إنما يتقبل الله من المتقين
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]»(1).
المتقي، في اللغة، هو من اتقى شيئًا ما، والاشتقاق يحصل بفعل واحد، كما يسمى القاتل قاتلًا بقتل نفس واحدة، والعاصي عاصيًا بركوب معصية واحدة، فكذلك يسمى المؤمن متقيًا باتقاء أعظم الذنوب، وهي جميع ذنوب الكفر على أكثر صورها، لكنه يجمعها التكذيب بالله، أو شيء من كتبه، أو بأحد من رسله، أو الاستهانة بشيء من ذلك، فمتى وحد العبد ربه، وأخلص توحيده من النفاق، واتقى الكفر وجميع أنواعه، وأخلص في ذلك، فقد حصل في أدنى مراتب التقوى، بحيث تصح منه العبادة، ويرجى له قبولها، وأن يخرج من جملة من لا تصح له عبادة من أهل الكفر، وفيهم، إن شاء الله، يقول الله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، لإجماع المسلمين على خطاب صاحب الكبيرة بالعبادات ووجوبها عليه وصحتها منه، لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54] الآية، فهذا حصر لموانع القبول في الكفر، ولله الحمد(2).
وعن أبي الدرداء قال: «لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاةً واحدةً أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين}»(3).
وقال علي رضي الله عنه: «لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل»(4).
كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: «أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل»(5).
وسئل موسى بن أعين عن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين} فقال: «تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم متقين»(6).
ودخل سائل على ابن عمر رضي الله عنه فقال لابنه: «أعطه دينارًا»، فأعطاه، فلما انصرف قال ابنه: «تقبل الله منك يا أبتاه»، فقال: «لو علمت أن الله تقبل مني سجدةً واحدةً أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، تدري ممن يتقبل الله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين}»(7).
قال الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله تعالى: «من عمل الحسنة يحتاج إلى خوف أربعة أشياء:
أولها: خوف القبول؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
والثاني: خوف الرياء؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
والثالث: خوف التسليم والحفظ؛ لأن الله تعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، فاشترط المجيء بها إلى دار الآخرة.
والرابع: خوف الخذلان في الطاعة؛ لأنه لا يدري هل يوفق لها أم لا؛ لقول الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]»(8).
ومن العلماء من فسر التقوى في الآية باجتناب المحرم، سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن معنى (المتقين) في آية حصر القبول في المتقين، فقال: «يتقي الأشياء، فلا يقع فيما لا يحل له»(9).
ومن العلماء من يحمل الآية على الورع باجتناب المتشابه وبعض الحلال، وجعله برزخًا بينه وبين الحرام؛ كما جاء في الحديث الصحيح: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»(10).
سئل موسى بن أعين عن قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، قال: تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين(11).
ومن العلماء من يذكر مع اجتناب المحرمات الإخلاصَ والمتابعة؛ كما نقل ابن رجب عن ابن عجلان قوله: «العمل لا يصلح إلا بثلاث: التقوى لله عز وجل، والنية الحسنة، والإصابة»(12).
كل هذه المعاني المذكورة حول الآية صحيحة، والتقوى درجات، فمن حقق الإخلاص والمتابعة في عمله الصالح، واجتنب المحرمات كان من المتقين، وهو أحرى بالقبول ممن يقارف المحرمات، ومن ترقى إلى اجتناب المتشابهات كان ذلك أكثر لتقواه، وكان أقرب إلى القبول ممن يقع في المتشابهات.
لقد حمل الصالحون من المتقدمين والمتأخرين همَّ القبول أكثر من هم العمل؛ لأن العمل من كسبهم وسعيهم، ويقدرون عليه، ولكنهم لا يضمنون قبول العمل؛ فذلك إلى الله تعالى لا إليهم، وهو متعلق بإحسان العمل، من الإخلاص فيه، وصلاح القلب في أدائه، واجتناب أسباب الرد وعدم القبول، والقلوب تعيي من يعالجها، وإصلاحها أشد من أعمال الجوارح مهما كثرت؛ ولذا كان تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
قال مالك بن دينار: «الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل»(13).
