أزمة الخطاب الدعوي المعاصر
يعتبر الخطاب الدعوي ركيزة أساسية من ركائز المنهج الإسلامي، انطلاقًا مما ورد في القرآن الكريم الذي يؤكد فريضة الدعوة، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
في أزمنة الفتن وغربة الدين يكثر اختلاط المصالح بالمفاسد، فلا تكاد تتمحض مصلحة في كثير من المواقف؛ بل الاختلاط الذي ينشأ عنه الالتباس والإيهام، فهو بحق مزلة أقدام ومدحضة أفهام، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، ولا يخفى أن مرد الخطأ والصواب، في هذه الاجتهادات، إلى توفيق الله عز وجل للمباشرين لها، بحيث ينضبط الأمر في أيديهم على موازين الشريعة ومعاييرها ومقاصدها.
والأزمة التي لحقت بالأمة أصابت بنيانها من جوانبه المختلفة، وأصابت على وجه الخصوص جانبًا من الخطاب الدعوي، وإنّ تفحص هذا الأمر يحتاج إلى دراسة مستفيضة لواقع الخطاب الدعوي، ومدارسه، وإشكالياته المعاصرة مع الذات ومع الآخر، وإن الظرف الحضاري اليوم يستلزم النهوض بالخطاب الدعوي ليلحق بأدوات العصر.
يقول عمر عبيد حسنة :«وقد نكون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى القيام بالمراجعة للخطاب الإسلامي في الدعوة والإعلام، وخاصة في هذه المرحلة بالذات؛ حيث السقوط الحضاري للمقولات العالمية التي كانت تشكل أمل الفقراء»(1).
إن الواقع يُظهر خللًا لدى الخطاب الدعوي اليوم، يتمثل في أمور عديدة، أهمها:
1- عدم الاستفادة من العلوم المعاصرة التي تخصصت في دراسة اتجاهات الجماهير، وفن مخاطبة الجماهير، والعوامل المؤثرة في تشكيل الرأي العام.
2- غياب روح المبادرة: ذلك لأنهم تم برمجتهم ليكونوا فقط أتباعًا، فانخفض سقف عطائهم وطموحهم، بناءً على النظرة السلبية لقياداتهم إليهم.
فالشباب الصاعد يعاني من جفاف روحي، وخواء فكري، وسطحية معرفية، وهشاشة في العقيدة والانتماء, وغياب لمعاني القيم، والتي أضحى جلها عبارة عن شعارات جوفاء، لا أثر لها في صناعة الحياة، وصياغة الأهداف، وتشكيل الرأي، وتحرير الدافع.
3- الضعف الشديد لدى العديد من الخطباء في استغلال خطبة الجمعة في المحتوى، فيعتمد على الخطب المعلبة من الكتب والمواقع الإلكترونية؛ مما يجعلها قليلة التأثير لعدم ربطها بواقع الناس.
4- الانغلاق والجمود: فالانكفاء في الخطاب الدعوي حتى يصبح خطابًا حزبيًا للذات، بدلًا من أن يكون خطابًا مستوعبًا للأمة بكل أطيافها، مع الاستمرار في الاعتماد على الوسائل التقليدية في مخاطبة الناس بالدعوة، وعدم الاستفادة من الوسائل الحديثة، التي تمتاز بقوة التأثير أو سهولة الوصول إلى الجماهير؛ سواء الفضائيات، أو الإذاعات، أو الانترنت.
5- إهمال مصالح الجماهير، وحاجاتهم العملية، وهمومهم اليومية، والتركيز على القضايا النظرية، فالخطيب الناصح يحرص على ما ينتفع به السامعون، ويتتبع الأخبار، ويسأل عن واقع الناس، ويضمّن خطبته المعاني الرفيعة، والعبارات الفصيحة، ولا يتعرض لما لا أهمية له، ولا يندد بالأفراد، ولا يشهر الأسماء من الذين وقعوا في منكر أو مخالفة.
6- الاقتصار على خطاب الإقناع بالفكرة الشمولية، دون مراعاة التطور المعرفي والاعتقادي لدى جماهير الأمة؛ الذي يقتضي الانتقال إلى مرحلة الإقناع بالنظم التفصيلية.
