول في الصلاة»، قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حولها ندندن» (11)، (12).

وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري (أي خارجي)؛ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد (13).

إذن: فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة والخضوع، كما سبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها (14).

إن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات، وأنها لا تنتهي بذات نفسها، أي بمجرد أدائها، إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات، هي التي تعطيها معناها الحقيقي، ومهمتها الحقيقية في حياة الأمة المسلمة.

فلا إله إلا الله تبدأ بنطقها، ولكن نطقها وحده لا يحقِّق التوحيد، الذي هو حقيقة الإسلام، إلا أن يلتزم الإنسان التزامًا سلوكيًّا واقعيًّا بما لا بد من الالتزام به، وهو عدم الشرك في الاعتقاد، وتقديم الشعائر التعبدية لله وحده بلا شريك، وتحكيم شريعة الله في كل أمر من الأمور.

والصلاة تبدأ بأدائها -على الصورة التي بينها الله ورسوله- وتعطي مظهرية الإسلام بالأداء، ولكنها لا تُقبل عند الله حتى تؤدي مقتضاها من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وكذلك بقيَّة العبادات.

وفرق بين العبادة بالمفهوم الأول هو الذي أخرج خير أمة أخرجت للناس، والمفهوم الأخير هو الذي أخرج غثاء السيل.

ولا بد من تصحيح المفاهيم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

ولن يكون هناك سحر يمحو الضعف والتخلف في لحظات ويبدلهما تقدُّمًا وقوة، إنما هناك سنن ربانية تقوم عليها حياة الناس في الأرض، وحين نعمل حسب السنن الصحيحة يأتينا الحل الصحيح.

وليس من السنن الصحيحة أن نفسد ديننا ثم نقول: يا رب، يا رب، إنما قال تعالى عن الحياة الدنيا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

وقال عن الحياة الآخرة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123].

وواضح من الآيات أن طريق الفوز في الدنيا هو ذاته طريق الفوز في الآخرة بلا افتراق.

فالمستخلفون الممكَّنون في الدنيا هم: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات}، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فأولئك هم الفائزون في الآخرة.

ولا غرابة في ذلك في الدين الذي يجعل الدنيا مزرعة الآخرة، ويجعل إقامة حكم الله في الأرض، وتحقيق العدل الرباني، وطلب العلم، والمشي في مناكب الأرض سعيًا وراء الرزق، ومعاشرة الأهل بالمعروف، وإعداد العدة لأعداء الله، والتخلّق بالأخلاق الفاضلة، جزءًا من العبادة، مطلوبًا كالصلاة والزكاة والصيام والحج (15).

---------

(1) العبودية (ص: 44).

(2) أخرجه أحمد (21361).

(3) أخرجه مسلم (262).

(4) أخرجه أبو داود (4919).

(5) أخرجه الطبراني في الأوسط (6835).

(6) المفهوم الصحيح للعبادة/ شبكة المسلم.

(7) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).

(8) أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).

(9) أخرجه مسلم (1718).

(10) أضواء البيان (7/ 170).

(11) أخرجه أبو داود (792).

(12) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 221).

(13) التفسير القيم (ص: 260).

(14) المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحرافه وضعفه/ مجلة البيان، (العدد: 104).

(15) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح/ محمد قطب.