البشر من آدم إلى يوم القيامة، على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم وأعراقهم وأجناسهم وألوانهم وخصائصهم ومذاهبهم وطوائفهم، هم في النهاية إما إنسان يشبه قابيل، أو إنسان يشبه هابيل، هابيل قدم قربانًا إلى الله من أفضل ماله، وقابيل قدم قربانًا من أسوأ أمواله، إنسان تقرب إلى الله بأطيب أعماله, وإنسان تقرب إلى الله بأسوأ أعماله، قابيل آثر شهوته على حكم الله، وهابيل آثر طاعة الله على حظه من الدنيا، ولن تجد في الأرض إلا أحد هذين النموذجين، هناك لله حكم، وهناك شهوة ومصالح وأهواء، فإذا آثرت حكم الله على مصالحك وعلى شهواتك وعلى أهوائك فأنت كهابيل؛ مؤمن راق, وأنت إذا آثرت مصالحك وشهواتك وأهواءك على حكم الله عز وجل فأنت كقابيل، ولن تجد في الأرض إنسانًا ثالثًا؛ قابيل أو هابيل(14).
وأما تقوى العامل فإن من رحمة الله تعالى بعباده أنه يعامل العامل منهم بحسناته وسيئاته، وإن لم يكن متقيًا في كل أحواله، ما دام أنه مؤمن لم ينقض إيمانه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:7-8].
بل من رحمة الله تعالى أن جعل الأعمال الصالحة مكفرات لما اقترفه العامل من السيئات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فإن نقض إيمانه فلا يقبل له عمل؛ لأن عمل الكافر والمنافق لا يقبل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]، وقال سبحانه في المنافقين {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54].
ومن أراد أن يحقق تمام القبول فعليه أن يحقق كمال التقوى في نفسه وفي عمله، ومن عجز عن ذلك، وكلنا كذلك، فليجتهد في تحصيل التقوى في نفسه، وتكميلها في عمله، بحيث يراقب الله تعالى في كل عمل صالح يعمله، ولا يكون في قلبه أثناء عمله سواه سبحانه.
وعلى العبد في كل عمل يعمله أن يدعو بالقبول، كما دعا إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت فقالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] ودعا الخليل عليه السلام بدعوات مباركات ختمها بقوله: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40]
والدعاء بقبول العمل سبب لقبوله، كما أن التوبة والاستغفار سببان للقبول؛ كما قال الله سبحانه فيمن استقام ودعا لنفسه ولوالديه ولذريته وأعلن توبته {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]؛ أي: هؤلاء المتصفون بهذا، التائبون إلى الله تعالى، المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل، ويتقبل منهم اليسير من العمل(15).
القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبل من المتقي لا من غيره.
والمؤمن حقًا هو من يعمل العمل ولا يغتر بعمله، وإنما ينظر إلى تقصيره، ويخاف ذنوبه، ويرجو رحمة ربه سبحانه وتعالى، ويلهج لسانه في نهاية كل موسم يسأل الله تعالى القبول؛ فإن كثير العمل لا ينفع مع الرد، وينفع قليله مع القبول، فسلوا الله تعالى القبول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وهذه الجملة العظيمة التي تتضمن اشتراط التقوى لقبول العمل هي من أول الجمل في التاريخ البشري، نقلت إلينا في القرآن الكريم في قصة أول دم سفك على الأرض، حين تقبل الله تعالى من أحد ابني آدم ولم يتقبل من الآخر {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وهي سنة ربانية في قبول الأعمال لكل البشر، وفي كل الأمم، وفي كل زمان ومكان؛ ولذا لم يقبل الله تعالى من الكافر عمله لفقدانه التقوى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]، وكان في الجاهلية رجال أجاويد، لهم من أعمال البر شيء كثير، لكنه لم ينفعهم بعد موتهم؛ لأنهم فاقدو التقوى بتركهم الإيمان.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: (يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟)، قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)»(16).
وكذلك عمل المنافق مردود غير مقبول؛ لأن قلبه فاسد بالنفاق، فلا محل فيه للتقوى؛ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات، وقال: «التقوى هاهنا»(17)، وفي رد عمل المنافق قول الله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53].
وكلما كان العبد أتقى لله تعالى كان أشد خشيةً وخوفًا من عدم قبول العمل؛ لعلمه بالله تعالى وما يجب له سبحانه؛ ولإزرائه على نفسه، ووقوعه على خباياها وعيوبها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون:57-61]، أولئك قوم عملوا الصالحات، وسارعوا في الخيرات، وهم يخافون الله تعالى، وما خوفهم إلا من الرد وعدم القبول(18).
قال الرازي: «وحقيقة التقوى أمور: أحدها: أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة، فيتقي بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير، وثانيها: أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى، وثالثها: أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائط»(19).
قال د. وهبة الزحيلي: «إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث: الإيمان الصحيح، والنية الطيبة الحسنة، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى»(20).
وقال أيضًا: «إن ميزان قبول الأعمال يعتمد على الصفات الأربع، وهي: الخوف من عذاب الله، والإيمان بآيات الله، وإخلاص العبادة لله ونفي الشرك الخفي، وأداء الواجبات مع الاجتهاد في إيفائها حقها»(21).