7- إهمال الخطاب الدعوي للقضايا المعاصرة التي تشغل الرأي العام؛ مثل: الحريات، حقوق الإنسان، التنمية، البعد الإنساني في التشريع الإسلامي، حقوق الأقليات في الإسلام، وفي المقابل الاستغراق في الخطاب الوعظي والبياني، الذي يستعرض المقدرات اللغوية من الجناس والطباق والبديع، حتى يصبح كسجع الأعراب.
8- اختلاط الخطاب الدعوي وتلونه بأمزجة بعض الدعاة؛ من حدة في الطباع؛ وأعراف وعادات؛ مما أثر في صورة الإسلام على مستوى المعرفة والتطبيق أيضًا.
9- التطرف عند بعض الجماعات الذين يبحثون عن فقه تضييق الواسع، وفقه التعسير بدل التيسير، وفقه القضاة بدل فقه الدعاة؛ مما شوه صورة الإسلام وكان سببًا في الصدود عنه.
10- الاكتفاء باستصراخ الماضي، والتغني بقضايا بعيدة كل البعد عما يهتم به المسلم المعاصر.
11- ممارسة خطاب الاستعداء للآخرين(2).
وإذا كانت المصادر الثقافية المشبوهة تقدم أطروحاتها في أثواب براقة مغرية، وتسعى حثيثًا لمد الجسور مع المتلقي من خلال الصوت في الإذاعة، أو الصوت والصورة على الشاشة الفضية، والترحيب به صديقًا للبرامج التي تقدمها، فإن أسلوب الهجوم على المصلين، واتهامهم بالجملة، وتكرار قائمة المحرمات في كل مرة، دون رعاية لجانب التنافس مع الأطروحات الأخرى، لم يعد صالحًا.
وإن جوانب الإسلام المضيئة، وتشريعاته السمحة، وقدواته العملاقة لتمثل سِفْرًا ضخمًا لا ينضب، وتقديم الدين على أطباق من الألماس، وتحبيب الناس في تطبيقاته، بدلًا من تنفيرهم «بشروا ولا تنفروا»(3)، هو جزء من مسئولية صاحب الخطاب الدعوي.
وإذا كانت تلك المصادر تسعى إلى تطوير قدراتها الفنية؛ لتنافس مثيلاتها في اقتناص المتلقي، وتوجيهه حسب أهدافها المحددة، فإن ما يقوم به بعض المتصدرين للخطاب الدعوي، محاضرة أو درسًا أو خطبة أو مقالة، لا يُعِيرون قضية الإعداد أهمية قصوى، ولا يضعون في حسابهم أهمية تطوير اللغة والأداء، أو استخدام الوسائل المعاصرة، والتي أصبحت متيسرة إلى حد كبير.
إنهم لا يزالون يخاطبون الناس بأسلوب واحد، وبطريقة خطابية واحدة، لم يعد لها كبير أثر أمام سيل جارف من التأثير الخطير، والذي لم نعد نحتاج إلى أدلة لإثبات توقيعاته على سلوكيات بعض الناس؛ بل وللأسف حتى على معتقداتهم(4).
إن عددًا من الخطب والمحاضرات الشرعية ربما نجحت في إثارة المشاعر تجاه قضية معينة، سواء شعور النفور وحده، أو البغض وحده، ولكنها تفشل أحيانًا في رسم الطريق للعلاج، وكأنها بذلك تستجيب لما ترغب الجماهير في الاستماع إليه من كشف الجراح، وتعديد العيوب؛ لاستثارة الدموع والاسترجاع والحوقلات، لا في تحقيق هدف التشريع من الخطابة، من نشر ما ترى أن الجماهير محتاجة إليه؛ لإحداث التغيير في حياتها؛ لتحقيق معنى الاستقامة، «قل آمنت بالله ثم استقم»(5)، والذي بها يتربى المسلم على منهج الله؛ ليحقق سعادته الخالدة بعد لقاء ربه، وسعادته في الدنيا حين ينعم بجنة المجتمع المسلم، الذي يتعايش بالحب والتعاطف ومعنى السلام، الذي هو شعار أهل الإسلام.
