logo

اليأس في حياة الداعية


بتاريخ : السبت ، 19 ربيع الأول ، 1444 الموافق 15 أكتوبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
اليأس في حياة الداعية

اليأس هو: القنوط وانقطاع الأمل، وإحباط يصيب الروح والعقل معًا، فيفقد الإنسان الأمل في إمكانية تغير الأحوال والأوضاع والأمور من حوله، وقد قال الله عز وجل في محكم التنـزيل واصفًا الإنسان: {وَلَئِن أَذَقنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحمَةً ثُمَّ نَزَعنَاهَا مِنهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} [هود: 9].

إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر، الذي يعيش في لحظته الحاضرة، ويطغى عليه ما يلابسه فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي، فهو يؤوس من الخير، كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه، مع أنها كانت هبة من الله له، وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء، لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه ولا يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابًا (1).

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.

في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملًا حاسمًا فاصلًا: {جَاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.

تلك سنة الله في الدعوات، لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرًا ماحقًا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.

ذلك كي لا يكون النصر رخيصًا فتكون الدعوات هزلًا، فلو كان النصر رخيصًا لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئًا، أو تكلفه القليل، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثًا ولا لعبًا، فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء، والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.

إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحًا معينًا محددًا في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحًا وأيسر حصيلة.

والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل؛ إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود؛ ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات.

ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضًا، وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا، وأن عدد هذه الصفوة يكون دائمًا قليلًا جدًا (2).

والداعية بشر يتعرض في حياته لعقبات، وأحيانًا نكبات، فتميل النفس للراحة والقعود، ويكون الحزن هو المسيطر على العقل والقلب، وهذه أمور عادية في دنيا الناس، فقد أصاب الحزن النبي الأكرم على عناد قومه لرسالته، وضاق صدره بكلامهم وسخريتهم، وهو داء لو تعلمون عظيم، نظرًا لخطورة دور كل صاحب فهم في بيان هذه الأمة، لكن أسباب اليأس تختلف عن بعضها البعض مع القدرة النفسية لكل داعية، وطرق مواجهتها.

ومن هذه الأسباب:

أولًا: العامل النفسي:

يبحر الداعية إلى الله تعالى في سفينة الدعوة فتقابله الأمواج والعواصف، وتعتريه حالات من الإقدام والإحجام، فيتعرض لمد يشد أزره ويقوي إصره، وأحيانًا يصيبه شيء من الإحباط والتخلف عن الركب، أو التأخر، والسبب إما عوامل نفسية داخلية (ذاتية) أو أحوال بيئية خارجية.

فالداعية أو صاحب الرسالة عمومًا هو رجل يتأثر بما حوله، يئن لظروفه وواقعه، تضعف نفسه أمام هذا الجرم والظلم والنكران الذي يراه كل ساعة في حياته، لذلك تحدث هزة نفسية طبيعية.

والحياة مليئة بالمشاغل والمهام وكثرة الأعباء وزيادة التكاليف، وكل هذا يؤثر على حياة الداعية.

والدعوة ضرورة لكسر الحواجز والعوائق التي تعيق الداعية عن الاستمرار في طريقه وخطه الدعوي، فضلًا عن أهمية تأصيل مبدأ استثمار الطاقات والقدرات وتطويرها داخل نفسية الداعية، وتعميق جانب صدق اللجوء إلى الله، والثقة به، والاعتماد عليه حتى يرى النصر المبين.

وهنا يبدو لنا سؤالًا مهمًا: هل للضغوط النفسية فوائد؟

الجواب: نعم، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقال جل جلاله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، فمن فوائدها:

- أنها تدفعنا لتطوير نظام وطريقة حياتنا بحيث تصبح أكثر تنظيمًا ودقة.

- تنمي روح التحدي والصمود داخل نفسية الداعية.

- تشعل شمعة الإبداع داخل عقلية الداعية بحرصه على ابتكار الحلول وتغيير الواقع الذي يعيشه.

- وجود الضغوط يعتبر مؤشرًا على ظهور خلل يحتاج إلى تعديل أو إزالة.

- تكون سببًا في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن خطوة ثابتة إلى خطوة أخرى إلى الأمام.

- قد تكون هذه الضغوط من الابتلاء؛ وإذا أحب الله عبدًا ابتلاه (3).

لكن يكمن العلاج في العودة السريعة واللجوء الأسرع لله تعالى، والدعاء وكثرة الذكر والاستغفار، فالأزمة النفسية ضيقٌ للصدر، ولا مفرج لهذا الضيق إلا اللجوء والدعاء لله تعالى، وقديمًا قالوا: الاستغفار يزيل الهموم والغموم.

ثانيًا: فلينظر الداعية من يخالل:

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان: 27- 30].