واعلم أن مبنى قبول العمل على ركنين: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، قال الفضيل بن عياض: «هو أخلصه وأصوبه»، قالوا: «يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟»، قال: «العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، الخالص ما كان لله، والصواب أن يكون على السنة»(22).
إن المقصود الأهم من النية تمييز العبادات من العادات، وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض؛ كالوضوء والغسل، يتردد بين التنظيف والتبرد والعبادة(23).
ويفترض في العبادة الحقة أن تحدث الأثر الذي من أجله شرعها الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فلا يكفي أن تكون العبادة صورًا وحركات تؤدى، على أنه ينبغي أن ننبه إلى أنه لا يجوز لأحد أن يتذرع لترك العبادة أنها لم تحدث الأثر الذي نص عليه في الكتاب والسنة؛ بل عليه أن يؤديها، ويحاول أن يرتقي؛ حتى تحدث الأثر المطلوب، وبعض الناس ينفرون من كلمة العبودية؛ إذ يشعرون أنها تعني تقييد حرية الإنسان والحد من كرامته، فنقول: إن العبادة هي الحرية الحقيقية؛ إذ يتحرر الإنسان بالعبادة من شهواته وأهوائه ونزوات نفسه، كما أن العبادة لله والانقياد له تعني أن تكون هناك حرية؛ لكن حرية مسئولة ضمن شرع الله، والضوابط التي تكفل السعادة والحياة السليمة، ثم إن الفطرة بطبعها تميل للخضوع للغير، فمن لم يخضع لله خضع لهواه أو لصنم بشري أو شيطاني آخر.
إن الضوابط الخلقية والقوانين الاجتماعية لا تنفي الحرية، وإنما هي أشبه بعلامات لتنظيم المرور وتحقيق العدل في إفساح المجال للحرية أمام الناس بالتساوي، والعبادة تكريم وتشريف؛ لذا نجد أن الحكمة الأساسية التي ذكرها القرآن لخلق الناس كانت العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وغاية الرسل جميعًا كانت تحقيق العبودية لله تعالى(24).
وإذا كان الأمر كذلك فما هي علامات قبول العمل؟
1- الوجل من عدم قبول العمل:
فالله غني عن طاعاتنا وعباداتنا، قال عز وجل: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، وقال تعالى: {إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات)»(25).
لقد سئل حاتم الأصم كيف يؤدي صلاته، فقال: «أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالسبيل والسنة, وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف أخاف ألا يُقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت»، قال: «تكلم فأنت تحسن تصلي»(26).
فعلى الرغم من حرصه على أداء هذه العبادات الجليلات فإنه لا يركن إلى جهده، ولا يدل بها على ربه؛ بل يزدري أعماله، ويظهر الافتقار التام لعفو الله ورحمته، ويمتلئ قلبه مهابة ووجلًا، يخشى أن ترد أعماله عليه، والعياذ بالله، ويرفع أكف الضراعة ملتجئًا إلى الله يسأله أن يتقبل منه.
2- التوفيق إلى أعمال صالحة بعدها:
إن علامة قبول الطاعة أن يوفق العبد لطاعة بعدها، وإن من علامات قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وفضله؛ أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له بابًا إلى حسنة أخرى؛ ليزيده منه قربًا.
فالعمل الصالح شجرة طيبة، تحتاج إلى سقاية ورعاية؛ حتى تنمو وتثبت، وتؤتي ثمارها، وإن أهم قضية نحتاجها أن نتعاهد أعمالنا الصالحة التي كنا نعملها، فنحافظ عليها، ونزيد عليها شيئًا فشيئًا، وهذه هي الاستقامة التي تقدم الحديث عنها.
3- استصغار العمل وعدم العجب والغرور به:
إن العبد المؤمن مهما عمل وقدم من أعمال صالحة فإن عمله كله لا يؤدي شكر نعمة من النعم التي في جسده، من سمع أو بصر أو نطق أو غيرها، ولا يقوم بشيء من حق الله تبارك وتعالى، فإن حقه فوق الوصف؛ ولذلك كان من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولا يرونها شيئًا؛ حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويكسلوا عن الأعمال الصالحة.
ومما يعين على استصغار العمل معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير، ولنتأمل كيف أن الله تعالى يوصي نبيه بذلك بعد أن أمره بأمور عظام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر:1-6]، فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري: «لا تمنن بعملك على ربك تستكثره»(27).
قال الإمام ابن القيم: «كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضًا بكرمه وجوده وتفضله»(28).