فالتعبير عن الخطاب الدعوي يجب أن يكون أسلوبه عذبًا، وعباراته سلسلة، وكلماته رقيقة، مدعومة بالحجة الناصعة، والبرهان القوي، والدليل الواضح؛ لأن الدعوة الإسلامية في الخطاب تستبعد العنف والغلظة والإكراه، وتؤكد على الكلمة والمعالجة الموضوعية، وتشجع على الحوار الهادئ، والجدل المنطقي، والعرض المقنع الجذاب.
إن المنهج الإسلامي يصوغ الضوابط والأخلاقيات التي تحكم نشاط الخطاب الدعوي، ويأتي في مقدمتها: الالتزام بالصدق مع النفس ومع الآخرين، فلا يجيز الاجتهاد بغير معرفة، ولا الفتوى بغير علم، ويُحرِّم الغيبة والنميمة، كما يؤكد تحريم قذف المحصنات، واتهام الناس بالباطل، كما يستبعد النفاق، والمجاملة الممقوتة للأفراد أو السلطات، ويرفض المبالغة في القول، أو تجاوز الحقيقة، أو إخفاءها، أو التغاضي عنها.
نحن نريد خطابًا إسلاميًا يتحدث بكل لسان، ويغزو كل مكان، معه التحقيق والصورة والاستطلاع؛ ليفتح الشرق والغرب في عقر داره، ويكشف يده الملطخة بالدماء.
وبديهي أن تحقيق ما نتمناه ونرجوه يستدعى من العاملين في حقل الخطاب الدعوي الإسلامي ما يلى:
1- علماء يشرحون حقائق الإسلام، ويفندون ما يروج ضده من أباطيل.
2- استقلال لا يربط الدعاة بعجلات السلطة التنفيذية في بلادهم، فيتصرفون في شئون الدعوة بعيدًا عن شهوات الحكم وأهوائه.
3- إخلاص يُبعد الدعاة عن التجارة والجري وراء المجد الشخصي، والكسب المادي، وينأى بهم عن المراء والجدال وتمزيق وحدة المسلمين، والمطلوب الآن أن ينتفض الخطاب الإسلامي انتفاضة الحياة، ويشرع في خدمة الإسلام والمسلمين الخدمة الملائمة لهذا العصر(6).
إن وسائل الخطاب الدعوي ينبغي أن تتطور بتطور العلم التقني لتواكب متطلبات الأفراد، ولتتمكن من الوصول إلى قلوبهم؛ إذ الجمود على طريقة واحدة يؤدي إلى تأخير استجابة (المدعوين)، واتهام الإسلام بالقصور والجمود.
ولا يسوغ قصر الخطاب الدعوي على الشباب القريب من الدعاة، والمتعاطف مع الإسلام بطبعه، وبخاصة أن جل فصائل العمل الدعوي معتمدة بدرجة كبيرة على رموزها الكبيرة، وتعاني من نقص ملحوظ في القيادات المتوسطة؛ المؤهلة للقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم وبصيرة.
لقد اعتاد كثير من الدعاة على توجيه الخطاب الدعوي لرواد المساجد خاصة؛ وهذا حسن بلا شك، ولهم علينا حق كبير، ولكن شريحة كبيرة من فتيان الأمَّة وفتياتها ربما لم يسمعوا كثيرًا من برامجنا وأنشطتنا، فهل فكرنا في طرائق الوصول إليهم؟ وهل قدمنا البرامج الجادة التي تشبع احتياجاتهم؟
إن الوسائل المعتادة في الدعوة مهمة جدًا، لا يجوز أن نزدريها، أو نقلل من شأنها، ولكن هل فكرنا في وسائل أخرى تعطينا مزيدًا من الانتشار والوصول إلى كافة شرائح الأمة؟
قال علي رضي الله عنه: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله، ولم يَدَع القرآن رغبة إلى غيره»(7).
________________
(1) مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، عمر عبيد حسنة، ص47.
(2) معالم الخطاب الدعوي عند النبي صلى الله عليه وسلم، طالب حماد أبو شعر.
(3) رواه مسلم (1732).
(4) أزمة الخطاب الدعوي، موقع الدكتور خالد الحليبي.
(5) رواه أحمد (15416).
(6) ضوابط الخطاب الدعوي ورسالته، مجدي عبد الغفار حبيب.
(7) سنن الدارمي (305).