إن الصديق في حياة المرء إما أن يكون حاملًا للمسك، أو نافخًا للكير، وبينهما فوارق شاسعة، وقديمًا قال الكبار: الرفيق قبل الطريق، فلو صاحب الرجل رجلًا نشيط الهمة، قوي الإيمان، صادقًا في دعوته، فاهمًا لفكرته، يقينًا سيضفي على صاحبه فهمًا وهمةً ووعيًا.

أما إن كان العكس، فيقينًا لا ينتظر منه خير، فتتحول حياته لبؤس وحزن، وأنه لا أمل في الحياة، وأن الموت أرحم حتى بدون عمل، وما أتت هذه النظرة إلا بمصاحبته لمن يميلون للقعود والكسل، وانتظار السماء أن تمطر عليهم ذهبًا وفضة.

ثالثًا: نفاد رصيد الصبر:

إن الله خلقنا درجات، وفضّل بعضنا على بعض في الرزق والحياة، وأعطى بعض الناس ملكات، وآخرون أعطاهم إمكانيات، وكل فريق يعيش حياته وفق طاقته، لكن -أيضًا- البعض يعتقد أن الصبر ليس ملكةً أو طاقةً، وهو في الواقع نعمةٌ كبيرة، فالداعية الصابر المحتسب يقوي بنيان عقله، ويطيل الثبات لفهمه أنه ما أصابه لم يمكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ونحن بالطبع لا نؤسس لكربلائية، لكن نقول أنه ليس كل البشر متساوون في هذه الأمور، فالكثير ليس لديهم رصيد صبر، فتجده يجزع من أقل ابتلاء أو ضرر، وكأنه يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة.

رابعًا: تغير بوصلة القلب:

والتغير المقصود هو تحوّلها، فكما أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، كذلك فالميل للدنيا والرغد فيها، وتمني الحياة الكريمة بكافة الوسائل، دون النظر لحرمتها أو حلّها من المحاور التي تؤسس لإحداث حالة هم ويأس في حياة المسلم؛ لأنه إن نجح فقد انطفأ فهمه ورسالته، وإن فشل يظل يدندن بأمنيته، وفي وسط هذا ينسى الحل، والوسط أنه ربما أخر ربه عليه ما يحسبه خيرًا في الدنيا؛ لعظم مثوبته يوم القيامة، وهنا التفكير الأصوب، فليس كل محروم في الدنيا مغضوب عليه، وليس كل منعَّم من أهل الرضا، دون الخوض في أصول الربح والمال (4).

الوسائل المعينة على التخلص من اليأْس والقنوط:

1- الإيمان بأسماء الله وصفاته:

إنَّ العلم والإيمان بأسماء الله وصفاته، وخاصة التي تدلُّ على الرحمة، والمغفرة، والكرم، والجود، تجعل المسلم لا ييأس من رحمة الله وفضله، فـإذا علم العبد، وآمن بصفات الله من الرحمة، والرأفة، والتَّوْب، واللطف، والعفو، والمغفرة، والستر، وإجابة الدعاء؛ فإنه كلما وقع في ذنب؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه، وطمع فيما عند الله من سترٍ ولطفٍ بعباده المؤمنين، فأكسبه هذا رجعة وأوبة إلى الله كلما أذنب، ولا يجد اليأْس إلى قلبه سبيلًا، كيف ييأس من يؤمن بصفات الصبر، والحلم؟! كيف ييأس من رحمة الله من علم أنَّ الله يتصف بصفة الكرم، والجود، والعطاء (5).

2- حسن الظن بالله ورجاء رحمته:

قال السفاريني: حال السلف رجاء بلا إهمال، وخوف بلا قنوط، ولا بد من حسن الظن بالله تعالى (6).

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول» (7).

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» (8).

3- تعلق القلب بالله والثقة به:

لا بد على المرء أن يعلق قلبه بالله، ويجعل الثقة به سبحانه وتعالى في كل أحواله ولا يليق بالمسلم أن ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته، ولا يكون نظره مقصورًا على الأمور المادية والأسباب الظاهرة، بل يكون متلفتًا في قلبه في كل وقت إلى مسبب الأسباب، إلى الكريم الوهاب، متحريًا للفَرَج، واثقًا بأن الله سيجعل بعد العسر يسرًا، ومن هنا ينبعث للقيام بما يقدر عليه من النصح والإرشاد والدعوة، ويقنع باليسير إذا لم يمكن الكثير، وبزوال بعض الشر وتخفيفه إذا تعذر غير ذلك (9).

4- أن يكون العبد بين الخوف والرجاء:

قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]

قال السفاريني: نص الإمام أحمد رضي الله عنه: ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدًا، فأيهما غلب صاحبه هلك، وهذا هو العدل، ولهذا من غلب عليه حال الخوف أوقعه في نوع من اليأْس والقنوط، إمًا في نفسه، وإمًا في أمور الناس، ومن غلب عليه حال الرجاء بلا خوف أوقعه في نوع من الأمن لمكر الله، إمَّا في نفسه، وإمَّا في الناس (10).