4- حب الطاعة وكراهية المعصية:
من علامات القبول، أن يحبب الله في قلبك الطاعة فتحبها وتأنس بها وتطمئن إليها، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ومن علامات القبول أن تكره المعصية والقرب منها، وتدعو الله أن يبعدك عنها قائلًا: اللهم حبب إلي الإيمان وزينه في قلبي، وكره إلي الكفر والفسوق والعصيان، واجعلني من الراشدين.
5- الرجاء وكثرة الدعاء:
إن الخوف من الله لا يكفي؛ إذ لا بد من نظيره وهو الرجاء؛ لأن الخوف بلا رجاء يسبب القنوط واليأس، والرجاء بلا خوف يسبب الأمن من مكر الله، وكلها أمور مذمومة تقدح في عقيدة الإنسان وعبادته.
ورجاء قبول العمل، مع الخوف من رده يورث الإنسان تواضعًا وخشوعًا لله تعالى، فيزيد إيمانه، وعندما يتحقق الرجاء فإن الإنسان يرفع يديه سائلًا الله قبول عمله؛ فإنه وحده القادر على ذلك، وهذا ما فعله أبونا إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، كما حكى الله عنهم في بنائهم الكعبة فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
6- حب الصالحين وبغض أهل المعاصي:
من علامات قبول الطاعة أن يحبب الله إلى قلبك الصالحين أهل الطاعة، ويبغض إلى قلبك الفاسدين أهل المعاصي، ولقد روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله»(29).
والواجب أن يكون حبنا وبغضنا، وعطاؤنا ومنعنا، وفعلنا وتركنا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، ممتثلين قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع الله، فقد استكمل الإيمان»(30).
7- كثرة الاستغفار:
المتأمل في كثير من العبادات والطاعات مطلوب أن يختمها العبد بالاستغفار، فإنه مهما حرص الإنسان على تكميل عمله فإنه لا بد من النقص والتقصير، فبعد أن يؤدي العبد مناسك الحج قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:199].
قال ابن القيم: «وقد قيل: علامة رضا الله عنك إعراضك عن نفسك، وعلامة قبول عملك احتقاره واستقلاله، وصغره في قلبك، حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثًا.
وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج، ومدحهم على الاستغفار عقيب قيام الليل، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الطهور التوبة والاستغفار.
فمن شهد واجب ربه ومقدار عمله، وعيب نفسه لم يجد بدًا من استغفار ربه منه، واحتقاره إياه واستصغاره»(31).
وأوصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وأمره أيضًا أن يختم حياته العامرة بعبادة الله والجهاد في سبيله بالاستغفار فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر:1-3].
8- المداومة على الأعمال الصالحة:
كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملًا أثبته»(32).
وأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»(33).
وبشرى لمن داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كتب له أجر ذلك العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»(34)، وهذا في حق من كان يعمل طاعة فحصل له ما يمنعه منها، وكانت نيته أن يداوم عليها، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه»(35).
9- تغير حال العبد للأفضل:
من علامات القبول أن يكون حال العبد بعد العمل أفضل من حاله قبله، قال الحسن البصرى: «إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية»(36).
وقال أيضًا: «يا ابن آدم، إن لم تكن في زيادة فأنت في نقصان».
ولهذا نعت الله الأنبياء بقوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه:83-84]، وقال عن زكريا وآله عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
ولما أنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة:90-91]، سكب من كان عنده خمر من الصحابة الخمرَ وقالوا: «انتهينا انتهينا».
وأما المنافقون فعكس ما سبق؛ حيث قال الله فيهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، فهم كسالى كره الله عملهم فحجب عنهم فضله.
ومن زاغ فإنما لزيغ عنده، والله لا يضل عبده ابتداءً، وإنما يضل من استحب العمى على الهدى، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]؛ أي : يصرف الله عن القرءان من صرف قلبه عنه وأعرض وتولى، قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا (62)} سامدون: معرضون لاهون.
10- عدم إتباع السيئة بالحسنة:
قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران:135-136]
وعن أبي ذر قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»(37).
وفي قصة استشهاد عكرمة بن أبي جهل ما يدل على ذلك: ففي يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ شديد الحر، ولما اشتد الكرب على المسلمين في أحد المواقف نزل من على جواده وكسر غمد سيفه وأوغل في صفوف الروم، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال: «لا تفعل يا عكرمة فإن قتلك سيكون شديدًا على المسلمين»، فقال: «إليك عني يا خالد، فلقد كان لك مع رسول الله سابقة، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول الله، فدعني أكفر عما سلف مني»، ثم قال: «لقد قاتلت رسول الله في مواطن كثيرة، وأفر من الروم اليوم! إن هذا لن يكون أبدًا».