5- الإيمان بالقضاء والقدر:

إذا علم المرء وأيقن أنَّ كل ما حصل له هو بقضاء الله وقدره استراح قلبه، ولم ييأس لفوات شيء كان يرجوه، أو لوقوع أمر كان يحذر منه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]

وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]

قال ابن القيم: إذا جرى على العبد مقدور يكرهه، فله فيه ستة مشاهد:

أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.

الثاني: مشهد العدل، وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه.

الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبه، لغضبه، وانتقامه ورحمته حشوه.

الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك لم يقدره سدًى، ولا قضاه عبثًا.

الخامس: مشهد الحمد، وأنَّ له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.

السادس: مشهد العبودية، وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية، فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه (11).

6- الصبر عند حدوث البلاء:

وذلك أن الله سبحانه ذم اليائسين من رحمته عند حصول البلاء، واستثنى من الذم الصابرين على البلاء، وجعل لهم الثواب العظيم.

فقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (9) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (10)} [هود: 9-10]

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت بسبب البلاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» (12).

7- الدعاء مع الإيقان بالإجابة:

قال تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام لما عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان، وانقطاع الأمل، وحصول اليأْس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» (13).

قال القرطبي: -ينبغي- استدامة الدعاء وترك اليأْس من الإجابة، وداوم رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء، فإن الله يحب الملحِّين في الدعاء (14).

والمرء مع إلحاحه في الدعاء عليه أن يوقن بأن «النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (15).

8- الأخذ بالأسباب:

يظهر لنا جليًّا في قصة يوسف عليه السلام أهمية الأخذ بالأسباب، وترك الاستسلام لليأس، فقد قال نبي الله يعقوب عليه السلام لأولاده لما أبلغوه فقد ابنه الثاني: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

قال السعدي: ورد النهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء، فإن في تمني الموت لذلك مفاسد.

منها: أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل، ويوقع في اليأْس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به، وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه، فيجعل العبد الأمر مفوضًا إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه (16).

9- الزهد في الدنيا:

فمن أسباب اليأْس والقنوط الأساسية، تعلق القلب بالدنيا والفرح بأخذها، والحزن والتأسف على فواتها بكل ما فيها، من جاه، وسلطان، وزوجة، وأولاد، ومال، وعافية.. إلخ، فاعلم أنَّ الله سبحانه يعطي الدنيا لمن لا يحب ومن يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن أحب، وقد منع أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها، فخرج وما ملأ بطنه من خبز البر ثلاث أيام متواليات، وأنَّ المرء لن يأخذ أكثر مما قدر له فلا ييأس ولا يقنط لفوات شيء (17).

10- ختامًا، صدق التوكل على الله مع حسن العمل والفهم، فالمرء لن يخلّد في الدنيا حتى يحزن وييأس، فكلما شدّت الدنيا محنتها على العبد فهذا صلاح له؛ لأن الأمور تجري بمقادير، ويقين الله لا يحمل لنا إلا كل خير، وتذكر معي قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أَنْفسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

والخطاب هنا للعصاة، فالأمل في طاعة الله تعالى، والله وحده الذي بسجدة ودعوة صادقة يحوِّل حياة اليأس إلى بشريات، وما أعظم قول الإمام أحمد لما سُئِل ما بيننا وبين الجنة؟ فقال: دعوة صادقة من قلب صادق.

إذن، القلب هو الداء والدواء، فتحسسوا قلوبكم، وتطهروا من كل أعراض الدنيا، وأخلصوا تخلصوا.

هذا إن أردنا أن نطرد كل أشباح الحزن من حياتنا، حتى لا تقعدنا الهموم والمحن عن أداء رسالتنا، فلا زال المجتمع في حاجة لجهد كل صاحب فهم، وقلم صادق يبتغي النصح والخير والنجاة لكل العالمين (18).

________________

(1) في ظلال القرآن (4/ 1860).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2035- 2036).

(3) الضغوط النفسية في حياة الداعية/ موقع مداد.

(4) اليأس في حياة الداعية الأسباب والعلاج/ موقع بصائر.

(5) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة (1/ 36).

(6) غذاء الألباب (1/ 466).

(7) أخرجه مسلم (2675).

(8) أخرجه الترمذي (3540).

(9) الهمة العالية (1/ 50).

(10) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 462).

(11) الفوائد لابن القيم (ص: 32).

(12) أخرجه البخاري (6351)، ومسلم (2680).

(13) أخرجه مسلم (2735).

(14) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (7/ 63).

(15) أخرجه أحمد (2803).

(16) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 175).

(17) الوسائل المعينة على التخلص من اليأْس والقنوط/ الدرر السنية.

(18) اليأس في حياة الداعية الأسباب والعلاج/ موقع بصائر.