ثم نادى في المسلمين: «من يبايع على الموت؟»، فبايعه عمه الحارث بن هشام بن المغيرة، وضرار بن الأزور في أربعمائة من المسلمين، فقاتلوا دون فسطاط خالد [أي مكان قيادة الجيش] أشد القتال، وذادوا عنه أكرم الذود حتى أثخنوا جميعًا جراحًا، وأوتي خالد بعكرمة جريحًا فوضع رأسه على فخذه، فجعل يمسح على وجهه ويقطر الماء في حلقه، ولقد أصيب عكرمة والحارث، فدعا الحارث بماء ليشربه، فلما قُدم له نظر إليه عكرمة فقال: «ادفعوه إليه»، فلما قربوه منه نظر إليه عباس، وكان قد أصيب معهم، فقال: «ادفعوه إليه»، فلما دنوا من عباس وجدوه قد قضى نحبه(38).
11- عدم الرجوع إلى الذنب:
قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل:92] فلا يعقب المرء الحسنات بالسيئات.
والعبد إذا كره الذنوب وكره العودة إليها فليعلم أنه مقبول، وآية ذلك أنه إذا تذكر الذنب حزن وندم وانعصر قلبه من الحسرة، وهذه هي التوبة النصوح التي يبدل الله سيئات صاحبها إلى حسنات.
وقال يحيى بن معاذ: «من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود»(39).
12- طهارة القلب:
ومن علامات القبول أن يتخلص القلب من أمراضه وأدرانه؛ فيعود إلى حب الله تعالى وتقديم مرضاته على مرضاة غيره، وإيثار أوامره على أوامر من سواه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يترك الحسد والبغضاء والكراهية، وأن يوقن أن الأمور كلها بيد الله تعالى فيطمئن ويرضى، ويوقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وبالجملة يرضى بالله وبقضائه ويحسن الظن بربه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
13- كثرة تذكر الآخرة:
ومن علامات القبول نظر القلب إلى الآخرة، وتذكر موقفه بين يدى الله تعالى وسؤاله إياه عما قدم، فيخاف من السؤال، فيحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة، ولقد سأل الفضيل بن عياض رجلًا يومًا وقال له: «كم مضى من عمرك؟» قال: «ستون سنة»، قال: «سبحان الله! منذ ستين سنة وأنت في طريقك إلى الله! أوشكت أن تصل، واعلم أنك مسئول فأعد للسؤال جوابًا»، فقال الرجل: «وماذا أصنع؟»، قال: «أحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، وإن أسأت فيما بقي أُخذت بما بقي وبما مضى»(40).
***
______________
(1) لطائف المعارف، لابن رجب، ص209.
(2) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (9/ 317)
(3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 56).
(4) الهداية الى بلوغ النهاية (10/ 6757).
(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 267).
(6) تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 363)
(7) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 57).
(8) تنبيه الغافلين، ص285.
(9) جامع العلوم والحكم (1/ 279).
(10) أخرجه مسلم (1599).
(11) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 57).
(12) قوت القلوب في معاملة المحبوب (2/ 264).
(13) تفسير ابن رجب (2/ 30).
(14) إقامة القرآن في حياتنا، موسوعة النابلسي.
(15) تفسير ابن كثير (7/ 259).
(16) أخرجه مسلم (214).
(17) أخرجه مسلم (2564).
(18) إنما يتقبل الله من المتقين، موقع: ملتقى الخطباء.
(19) مفاتيح الغيب (11/ 339).
(20) التفسير المنير، للزحيلي (15/ 48).
(21) المصدر السابق (18/ 67).
(22) تفسير النسفي (3/ 511).
(23) الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي (1/ 187).
(24) الأساس في السنة وفقهها- العبادات في الإسلام (1/ 14).
(25) مشكاة المصابيح (5350).
(26) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 74).
(27) تفسير ابن كثير (8/ 273).
(28) مدارج السالكين (2/ 439).
(29) أخرجه أحمد (18524).
(30) أخرجه أبو داود (4681).
(31) مدارج السالكين (2/ 62).
(32) أخرجه مسلم (746).
(33) أخرجه البخاري (6464).
(34) أخرجه البخاري (2996).
(35) أخرجه النسائي (1784).
(36) تفسير ابن كثير (2/ 128).
(37) أخرجه الترمذي (1987).
(38) علامات قبول الأعمال، موقع: نداء السماء.
(39) لطائف المعارف، لابن رجب، ص216.
(40) من علامات قبول العمل، موقع: ملتقى الخطباء.